قافلة الصمود: تحدي الحصار البحري لغزة

قافلة الصمود: رحلة الإصرار العالمي نحو غزة


المقدمة:رحلة الأمل وسط الأمواج

في أعماق البحر المتوسط، حيث تتقاطع الأمواج بين قارات الشمال والجنوب، وتتداخل الأصوات بين صرخات الرياح وهمسات التاريخ، تبحر اليوم قافلة لا تشبه غيرها. إنها قافلة الصمود، أو كما يُعرفها العالم باسم "الأسطول العالمي للصمود" (Global Sumud Flotilla)، مبادرة مدنية دولية تجمع آلاف الناشطين من أكثر من 44 دولة، على متن أكثر من 50 سفينة مدنية، تحمل في أحشائها آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية: غذاء، أدوية، حليب أطفال، ومعدات طبية. هذه القافلة ليست مجرد أسطول بحري؛ إنها رمز للصمود الإنساني، للضمير العالمي الذي يرفض أن يشهد جريمة جماعية دون تدخل. انطلقت في أواخر أغسطس 2025 من موانئ برشلونة في إسبانيا، وجنوة وسيراقوزا في إيطاليا، مرورًا ببيزيرتي في تونس، وصولًا إلى سواحل اليونان، متجهة نحو غزة، تلك الشريحة الضيقة من الأرض التي أصبحت سجنًا مفتوحًا منذ 18 عامًا بسبب الحصار الإسرائيلي.غزة، التي يعيش فيها أكثر من مليوني نسمة، ليست مجرد بقعة جغرافية؛ إنها قصة حياة يومية مليئة بالمعاناة. منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، وهي اليوم في عامها الثالث، تحولت غزة إلى أكبر سجن جماعي في التاريخ الحديث، حيث يموت الأطفال جوعًا، والمرضى ينتظرون أدوية لا تأتي، والأمهات يدفنّ أبناءهن تحت أنقاض القذائف. الحصار البحري الإسرائيلي، الذي بدأ عام 2007، يمنع أي سفينة من الاقتراب، معتبرًا أي محاولة لكسره "عدوانًا". وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، أدى هذا الحصار إلى مجاعة رسمية في غزة، حيث يعاني 96% من السكان من نقص حاد في المياه النظيفة، وأكثر من 80% من نقص الغذاء. في هذا السياق، يأتي أسطول الصمود كصرخة احتجاج، ليس فقط لتوصيل المساعدات، بل لكسر الحصار نفسه، وإعادة فتح ممر إنساني بحري يضمن تدفق الإغاثة دون رقابة عسكرية.لكن هذه الرحلة لم تكن سهلة. منذ انطلاقها، واجهت القافلة هجمات متكررة، تهديدات، وتدخلات. في 24 سبتمبر 2025، تعرضت ست سفن لـ13 انفجارًا على الأقل في المياه الدولية قبالة جزيرة غافدوس اليونانية، حيث أسقطت طائرات مسيرة إسرائيلية (درويدز) قنابل صوتية وبصرية (فلاشبانغ) ومسحوقًا حارقًا، مما أدى إلى إصابات طفيفة وأضرار في السفن. هذا الهجوم الثالث في ثلاثة أسابيع، يُتهم به إسرائيل، التي نفت التورط مباشرة لكنها وصفت القافلة بـ"أسطول حماس"، وأكدت أنها ستتخذ "إجراءات ضرورية" لمنع الوصول. في هذه الأزمة، برز دور دول مثل إيطاليا وإسبانيا، اللتان أرسلتا سفنًا حربية لحماية القافلة، في خطوة نادرة تعكس تحولًا في المواقف الأوروبية. أما كولومبيا، فكانت جزءًا من بيان مشترك مع 15 دولة أخرى يطالب باحترام القانون الدولي. هذه التدخلات تحول القافلة من مبادرة مدنية إلى قضية دولية، تكشف عن تناقضات النظام العالمي، وتثير تساؤلات حول دور الدول في مواجهة الإبادة الجماعية.في هذا المقال، سنستعرض رحلة قافلة الصمود بالتفصيل، من جذورها التاريخية إلى تحدياتها الحالية، مرورًا بدور الدول الداعمة، وصولًا إلى دلالاتها على المستوى الإنساني والسياسي. سنرى كيف أصبحت هذه القافلة رمزًا للصمود الفلسطيني، وكيف تتحدى النظام الدولي الذي يدعم الحصار صمتًا أو مشاركة. إنها قصة ليست عن سفن فقط، بل عن أرواح ترفض الاستسلام، وشعوب تؤمن بأن الحق ينتصر مهما طال الزمن.العرض تاريخ القافلة من المقاومة البحريةقافلة الصمود ليست ولادة عفوية؛ إنها امتداد لتاريخ طويل من المحاولات الدولية لكسر الحصار عن غزة. منذ فرض الحصار في 2007، بعد سيطرة حماس على القطاع، شهد العالم 37 محاولة بحرية لتوصيل المساعدات، نجحت خمس فقط في الوصول إلى الشاطئ. الأبرز كانت أسطول الحرية عام 2010، الذي قُتل فيه 10 ناشطين، بما فيهم الأمريكي التركي فولكان دوغان البالغ 19 عامًا، على متن سفينة "مافي مرمارا" التركية. كان ذلك الهجوم، الذي أدانه العالم، نقطة تحول، حيث أدى إلى توتر في العلاقات التركية الإسرائيلية، وأثار دعاوى قضائية دولية. منذ ذلك الحين، تكررت المحاولات: في 2025، أُطلقت سفينة "مادلين" في يونيو، لكنها اعترضتها القوات الإسرائيلية على بعد 100 ميل بحري من غزة، في مياه دولية.في يوليو 2025، تجمعت منظمات مثل ائتلاف أسطول الحرية (Freedom Flotilla Coalition)، الحركة العالمية لغزة (Global Movement to Gaza)، قافلة الصمود المغاربية (Maghreb Sumud Flotilla)، وقافلة الصمود النوسانتارية (Sumud Nusantara) لتشكيل "الأسطول العالمي للصمود". الهدف المزدوج: توصيل 500 طن من المساعدات، ورفع الوعي بالإبادة الجماعية في غزة، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني حتى الآن، وتدمير 80% من البنية التحتية. شاركت فيها شخصيات بارزة مثل الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، في محاولتها الثانية، ونواب أوروبيون، وصحفيون، وأطباء. "الصمود"، كلمة عربية تعني الثبات والإصرار، أصبحت شعارًا يعبر عن رفض الاستسلام أمام الظلم.انطلقت القافلة في 31 أغسطس من برشلونة، وسط مظاهرات حاشدة بلغت آلاف المشاركين، رافعين لافتات "غزة لستِ وحدكِ". تأخرت بسبب عاصفة، لكنها وصلت تونس في 14 سبتمبر، حيث انضمت سفن تونسية، بما فيها سفينة تبرع بها تونسي. من هناك، توجهت نحو اليونان، حيث التقى الأسطول الإيطالي (18 سفينة من صقلية) بالإسباني والتونسي قرب مالطا في 19 سبتمبر، ليصبح العدد 50 سفينة. اليوم، 25 سبتمبر، تقترب من "المنطقة الحمراء"، 100 ميل بحري من غزة، حيث يتوقع المنظمون وصولها خلال أيام.التحديات والاعتداءات: مواجهة الإرهاب البحريلم تكن الرحلة خالية من الدماء والنار. منذ الإعلان عن القافلة، أطلقت إسرائيل حملة تشويه، وصفتها وزارة الشتات الإسرائيلية في 10 سبتمبر بـ"غطاء إرهابي لحماس والإخوان المسلمين". في 3 سبتمبر، طارت طائرة عسكرية إسرائيلية KC-130H من قاعدة نيفاتيم إلى صقلية، مما دفع نائبًا إيطاليًا إلى اتهامها بالتجسس. ثم جاءت الهجمات: في 9 سبتمبر، أُحرقت سفينة "ألما" قبالة تونس بقذائف، وفي 11 سبتمبر، تعرضت سفينتان أخريان لهجمات. الأخير، في 24 سبتمبر، كان الأشد: 12 درونًا أسقطت 13 قنبلة صوتية، وأغلقت الاتصالات بموسيقى أغنية "ماما ميا" لفرقة أبابا، في عملية نفسية. قالت المنظمة: "هذه عمليات نفسية، لكننا لن نُرعب". أصيب بعض الركاب بجروح، وأُتلفت سفن، لكن الروح الإنسانية بقيت صامدة.هذه الهجمات ليست عشوائية؛ إنها جزء من استراتيجية إسرائيلية لفرض "الردع"، كما حدث في 2010. في 1 سبتمبر، قدم وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير خطة للحكومة لوقف القافلة، مهددًا باعتقال الركاب كـ"إرهابيين". اقترحت إسرائيل تسليم المساعدات عبر ميناء أشدود، لكن المنظمين رفضوا، معتبرين ذلك "تطبيعًا مع الحصار". في اليونان، أدت الهجمات إلى مظاهرات تضامنية، وفي إيطاليا، أضرب عمال الموانئ، مهددين بإغلاق الشحنات إلى إسرائيل. على منصة إكس، تصدرت هاشتاغات #قافلة_الصمود و#GlobalSumudFlotilla، مع فيديوهات للهجمات، ودعوات لدعم أكبر.التدخلات الدولية: إيطاليا وإسبانيا في الطليعةفي هذه الأزمة، برز دور إيطاليا وإسبانيا كحارسين للقانون الدولي. في 24 سبتمبر، أعلن وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروزيتو إدانة الهجوم، وإرسال فرقاطة "فيرجينيو فاسان" (Virginio Fasan)، متعددة المهام، للحماية والإنقاذ. "في الديمقراطية، يجب حماية الاحتجاجات السلمية"، قال. أرسلت إيطاليا سفينة ثانية في 25 سبتمبر، لكن رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، حليفة إسرائيل، حذرت الركاب من "المخاطر غير الضرورية"، مقترحة تسليم المساعدات عبر الكنيسة الكاثوليكية في قبرص. ميلوني قالت: "هذه المبادرات تبدو موجهة لإحراج الحكومة، لا لإغاثة غزة". رغم ذلك، شارك نواب إيطاليون في القافلة، ومظاهرات في روما بلغت عشرات الآلاف.أما إسبانيا، فأعلن رئيس الوزراء بيدرو سانشيز في 25 سبتمبر إرسال سفينة دورية "فورور" (Furor P-46) من قرطاجنة، لـ"ضمان إنقاذ مواطنينا إن لزم الأمر". "يجب احترام القانون الدولي"، أكد، مشيرًا إلى مشاركة 45 إسبانيًا. سانشيز، الذي زار غزة سابقًا، رأى في القافلة "تعبيرًا عن التضامن". هذه الخطوة غير المسبوقة، مع إيطاليا، تعكس ضغطًا شعبيًا أوروبيًا، حيث وقع الاتحاد الأوروبي بيانًا يدين الهجمات.بالنسبة لكولومبيا، لم ترسل سفينة حربية مباشرة، لكن الرئيس غوستافو بيترو، اليساري الداعم لفلسطين، وقع في 16 سبتمبر بيانًا مشتركًا مع 15 دولة (بما فيها إسبانيا، البرازيل، جنوب أفريقيا، تركيا، قطر) يعبر عن "القلق الشديد"، مطالبًا بـ"مساءلة" إسرائيل عن أي اعتداء. البيان: "أي عمل غير قانوني ضد السفن في المياه الدولية ينتهك القانون الدولي". كولومبيا، التي اعترفت بدولة فلسطين عام 2018، تركز على الدبلوماسية، لكن بيترو دعا في خطاب أممي إلى "جيش عالمي لنصرة فلسطين"، مما يعزز الضغط اللاتيني.هذه التدخلات ليست معزولة؛ إنها جزء من تحول أوروبي، حيث أدانت خبراء أمميون الهجمات، مطالبين بحماية القافلة كـ"نتيجة لفشل المجتمع الدولي". في 19 سبتمبر، تجمع 250 يهوديًا إسرائيليًا مضادًا للصهيونية قرب غزة لدعم القافلة.الدلالات الإنسانية والسياسية: صمود يغير الخريطةقافلة الصمود تفوق كونها حملة إغاثة؛ إنها ثورة إنسانية. على متن السفن، يعيش الركاب في ظروف قاسية: غرف ضيقة لـ24 شخصًا بدلًا من 12، طعام مقتصر، وتدريبات يومية على الإسعافات الأولى والدفاع غير العنيف. يصف الصحفي الكولومبي موريسيو موراليس يومًا عاديًا: "فطور بسيط، دروس تاريخ عن غزة، حراسة ليلية للكشف عن الدورنات". القلق يسيطر، لكن الأمل يغلب: "نحن هنا لأن العالم فشل في إيقاف الإبادة". غريتا ثونبرغ قالت: "هذه تكتيك إرهابي، لكن الصمود أقوى".سياسيًا، تكشف القافلة تناقضات النظام العالمي. الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل، فرضت عقوبات على ثونبرغ في يوليو، بينما الأمم المتحدة تؤكد المجاعة نتيجة "عرقلة إسرائيلية منهجية". القافلة تتحدى ذلك بـ"ممر إنساني بحري"، مما قد يفتح بابًا لقرارات أممية. في العالم العربي، أثارت حسدًا: مظاهرات في تونس والمغرب، لكن صمت الحكومات يبرز الفجوة بين الشعوب والقيادات. كتب ناشط مغربي: "أوروبيون يبحرون لإنقاذ إخواننا، ونحن نراقبون".القافلة أيضًا تحدي للإعلام: تغطية واسعة في الجزيرة وغارديان، لكن تجاهل في وسائل غربية. على إكس، ملايين التغريدات، مع فيديوهات حية، تحولها إلى حملة عالمية. خبراء مثل هيدي ماثيوز من جامعة يورك يؤكدون: "القافلة ليست محاولة لدخول إسرائيل، بل لتحدي الحصار غير القانوني".الخاتمةقافلة الصمود ليست نهاية؛ إنها بداية لعصر جديد من التضامن العالمي. في 25 سبتمبر 2025، وبينما تقترب السفن من شواطئ غزة تحت حماية إيطالية وإسبانية، ودعم دبلوماسي كولومبي، تثبت أن الإنسانية تفوق الحدود والأسلحة. هذه القافلة، التي واجهت النار والتهديدات، أعادت إلى الأذهان قصة موسى وابنيه، الذين شقا البحر ليمر الشعب. اليوم، يشق ناشطون الأمواج ليصل الغذاء إلى أطفال غزة، وليكسر الحصار الذي يخنق شعبًا بأكمله.لكن النجاح ليس مضمونًا؛ قد يأتي الاعتراض الإسرائيلي، أو يستمر الصمت العربي. ومع ذلك، فإن الرسالة واضحة: الصمود ليس كلمة، بل فعل. يجب على العالم، خاصة الدول العربية، أن يتعلم من هذه الرحلة: فتح الموانئ، الضغط الدبلوماسي، ودعم الشعوب. غزة تنتظر ليس فقط المساعدات، بل العدالة. وكما قالت المنظمة: "لن نُرعب، سنصل". في نهاية المطاف، الصمود العالمي هو الذي سينتصر، وسيبقى تاريخ هذه القافلة شاهداً على أن الإنسان، مهما كانت جنسيته، يمكن أن يغير العالم.
تعليقات