احتجاجات "لنغلق كل شيء": فرنسا على صفيح ساخن

من الغضب الرقمي إلى الشوارع: تفاصيل حركة "لنغلق كل شيء



احتجاجات حركة "لنغلق كل شيء": صرخة غضب شعبي في قلب أوروباالمقدمةفي يوم 10 سبتمبر 2025، استيقظت فرنسا على صوت هتافات الغضب الذي يتردد في شوارع باريس ومرسيليا وليون ومونبولييه، وكأن البلاد بأكملها قد قررت أن تقف أمام عاصفة من الاستياء المكبوت. كانت هذه الأصوات جزءًا من حركة احتجاجية جديدة حملت شعارًا بسيطًا لكنه مدويًا: "لنغلق كل شيء". ليست مجرد كلمات، بل دعوة لشل حركة الحياة اليومية، تعبيرًا عن رفض جذري للسياسات الاقتصادية التي يراها المحتجون مدمرة للحياة اليومية. هذه الحركة، التي انطلقت من منصات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، أعادت إلى الأذهان ذكريات احتجاجات "السترات الصفراء" في عام 2018، لكنها تختلف في سياقها السياسي والاقتصادي، حيث تأتي في أعقاب أزمة حكومية حادة أدت إلى سقوط حكومة فرانسوا بايرو وتعيين سيباستيان لوكورنو رئيسًا للوزراء الجديد.فرنسا، الدولة التي تُعرف بتراثها الثوري منذ الثورة الفرنسية في 1789، تبدو اليوم أمام تحدٍّ جديد يجمع بين الغضب الاقتصادي والاجتماعي. الشعار "لنغلق كل شيء" لم يكن مجرد هتاف، بل خطة عمل: إغلاق الطرق السريعة، تعطيل حركة المرور، إشعال حاويات القمامة، وتنظيم إضرابات عامة. وفقًا لوزارة الداخلية الفرنسية، شارك في هذه الاحتجاجات ما لا يقل عن 175 ألف شخص في 550 مظاهرة عبر البلاد، مع تسجيل 295 توقيفًا في اليوم الأول وحدها، أكثر من نصفها في باريس. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل دليل على عمق الأزمة التي تواجهها فرنسا، أكبر اقتصاد في أوروبا، حيث يصل معدل البطالة إلى 7.5%، ويشهد الدين العام ارتفاعًا بنسبة 112% من الناتج المحلي الإجمالي.في هذا المقال، سنستعرض جذور هذه الحركة، أهدافها، وتأثيرها على السياسة الفرنسية والأوروبية. سنغوص في تفاصيل الأحداث، مع تحليل السياق الاقتصادي والسياسي الذي أشعل الشرارة، ونختم برؤية للمستقبل. إن "لنغلق كل شيء" ليست مجرد احتجاجات، بل إشارة إلى أن الشعب الفرنسي، المعروف بصموده، قد بلغ حد الانهيار أمام سياسات يراها غير عادلة. وفي زمن يعاني فيه العالم من تداعيات الجائحة والحروب، تبرز هذه الحركة كمثال حي على كيفية تحول الغضب الرقمي إلى فعل ميداني.العرضجذور الحركة: من التواصل الاجتماعي إلى الشوارعبدأت حركة "لنغلق كل شيء" كدعوة رقمية بسيطة في مجموعات الدردشة المشفرة ومنصات مثل تويتر (إكس حاليًا) وتليغرام، حيث شكل نحو عشرين نشطاء مستقلين النواة الأولى. وفقًا لصحيفة "لو باريزيان"، كانت الحركة مستقلة عن الأحزاب السياسية والنقابات التقليدية، مما منحها طابعًا عفويًا يشبه حركة "السترات الصفراء". الشرارة الأولى أُشعلت في الصيف الماضي، مع تصاعد الاستياء من مشروع الموازنة العامة لعام 2026، الذي يتضمن تخفيضات قاسية في الإنفاق العام لمواجهة العجز المالي الذي يبلغ 6% من الناتج المحلي. هذا المشروع، الذي أدى إلى خلاف برلماني أسقط الحكومة السابقة، يشمل عدم رفع معاشات التقاعد، تحويل بعض الأعياد الرسمية إلى أيام عمل إضافية، وتقليص الدعم الاجتماعي، مما يُنظر إليه كضربة للطبقات الوسطى والدنيا.الدوافع الرئيسية متعددة، لكنها تتركز حول ثلاثة محاور رئيسية: الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية. اقتصاديًا، يعاني الفرنسيون من ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 15% منذ بداية الحرب في أوكرانيا، وانخفاض القدرة الشرائية بنسبة 4% في السنة الماضية. اجتماعيًا، يشكو العمال والمزارعون والطلاب من تفاقم التفاوت الطبقي، حيث يصل دخل الأغنياء إلى 10 أضعاف الفقراء. سياسيًا، يُتهم الرئيس إيمانويل ماكرون بـ"ازدراء الشعب"، كما يظهر في لافتات المحتجين التي تقول "سيعاقب الشعب على ازدرائكم". هذه الشعارات ليست مصادفة؛ إنها تعكس شعورًا بأن النظام السياسي "لم يعد مناسبًا للغرض"، كما قال أحد قادة الحركة.في اليوم الأول من الاحتجاجات، الأربعاء 10 سبتمبر، شهدت باريس أبرز المواجهات. تجمع آلاف في ساحة الجمهورية، حيث أشعلوا حاويات قمامة وأغلقوا شارع Rue de Paris، مما أدى إلى تعطيل حركة المرور لساعات. في مرسيليا، انطلقت مسيرة نحو مقر شركة CMA CGM العملاقة، رافعين شعارات ضد "الأرباح المفرطة للشركات الكبرى". وفي ليون ونانت، أبلغت شركة فينسي عن تعطيل طرق سريعة، بما في ذلك حريق كابل في تولوز أدى إلى إغلاق خط سكة حديد بين تولوز وأوش. كما توقعت المديرية العامة للطيران المدني اضطرابات في جميع المطارات الفرنسية، مما يعكس مدى الانتشار الجغرافي للحركة.المواجهات والرد الحكومي: بين القمع والحوارلم تكن الاحتجاجات سلمية تمامًا؛ فقد شهدت اشتباكات عنيفة مع قوات الأمن. أعلن وزير الداخلية برونو روتايو عن نشر 80 ألف شرطي، مع اعتقال 200 شخص في الساعات الأولى، ارتفع العدد إلى 295 بحلول الظهر، ووصل إلى 500 بحسب تقارير لاحقة. في باريس، اعتقلت الشرطة 75 شخصًا، بينما في بوردو حاول 50 متظاهرًا يرتدون أقنعة حصار المباني، لكن القوات منعت ذلك باستخدام الغاز المسيل للدموع. في مرسيليا، أدى تدخل قوات مكافحة الشغب إلى إصابة عشرات، مع إشعال حرائق في الشوارع.الحكومة الجديدة، برئاسة لوكورنو، واجهت التحدي مباشرة. في كلمته الأولى، تعهد لوكورنو بـ"نهج جديد" و"سبل أكثر ابتكارًا" للتعاون مع المعارضة، مشددًا على ضرورة تمرير ميزانية تخفض الديون دون إغراق الطبقات الشعبية. ومع ذلك، يرى المحتجون في تعيين لوكورنو، الذي كان وزيرًا للقوات المسلحة، امتدادًا لسياسات ماكرون الليبرالية. قال دانيال بيتوني، عضو نقابة في مرسيليا: "الغضب مستمر منذ سنوات، نحن في عهد الرئيس الوزير الخامس لماكرون، ولم يتغير شيء".على وسائل التواصل، انتشرت فيديوهات للمواجهات، مثل تلك التي نشرها حساب RT Arabic، تظهر إغلاق طرق وقطارات، مع هتافات "غضب شعبي" و"أزمة فرنسا". كما قارن نشطاء الحركة بـ"السترات الصفراء"، مشيرين إلى أنها أوسع نطاقًا، إذ شارك فيها عمال النقل، المزارعون، والطلاب، خلافًا للاحتجاجات السابقة التي ركزت على الوقود.التأثيرات: اقتصادية، اجتماعية، وسياسيةاقتصاديًا، أدت الاحتجاجات إلى خسائر فورية: تعطيل حركة المرور أدى إلى تأخير رحلات قطارات بنسبة 30%، وتوقفت بعض المطارات جزئيًا، مما يُقدر بمليارات اليورو يوميًا. اجتماعيًا، عززت الحركة الشعور بالتضامن، حيث انضم إليها نقابات مثل CGT، رافعين شعارات ضد "الرأسمالية المتوحشة". سياسيًا، وضعت ماكرون أمام اختبار صعب؛ ففي استطلاعات الرأي، انخفضت شعبيته إلى 25%، مع دعوات لانتخابات مبكرة.مقارنةً بـ"السترات الصفراء"، التي أدت إلى إصلاحات جزئية، قد تؤدي هذه الحركة إلى تعديل الميزانية، لكنها تكشف عن هشاشة النظام. في سياق أوروبي، تذكر باحتجاجات في بريطانيا وألمانيا، حيث يعاني الاتحاد الأوروبي من تضخم بنسبة 2.5%.الخاتمةاحتجاجات "لنغلق كل شيء" ليست مجرد حدث عابر، بل نقطة تحول في تاريخ فرنسا المعاصر. بدأت كصرخة رقمية، وتحولت إلى عاصفة ميدانية، تعكس غضبًا متراكمًا من سنوات من الإصلاحات الاقتصادية التي أثرت على الطبقات الشعبية. مع اعتقالات بلغت المئات، ومشاركة عشرات الآلاف، أثبتت الحركة أن الشعب الفرنسي قادر على تحدي النظام، لكن السؤال يبقى: هل ستؤدي إلى تغيير حقيقي، أم ستكون مجرد صفحة أخرى في سجل الاحتجاجات الفاشلة؟في النهاية، تذكرنا هذه الأحداث بأن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل حوار مستمر بين الحكومة والشعب. إذا استجابت الحكومة لوكورنو لنداءات الحوار، قد تنجو فرنسا من أزمة أعمق. وإلا، فإن "لنغلق كل شيء" قد يصبح شعارًا لثورة أكبر. الشعب الفرنسي، بتاريخه الثوري، لن يقبل أقل من العدالة.
تعليقات