مجزرة زناتة في المغرب : قتال بين قبائل المهاجرين الافارقة جنوب الصحراء

عنف زناتة بين المهاجرين الأفارقة… أزمة الهجرة تطرق أبواب المغرب بقوة

مقدمة

 في الأيام الأخيرة اهتز الرأي العام المغربي على وقع أحداث دامية وقعت في ضواحي المحمدية وتحديداً في منطقة جنان زناتة، حيث اندلعت مواجهات عنيفة بين مجموعات من المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء والمقيمين في تجمعات عشوائية على أطراف المدينة. هذه الأحداث لم تكن مجرد شجار عابر أو نزاع فردي بل أخذت طابعاً جماعياً منظماً استخدمت فيه الأسلحة البيضاء، من سكاكين وعصي وأدوات حادة، وانتهت بحصيلة ثقيلة هي مقتل شخصين وإصابة تسعة آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، مما استدعى تدخلاً واسعاً من قوات الدرك الملكي والسلطات المحلية لإعادة النظام. وما إن انقشع غبار الاشتباكات حتى انطلقت الأسئلة تتلاحق حول الأسباب التي دفعت هؤلاء الشباب إلى اقتتال دموي بينهم، وحول الخلفيات الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي جعلت من جنان زناتة ساحة مواجهة مفتوحة لمهاجرين لا تجمعهم سوى الغربة وضغط الظروف.

عرض

إن صورة المهاجر الإفريقي جنوب الصحراء في المغرب ليست وليدة اليوم، فقد عرف المغرب منذ عقدين تقريباً موجات متزايدة من تدفق المهاجرين غير النظاميين الباحثين عن فرصة لعبور المتوسط نحو أوروبا. لكن مع تشديد الرقابة الأوروبية وتفاقم السياسات الأمنية على الضفة الشمالية، تحول المغرب من مجرد نقطة عبور إلى بلد إقامة مؤقتة أو شبه دائمة لآلاف المهاجرين الذين تكدسوا في مخيمات عشوائية حول المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وطنجة والناظور، وفي الغابات المحاذية للحدود. هذا التحول فرض واقعا جديدا معقدا حيث تزايدت التحديات الأمنية والاجتماعية والإنسانية في التعامل مع هذه الفئات التي تعيش في وضع هش للغاية، بلا أوراق إقامة ولا فرص عمل قانونية ولا ضمانات اجتماعية، مما جعلهم عرضة للاستغلال والفقر والعنف.

في هذا السياق جاءت أحداث زناتة الأخيرة كأحد تجليات الضغط الهائل الذي يتعرض له المهاجرون، إذ أن الظروف غير الإنسانية التي يعيشونها في مخيمات عشوائية تفتقر لأبسط شروط الحياة تخلق حالة من الاحتقان النفسي والاجتماعي بينهم، وتجعل أي شرارة كفيلة بإشعال نزاع دموي. قد يكون السبب المباشر للشجار خلافاً فردياً بسيطاً حول مكان أو مورد أو حتى حادثة سرقة، لكنه سرعان ما يتضخم بفعل التوتر والاحتقان المستمر ويتحول إلى مواجهة بين مجموعات كاملة. بعض الروايات الشعبية ربطت بين ما وقع وبين الانتماءات القبلية للمهاجرين، معتبرة أن هناك خلافات بين أبناء قبائل أو جنسيات مختلفة انعكست في شكل صدامات، غير أن الوقائع الرسمية والتقارير الصحفية لم تؤكد وجود نزعة قبلية واضحة، بل أشارت إلى أنها مجرد مواجهات بين مجموعات عشوائية دون خلفية منظمة سوى الانفجار الغاضب للوضع.

ورغم ذلك فإن الحديث عن القبلية ليس بعيداً تماماً عن الواقع، إذ أن المهاجرين عندما يعيشون في ظروف قاسية بلا مؤسسات جامعة يلجؤون عادة إلى روابط الانتماء الضيقة كاللغة والعرق والقبيلة طلباً للحماية والتضامن. هذه البُنى التقليدية قد تتحول في لحظة أزمة إلى سبب في التفكك والصراع إذا دخلت في تنافس على الموارد الشحيحة أو مناطق النفوذ داخل المخيمات. وفي هذا السياق يمكن فهم كيف أن التوترات بين المهاجرين في زناتة قد اكتست طابعاً جماعياً ولم تبقَ في حدود الأفراد، لأن كل فرد يجد نفسه مدعوماً أو مدفوعاً من طرف جماعته الأصلية.

التدخل الأمني كان حاسماً في تهدئة الوضع، فقد هرعت قوات الدرك الملكي والقوات المساعدة والسلطات المحلية إلى عين المكان وأعادت السيطرة بعد ساعات من الفوضى، لكن المشهد ترك انطباعاً قوياً في ذاكرة السكان المحليين الذين عاشوا الرعب وشاهدوا الدماء تسيل في حيهم. وهذا جعل السلطات تذهب أبعد من مجرد التدخل الميداني، إذ قررت مباشرة بعد الأحداث تفكيك التجمع العشوائي للمهاجرين في جنان زناتة ومنع عودتهم إليه، في محاولة لقطع الطريق أمام تكرار السيناريو. غير أن هذه المقاربة الأمنية وإن كانت ضرورية لفرض النظام، فإنها لا تعالج الجذور العميقة للمشكلة بل قد تزيد من تفاقمها إذا لم ترافقها حلول إنسانية وتنموية تراعي الوضع الهش لهذه الفئات.

إن المهاجر الإفريقي في المغرب يجد نفسه في وضع مزدوج من الهشاشة، فمن جهة هو عالق في بلد لم يكن يقصده للاستقرار النهائي بل كان مجرد محطة عابرة نحو أوروبا، ومن جهة أخرى هو يفتقر إلى شروط الحياة الكريمة بسبب غياب العمل والسكن والوثائق. وهذا الوضع يضع السلطات المغربية في معادلة صعبة، فهي من جهة ملتزمة بتعهداتها الدولية في مجال حقوق الإنسان وحماية المهاجرين، ومن جهة أخرى تواجه ضغطاً شعبياً وأمنياً متزايداً يطالب بتنظيم الوجود الأجنبي ومنع الفوضى. بين هذين البعدين تسير سياسات الدولة على حافة التوازن، فتارة تعتمد مقاربة الإدماج عبر تسوية أوضاع الآلاف من المهاجرين، وتارة أخرى تلجأ إلى الحملات الأمنية لترحيلهم أو تفكيك مخيماتهم.

غير أن ما جرى في زناتة يطرح سؤالاً أعمق: هل يكفي التعامل الأمني والقرارات الظرفية لاحتواء أزمة بحجم ظاهرة الهجرة غير النظامية؟ الواقع أن الأسباب التي تدفع هؤلاء الشباب إلى الهجرة لا تزال قائمة، من الفقر والحروب إلى انهيار فرص التنمية في بلدانهم الأصلية، مما يعني أن المغرب سيظل في المستقبل القريب محطة جذب لهم. بل إن تشديد السياسات الأوروبية على الحدود يجعل المغرب يتحمل عبئاً مضاعفاً باعتباره خط الدفاع الأول للاتحاد الأوروبي ضد موجات الهجرة، دون أن يحصل بالضرورة على الدعم الكافي لإدارة هذا العبء. وهكذا يجد المغرب نفسه في وضع أشبه بحارس الحدود الأوروبية، لكنه يواجه في الداخل تداعيات اجتماعية وأمنية كبيرة.

ولعل أخطر ما تكشفه أحداث زناتة هو هشاشة التعايش بين المهاجرين والمجتمع المحلي، إذ أن السكان المغاربة أنفسهم يعيشون صعوبات اقتصادية واجتماعية، وحين يرون تجمعات من المهاجرين العشوائيين في أحيائهم فإن ذلك يثير لديهم مخاوف أمنية وصحية ويؤجج خطاباً سلبياً عن "الغرباء". وفي لحظة مواجهة دموية كتلك التي وقعت، يصبح الخوف مضاعفاً وتتعزز الصور النمطية التي ترسم المهاجر الإفريقي كمصدر للفوضى والجريمة، بينما يغيب الوعي بالظروف المأساوية التي تدفعه إلى هذا السلوك. وهنا يكمن خطر الانزلاق نحو خطاب عنصري أو إقصائي إذا لم يتم تطويق الوضع إعلامياً وتربوياً وسياسياً.

إن معالجة هذه المعضلة تتطلب رؤية شمولية تجمع بين الأمن والإنسانية، فالأمن وحده قد يفرض النظام مؤقتاً لكنه لن يمنع انفجار الأوضاع مجدداً ما دام المهاجرون يعيشون في البؤس واليأس. والإنسانية وحدها لن تكفي إذا لم ترافقها سياسات تنظيمية قوية تضمن التوازن مع مصالح المجتمع المغربي. المطلوب إذن مقاربة متعددة الأبعاد تبدأ من توفير بدائل سكنية مؤقتة تحفظ كرامة المهاجرين وتمنع تحولهم إلى بؤر توتر في الأحياء، مروراً بتعزيز برامج الإدماج الاجتماعي والاقتصادي لأولئك الذين يرغبون في البقاء، وصولاً إلى تقوية التعاون الدولي مع بلدان الأصل والاتحاد الأوروبي لتوزيع الأعباء بشكل عادل.

إن ما وقع في زناتة ليس حادثاً معزولاً بل هو إنذار مبكر، يذكرنا بأن ظاهرة الهجرة في المغرب لم تعد مسألة عابرة بل واقعاً دائماً يحتاج إلى إدارة ذكية ومتوازنة. دماء الشابين اللذين سقطا في الاشتباكات، وآهات التسعة الجرحى، وصور الرعب التي عاشها سكان المحمدية، كلها رسائل تقول إن الاستمرار في التعامل مع المهاجرين بمنطق الترقيع لن يؤدي سوى إلى مزيد من الأزمات. فالهجرة ليست جريمة بل نتيجة لسلسلة من الجرائم التي ارتكبها الفقر والحروب والفساد في بلدان المصدر، وما على بلد الاستقبال سوى أن يدرك أن الحل لا يمكن أن يكون في المقاربة الأمنية وحدها، بل في الجمع بين الصرامة والتنظيم من جهة، والرحمة والإنصاف من جهة أخرى.

إن التاريخ يعلمنا أن الهجرة كانت دائماً جزءاً من حركة البشر عبر العصور، وأن الذين يهاجرون يفعلون ذلك بدافع البحث عن الحياة الكريمة لا حباً في المخاطرة. حين ينظر المغاربة إلى المهاجرين الأفارقة عليهم أن يتذكروا أن أجدادهم أيضاً هاجروا عبر الزمن إلى أوروبا وأمريكا والخليج بحثاً عن رزق، وأن الغربة قاسية على كل إنسان مهما كان أصله. أما السلطات فعليها أن توازن بين حماية المجتمع وحماية المهاجرين، لأن التحدي الحقيقي هو بناء نموذج للتعايش الإنساني وسط العاصفة.

خاتمة

في النهاية تبقى أحداث زناتة صفحة مؤلمة في كتاب الهجرة بالمغرب، لكنها تحمل في طياتها فرصة لإعادة التفكير في السياسات الحالية ورسم استراتيجية طويلة المدى تحمي الجميع، مهاجرين ومغاربة على السواء. لقد سال الدم على الأرض ليقول لنا إننا أمام قضية لا تحتمل التجاهل ولا التأجيل، وإن إنسانية الأمم تُقاس بقدرتها على حماية الأضعف، حتى حين يكون غريباً لا ينتمي إلى ترابها.

تعليقات