أطفال التوحد بين ضعف موارد الأسر وتخلي الدولة: مأساة صامتة تبحث عن حلول

 معاناة الأسر مع أطفال التوحد وغياب الدعم الرسمي

مقدمة

يولد بعض الأطفال في هذه الحياة وهم يحملون بصمة مختلفة لا تشبه الآخرين، بصمة تجعلهم يرون العالم بطريقة مغايرة، ويتفاعلون معه بشكل غير معتاد، وتلك البصمة هي ما نسميه اليوم بالتوحد. هذا الاضطراب الذي لم يعد مجرد مسمى طبي يفسر تأخر الكلام أو عزلة الطفل أو تكراره لحركات غريبة، بل أصبح ظاهرة اجتماعية وإنسانية معقدة تتقاطع فيها الأبعاد النفسية والطبية والاقتصادية والسياسية. إن الطفل المصاب بالتوحد لا يختار وضعه ولا يسعى إليه، بل يجد نفسه داخل دائرة يصعب الخروج منها، بينما الأسرة من حوله تغرق في بحر من الأسئلة المربكة: كيف يمكن أن نوفر له حياة كريمة؟ هل سنتمكن من تعليمه؟ هل سيقبل به المجتمع؟ ثم يأتي السؤال الأكبر والأشد إيلاماً: من سيساعدنا نحن؟ وهنا تتكشف مأساة مزدوجة، مأساة الطفل الذي يواجه صعوبة في فهم الآخرين، ومأساة الأسرة التي تجد نفسها ضعيفة الموارد في مواجهة احتياجات متزايدة تتجاوز طاقتها.

عرض

الأسر التي يخرج من بينها طفل يعاني من التوحد تعيش تجربة مريرة منذ لحظة اكتشاف الحالة، إذ يتطلب التشخيص وحده أطباء مختصين وتحاليل وفحوصات غالباً ما تكون مكلفة ولا تغطيها الأنظمة الصحية العمومية. وحتى بعد التشخيص تبدأ رحلة البحث عن علاج أو على الأقل تأهيل يساعد الطفل على الاندماج. وهنا تظهر الفجوة الهائلة بين الإمكانيات المالية المحدودة لمعظم الأسر وبين كلفة الجلسات العلاجية، سواء كانت جلسات التخاطب أو العلاج السلوكي أو المرافقة النفسية. في بعض المدن العربية مثلاً، يصل ثمن الجلسة الواحدة إلى أرقام تفوق راتب الأب أو الأم في يوم كامل من العمل، فما بالك حين يحتاج الطفل إلى ثلاث أو أربع جلسات أسبوعياً على مدى سنوات؟ أمام هذا الواقع يجد الأب نفسه عاجزاً، والأم محاصرة بين الرغبة في إنقاذ طفلها وبين ضغوط الحياة اليومية.

ومما يزيد من مرارة التجربة أن الدولة، التي يفترض أن تكون الملجأ والحاضن، كثيراً ما تتخلى عن مسؤوليتها. ففي أغلب السياسات العمومية لا نجد للتوحد مكاناً بارزاً، ولا تخصص ميزانيات كافية لإنشاء مراكز متخصصة ذات جودة مقبولة. المدارس العمومية نادراً ما تكون مجهزة لاستقبال هؤلاء الأطفال، والمعلمون يفتقرون إلى التكوين اللازم لفهم احتياجاتهم. وبدلاً من أن يكون النظام التعليمي وسيلة إدماج، يتحول في كثير من الحالات إلى جدار عازل يضع الطفل التوحدي خارج الصفوف، إما عبر الطرد غير المباشر أو عبر الإقصاء الصامت. أما على مستوى الصحة العمومية، فعدد الأطباء والأخصائيين في مجالات النطق والعلاج السلوكي محدود جداً، وغالباً ما ينصب الاهتمام على أمراض أخرى أكثر انتشاراً، تاركين هذه الفئة عرضة للإهمال والانتظار الطويل.

وعندما نتأمل وضع الأسرة، ندرك حجم المعاناة المادية والمعنوية التي تعيشها. فضعف المردود الاقتصادي لمعظم الأسر يجعلها غير قادرة على مواكبة متطلبات الرعاية. فهناك آباء يضطرون للاقتراض، وهناك من يبيع ما يملك من أجل تغطية بعض أشهر من الجلسات المكلفة، ثم ينهار المشروع كله حين تنفذ الموارد. وتظل الأم في الغالب الحلقة الأضعف، فهي التي تترك عملها لتتفرغ لمتابعة ابنها، وتصبح سجينة المنزل والمواعيد الطبية، تعيش قلقاً دائماً وخوفاً من المستقبل، وتواجه نظرات المجتمع التي لا ترحم، بين شفقة جارحة أحياناً واتهام خفي بأنها السبب في حالة ابنها أحياناً أخرى.

كل هذا يحدث بينما الدولة تتفرج أو تقدم مبادرات شكلية لا تغير شيئاً في الجوهر. قد نسمع عن يوم وطني للتوحد أو نرى حملات إعلامية موسمية، لكنها تبقى شعارات لا تترجم إلى برامج ملموسة. فالمطلوب ليس خطاباً، بل سياسة متكاملة تعترف أولاً بأن التوحد واقع لا يمكن تجاهله، وتضع له استراتيجيات بعيدة المدى تشمل الصحة والتعليم والإدماج الاجتماعي. المطلوب أن تكون هناك مراكز علاجية عمومية مجانية أو على الأقل بأسعار معقولة، أن يتم تكوين معلمين وأطباء بشكل مستمر لفهم هذا الاضطراب، أن توضع قوانين تحمي حقوق الأطفال التوحديين في التعليم والعمل مستقبلاً، وأن تتبنى الدولة برامج دعم مالي مباشر للأسر حتى تستطيع الصمود أمام التكاليف الباهظة.

لكن الحلول لا تقف عند الدولة فقط، بل المجتمع المدني بدوره مدعو إلى لعب دور أساسي. الجمعيات المتخصصة يمكن أن تكون وسيلة ضغط ورافعة للتغيير، فهي قادرة على إيصال صوت الأسر، وتنظيم ورشات للتوعية، وخلق فضاءات للاندماج. كما أن القطاع الخاص يمكن أن يتحمل جزءاً من المسؤولية عبر برامج المسؤولية الاجتماعية، سواء بتمويل مراكز أو توفير منح لعائلات محتاجة. كذلك الإعلام عليه دور بالغ الأهمية، إذ إن تغيير نظرة المجتمع للتوحدي لا يقل أهمية عن العلاج نفسه. فحين يتوقف الناس عن النظر إلى الطفل المختلف كعبء أو كوصمة، تبدأ عملية الاندماج الحقيقية.

ومن الحلول الممكنة أيضاً الاستثمار في التكنولوجيا والتعليم عن بعد، إذ يمكن تطوير تطبيقات ذكية تساعد الأطفال التوحديين على التواصل والتعلم بطريقة تناسب قدراتهم، ويمكن كذلك اعتماد منصات رقمية لتكوين الأسر وإرشادهم في كيفية التعامل مع أبنائهم دون الحاجة الدائمة للتنقل إلى المراكز. هذا النوع من الابتكار يمكن أن يقلل الكلفة ويجعل المعلومة في متناول الجميع، خاصة في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى.

لا يمكن أن ننسى أن التوحد ليس مرضاً بالمعنى التقليدي، بل هو اختلاف في الإدراك والتواصل، وهذا ما يجعل كثيراً من الأطفال التوحديين يملكون قدرات خاصة، سواء في الحساب أو الموسيقى أو الرسم أو التركيز في تفاصيل دقيقة يعجز عنها غيرهم. المشكلة ليست في الطفل بقدر ما هي في المجتمع الذي لا يتيح له المجال كي يزهر. فإذا وجد هذا الطفل من يفهمه ويصبر عليه ويمنحه الفرصة، قد يتحول إلى مبدع يضيف قيمة للعالم. لكن إن تُرك مهملاً محاصراً بالفقر واللامبالاة، فإنه سيخسر نفسه وتخسر الإنسانية معه موهبة محتملة.

إن المأساة الكبرى تكمن في التناقض بين الخطاب الرسمي عن حقوق الإنسان والواقع الفعلي للأسر التي تعيش الجحيم بصمت. الأسر التي لا صوت لها ولا سند، تجد نفسها بين مطرقة اللامبالاة الرسمية وسندان الظروف الاقتصادية، لتعيش حياة استنزاف متواصل. ولعل الحل الجذري يكمن في الاعتراف أولاً بهذه المأساة، ثم بناء إرادة سياسية حقيقية تضع الإنسان قبل الأرقام والموازنات. فما قيمة أي تنمية أو تقدم إذا كانت شريحة من الأطفال تُترك خلف الركب، يُعاملون كأرقام منسية في الهامش، في حين أن جوهر الإنسانية هو أن نرفع الأضعف قبل الأقوى؟

خاتمة

في النهاية، لا بد أن نفهم أن قضية التوحد ليست قضية فردية تخص أسرة هنا أو هناك، بل هي قضية مجتمع كامل. كل طفل لا يحصل على حقه في التعليم والتأهيل هو خسارة جماعية، وكل أم تنهار تحت وطأة المسؤولية هي جرح في جسد الأمة، وكل دولة تغض الطرف عن هذا الملف إنما تبني مستقبلاً هشاً. إن ما يحتاجه أطفال التوحد ليس الشفقة ولا الشعارات، بل الرعاية المنظمة والدعم الملموس والسياسات الواضحة. يحتاجون أن يُعاملوا كبشر كاملي القيمة والكرامة، وأن يُعطوا فرصة ليكونوا جزءاً من العالم، لا مجرد ظلال في أطرافه. وإذا كان ضعف مردود الأسر وتخلي الدولة اليوم عائقاً، فإن الأمل يظل قائماً حين نضع الإرادة في موضعها الصحيح، وحين يدرك المجتمع أن الاستثمار في هؤلاء الأطفال هو استثمار في مستقبلنا جميعاً.

تعليقات