الفساد في المغرب: بين صمت الدولة وتواطؤ القوانين

هل نعيش نهاية دولة القانون؟ قراءة قانونية في واقع الفساد بالمغرب

مقدمة:
في بلد يُفترض أن يسير على مبادئ الدستور وربط المسؤولية بالمحاسبة، يتحوّل الفساد من ظاهرة معزولة إلى بنية صلبة محمية بالقانون والموقع. المغرب، رغم ما يزخر به من ثروات طبيعية وكفاءات بشرية، لا يزال يعاني من اختلالات عميقة تهدد مستقبل الدولة ومصير المواطن. وزراء وبرلمانيون في السجون، وآخرون فوق الشبهات بحصانة غير مرئية، وقوانين تُسحب أو تُعدّل لتمنع الجمعيات والصحفيين من كشف الحقائق. فهل أصبح القانون أداة في يد السلطة لحماية الفساد بدلًا من مواجهته؟ وهل لا زال للدستور قيمة تُذكر حين يُفرَّغ من محتواه؟ في هذا المقال، نفتح نقاشًا قانونيًا وواقعيًا حول الفساد المستشري، وعلاقته بصمت الدولة، وتواطؤ بعض القوانين.
 كثير من المواطنين في المغرب وغيره من الدول التي تعاني من الفساد وضعف المحاسبة. ومع أن الطريق شاق، إلا أن هناك أدوات قانونية (دستورية ووطنية ودولية) يمكن للمواطن أو المجتمع المدني الاستناد إليها في مواجهة الفساد.
 تحليلاً قانونيًا واقعيًا ومبنيًا على النصوص الموجودة حاليًا:
 أولًا: الدستور المغربي – أدوات قانونية لمكافحة الفساد
الدستور المغربي لسنة 2011 يتضمن نصوصًا صريحة ضد الفساد، ومن أبرزها:
1. الفصل 1:
"يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلطات، وتوازنها وتعاونها، والديموقراطية المواطنة والتشاركية..."
 أي أن المواطن شريك في القرار وله دور في مراقبة الفساد.
2. الفصل 36:
"يعاقب القانون على المخالفات المرتبطة بتضارب المصالح، واستغلال النفوذ، والرشوة، واختلاس المال العام."
 هذا فصل حاسم يمكن الاستناد إليه لمساءلة المتورطين في الفساد.
3. الفصل 154 إلى 159:
تنظم مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة داخل المؤسسات العمومية.
4. الفصل 6:
"القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له."
هذا الفصل مهم جدًا لأنه يجعل الحكومة والبرلمان والملك أنفسهم خاضعين للقانون.
 ثانيًا: القوانين الوطنية التي تجرّم الفساد
قانون محاربة الرشوة (القانون الجنائي المغربي):
المواد من 248 إلى 256 تجرّم مختلف أشكال الفساد والرشوة والاختلاس.
قانون التصريح بالممتلكات:
يُلزم بعض المسؤولين بالكشف عن ممتلكاتهم تفاديًا للإثراء غير المشروع.
هيئات الرقابة:
مثل:
المجلس الأعلى للحسابات
الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها
 رغم أن فعاليتها محدودة أحيانًا، إلا أنها منصوص عليها قانونيًا ويمكن الضغط لتفعيل دورها.
 ثالثًا: النصوص القانونية الدولية التي صادق عليها المغرب
اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC):
المغرب صادق عليها سنة 2007، وتلزم الدولة بـ:
منع الفساد
تجريم الإثراء غير المشروع
حماية المبلغين عن الفساد
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية
ينص على الحق في المشاركة السياسية والمساءلة والاحتجاج السلمي.
الاتفاقيات الإفريقية والفرنكفونية لمكافحة الفساد
وهي جزء من الالتزامات الخارجية للمغرب.
رابعًا: سبل المواجهة القانونية والميدانية
1. رفع دعاوى ضد منتخبين فاسدين (كأفراد أو جمعيات):
المادة 36 والمادة 154 من الدستور تعطيك الحق في المطالبة بالمحاسبة.
2. التوجه للمنظمات الدولية (إذا استنفدت السبل الوطنية):
الأمم المتحدة
هيئات حقوق الإنسان
Transparency International- منظمة الشفافية الدولية
3. الاحتجاج السلمي والدستوري:
الفصل 29 من الدستور يضمن حق التظاهر
يمكن استخدامه قانونيًا لممارسة الضغط.
4. الإعلام والمجتمع المدني:
دور الصحافة الاستقصائية والجمعيات مهم جدًا، خصوصًا مع توفر الهوامش القانونية للعمل المدني.
ملاحظات صريحة:
صحيح أن هناك تعثر في التطبيق وضعف في المحاسبة.
لكن النصوص موجودة، والدستور في صالح المواطن أكثر مما يعتقد البعض.
المشكلة الحقيقية هي غياب الإرادة السياسية القوية لتفعيل هذه النصوص.
لكن إذا كان وزير العدل نفسه المسؤول الأول عن حماية القانون وتنفيذه  يتجه نحو تقييد دور المجتمع المدني والصحافة، وسحب القوانين التي من المفروض أن تردع الفساد، فالأمر لا يتعلق فقط بتقاعس، بل بتحول خطير نحو شرعنة الإفلات من العقاب.
 التحليل بصياغة بسيطة وواضحة:
 عندما يصبح التشريع أداة لحماية الفاسدين
حين يصدر وزير العدل (باسم الحكومة) مشاريع قوانين:
تمنع الصحفيين والجمعيات من التبليغ عن الفساد أو التحقق من الذمة المالية للمسؤولين.
تسحب أو تجمد قوانين مثل تجريم الإثراء غير المشروع التي كانت ستجبر المسؤول على إثبات مصدر ثروته.
فهذا لا يعني فقط إضعاف دولة القانون، بل هو هجوم مباشر على ما تبقى من ثقة الشعب في المؤسسات.
وهو خرق مباشر للدستور، خصوصًا:
 الفصل 1
الذي ينص على أن الديمقراطية التشاركية هي أساس الحكم.
 الفصل 36
الذي يعتبر أن الإثراء غير المشروع جريمة، بصريح العبارة.
الفصل 6
الذي يجعل القانون فوق الجميع – فكيف يُسمح للحكومة بخرق هذه الفصول نفسها عبر قوانين جديدة تحمي المتورطين؟
 ما خطورة هذا التوجه؟
إسكات المجتمع المدني يعني كتم صوت الشعب.
منع الصحفيين من التحقيق يجعل الفساد يتمدد بلا رقابة.
سحب قانون تجريم الإثراء يفتح الباب لاستغلال النفوذ وتضخم الثروات المشبوهة داخل الدولة.
إضعاف القضاء بربطه بالسلطة التنفيذية، يجعلنا أمام منظومة "اللا-عقاب".
 هل يحق قانونًا للحكومة سحب قوانين مكافحة الفساد؟
من الناحية الإجرائية: نعم، الحكومة لها صلاحية اقتراح وسحب مشاريع القوانين.
لكن من الناحية الدستورية والحقوقية:
لا يمكن سحب قانون أو تعطيل تشريع يُعتبر جزءًا من التزامات المغرب الدولية.
ولا يمكن إصدار قوانين تتناقض مع فصول واضحة من الدستور (مثل الفصل 36 عن الفساد).
بالتالي، إذا تم اعتماد قوانين تُعطل آليات المحاسبة، يمكن:
الطعن فيها أمام المحكمة الدستورية.
التوجه للهيئات الأممية (مثل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة).
 ماذا يمكن فعله أمام هذا الواقع؟
1. الضغط الشعبي والإعلامي:
لا يجب الصمت على مشروع قانون يمنع التبليغ أو يحمي المسؤولين من المساءلة.
الحملة الإعلامية والشعبية يمكن أن تسقط قوانين قبل المصادقة عليها.
2. اللجوء للقضاء:
يمكن رفع دعوى بعدم دستورية قانون (إذا تم تمريره).
كذلك يمكن الطعن في القرار أمام المجلس الدستوري عبر النواب البرلمانيين (إذا كانوا غير متورطين).
3. التصعيد الحقوقي الدولي:
المغرب عضو في اتفاقية مكافحة الفساد (UNCAC)، ويمكن مخاطبة الأمم المتحدة بخرق بنودها.
يمكن التعاون مع منظمات مثل "ترانسبارنسي" و"هيومن رايتس ووتش".
 في النهاية
حين يُستعمل القانون لحماية الفساد بدلًا من مكافحته، فهنا تبدأ بداية السقوط الحقيقي للدولة، لا على مستوى الاقتصاد فحسب، بل على مستوى الشرعية الأخلاقية والسياسية.
لكن لا يزال هناك أمل:
ما دام هناك دستور ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وما دام هناك مواطنون لا يقبلون بالسكوت.
وما دام المجتمع المدني لم يُكسر تمامًا.
تعليقات