زوال إسرائيل بين الفكر اليهودي والإسلامي والواقع المعاصر
مقدمة
منذ اللحظة التي قامت فيها دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948 وهي تعيش داخل قفص التناقضات بين واقعها ككيان سياسي قائم على القوة والفرض وبين شعورها الداخلي كجماعة تاريخية محاطة بالهاجس الأبدي للفناء، هذا الهاجس الذي لم يتوقف عن التسلل إلى عقل اليهود عبر كتبهم وأساطيرهم وحتى في وعيهم الجمعي الذي ورثوه من قرون الشتات والاضطهاد. من يقرأ التوراة أو التلمود أو بعض نصوص الأنبياء في العهد القديم يكتشف بسهولة أن فكرة الهلاك والزوال ملازمة للفكر اليهودي أكثر من فكرة الخلود، وأن تاريخهم القديم يقدّم نفسه كسلسلة من الانتصارات المؤقتة والهزائم الساحقة والنفي والشتات، حيث لا تستقر لهم حال إلا سرعان ما يعقبها انهيار بفعل فسادهم أو ظلمهم أو استكبارهم على الأمم والشعوب. هذا الشعور المتكرر جعل حتى بعض كبار مفكريهم يعترفون أن الكيان الصهيوني في صورته الحديثة ليس إلا محطة مؤقتة، وأنه قد ينتهي كما انتهت الممالك العبرية القديمة على يد البابليين أو الرومان.
عرض
اليهود أنفسهم في نصوصهم المقدسة يؤكدون أن الأرض لا تعطى لهم إلا بشرط الوفاء بالعهد مع الله، وأنهم متى نقضوا العهد واستكبروا عن الشرائع فإن الله يسلب منهم الأرض ويرسل عليهم أقواماً أشد قوة ليذيقوهم مرارة الهزيمة، وقد تكرر هذا التصور في سفر التثنية وسفر إرميا وسفر حزقيال وغيرها. فكل مرة يظهر فيها الانحراف، يعقبها غضب إلهي يتمثل في الطرد من الأرض، وهو ما حدث حين سُبي بنو إسرائيل إلى بابل، وما حدث مرة أخرى عندما دمّر الرومان القدس وشتتوا اليهود في أصقاع الأرض. ومن هنا نفهم أن قيام إسرائيل المعاصرة رغم أنه جاء بجهد استعماري وسياسي دولي، فإنه ظل محاطاً بشعور داخلي بالهشاشة واللايقين، حتى إن بعض الحاخامات المتشددين في القدس رفضوا الاعتراف بشرعية الدولة الصهيونية لأنها قامت قبل مجيء المخلّص الموعود بحسب تصورهم، ولأنها تعني تحدي إرادة الله الذي أراد لهم الشتات عقاباً على خطاياهم.
وفي الفكر اليهودي ذاته إشارات كثيرة إلى أن آخر الزمان سيكون زمن صراع هائل يسبق مجيء الماشيح أو المسيح المنتظر، وأن اليهود سيُبتلون بفتن عظيمة يتعرضون فيها للقتل والتشريد حتى يميز الله الخبيث من الطيب، ولا ينجو إلا القليل. ومن يراجع نصوص سفر دانيال يجد وصفاً لمعركة كبرى في نهاية التاريخ، ومن يقرأ التلمود يجد أحاديث عن "أيام المسيح" المليئة بالويلات. هذه النصوص تجعل فكرة الزوال ليست غريبة عن المخيال اليهودي، بل هي متجذرة داخله حتى وإن حاول الصهاينة الحديث عن "أرض الميعاد الأبدية".
من بين المفاهيم المثيرة التي يتداولها باحثون يهود ومتدينون صهاينة ما يُعرف بـ"قانون الثمانين سنة" في عمر الدولة اليهودية، وهو اعتقاد قائم على أن أي كيان سياسي لليهود لا يتجاوز عادة جيلين أو ثلاثة أجيال، أي ما يقارب ثمانين سنة، ثم يدخل في طور الانهيار. فإذا رجعنا إلى تاريخهم القديم نجد أن مملكة داود وسليمان لم تدم أكثر من ذلك قبل أن تنقسم وتتفكك، وكذلك مملكة الحشمونائيين التي قامت بعد ثورة المكابيين ضد اليونان لم تعش إلا نحو ثمانين عاماً قبل أن يسيطر عليها الرومان ويضعوا نهاية لوجودها السياسي. هذه الدورة التاريخية تحولت في الوعي اليهودي إلى ما يشبه "لعنة الثمانين عاماً"، أي أن بني إسرائيل لا يستطيعون الحفاظ على كيان جامع أكثر من هذا الحد الزمني، لأن خلافاتهم الداخلية وفسادهم واستكبارهم يقودونهم إلى السقوط.
هذا الاعتقاد أعاد طرحه بقوة عدد من المفكرين اليهود والإسرائيليين في العقود الأخيرة، خصوصاً مع اقتراب دولة إسرائيل الحديثة من هذا الرقم السحري. فإذا حسبنا من قيامها عام 1948 فإنها الآن تدخل العقد الثامن من عمرها، أي أنها تقترب من النقطة الحرجة التي في المخيال اليهودي نفسه كانت إيذاناً بالانهيار في التجارب السابقة. وقد ظهرت مقالات في الصحافة العبرية تحذر من أن إسرائيل قد لا تتجاوز عام 2028 أو 2030 ككيان موحد إذا لم تحل انقساماتها العميقة، حيث يتنازعها العلماني والمتدين، الشرقي والغربي، اليسار واليمين، المستوطن والمتعاطف مع التسوية.
وفي السياق ذاته أشار بعض المؤرخين إلى أن إسرائيل المعاصرة تعيش نفس المقدمات التي عاشتها الكيانات السابقة: استعلاء عسكري مؤقت، ثم فساد داخلي وانقسامات، ثم تراكم للأعداء من حولها، ثم تدخل قوى كبرى تُعيد رسم الخريطة. لذلك فإن الحديث عن "قانون الثمانين سنة" لا يبدو عند كثير من اليهود مجرد خرافة، بل تحذير جدي من أن التاريخ قد يعيد نفسه، وأنهم الآن يسيرون بسرعة نحو المصير نفسه.
من الناحية الإسلامية، ينسجم هذا الطرح بشكل لافت مع ما جاء في القرآن من أن بني إسرائيل لا يستقر لهم ملك إذا أفسدوا، ومع الأحاديث النبوية التي تتحدث عن قتالهم في آخر الزمان، ومع السنن التاريخية التي لا تسمح للظلم أن يدوم. فالزمن الذي يلوّح به اليهود أنفسهم كحد أقصى لبقاء دولتهم يتقاطع مع يقين المسلمين بأن النهاية قريبة، وكأن القدر يسوق الطرفين إلى الإقرار بأن هذا الكيان طارئ وعابر مهما بدا قوياً.
إن اقتراب إسرائيل من هذه العتبة الزمنية يضاعف من قلقها الداخلي، ويجعل خطابها السياسي مفعماً بالخوف من المستقبل. فحين يتحدث قادتهم عن ضرورة التطبيع مع العرب وعن تحالفات إقليمية، فإنهم يفعلون ذلك بدافع الهلع من أن دورة التاريخ تضيق عليهم، وأن الوقت لم يعد في صالحهم. كما أن المقاومة الفلسطينية التي تتصاعد مع كل عقد تعني أن إسرائيل لا تدخل العقد الثامن قوية كما دخلت العقود السابقة، بل مثخنة بالجراح ومطوقة بالأزمات، وهذا ما يجعل نبوءة الثمانين سنة أكثر واقعية وأشد إلحاحاً.
أما في الفكر الإسلامي والقرآن الكريم، فإن الصورة تبدو أكثر وضوحاً وحسماً، فالقرآن يعرض تاريخ بني إسرائيل بصفته سلسلة متواصلة من نعم الله التي قوبلت بالجحود والعصيان، ويعرض كذلك نهاياتهم المأساوية حينما كانوا يتكبرون في الأرض ويستطيلون على الناس. في سورة الإسراء مثلاً نجد إشارة صريحة إلى "مرتين" يفسد فيها بنو إسرائيل إفساداً عظيماً في الأرض، ويبعث الله عليهم عباداً له أولي بأس شديد فيدمرونهم تدميراً، ثم يعيد الله الكرة مرة أخرى ليقعوا في الفساد ويحلّ عليهم العقاب النهائي. هذه الآيات فسّرها كثير من المفسرين على أنها إشارة إلى دورات تاريخية متكررة لبني إسرائيل، وأن قيام دولتهم المعاصرة ربما يكون إحدى علامات الإفساد الأخير الذي يستدعي العقوبة الكبرى.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه أشار في أحاديث عدة إلى قتال اليهود في آخر الزمان، ومنها الحديث المشهور أن المسلمون سيقاتلون اليهود حتى يختبئ اليهودي خلف الحجر أو الشجر فينطق فيقول: "يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله"، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. وهذا الحديث وإن حمل عند البعض طابعاً رمزياً فإنه عند جمهور المفسرين يعكس يقيناً بأن اليهود سيصلون إلى مرحلة من الصراع الدموي مع الأمة الإسلامية تنتهي بهزيمتهم الساحقة.
إن فكرة زوال إسرائيل في الرؤية الإسلامية ليست مجرد أمنية أو دعاية سياسية، بل هي جزء من التصور العقدي والنبوي لمسار التاريخ. فهي دولة قامت على ظلم واغتصاب الأرض وتشريد شعب بأكمله، وأي كيان بهذا الشكل لا يمكن أن يدوم، لأن سنن الله في الأرض قائمة على أن الظلم لا يستمر، وأن الطغيان له أجل مسمى. وما نشهده في واقعنا اليوم من مقاومة فلسطينية متصاعدة ومن انكشاف ضعف الجيش الإسرائيلي أمام مجموعات صغيرة في غزة أو جنوب لبنان ليس إلا علامة على اهتزاز صورة "الجيش الذي لا يقهر" التي بنيت عليها أسطورة الدولة.
لكن السؤال الجوهري هو: هل اقتربت لحظة الزوال فعلاً؟ للإجابة عن ذلك لا بد أن نعود إلى مزيج من التحليل الديني والتاريخي والسياسي. من الناحية الدينية نجد أن علامات كثيرة تتطابق مع النبوءات القرآنية والحديثية، من علوّ إسرائيل واستكبارها في المنطقة، إلى دخولها في صراع وجودي مع محيطها، إلى فسادها الداخلي وانقسام مجتمعها بين علمانيين ومتدينين، بين شرقيين وغربيين، بين طبقة حاكمة فاسدة وجمهور يشعر بالخوف. هذه كلها إشارات على أن المجتمع الإسرائيلي هش من الداخل، وأنه قد يسقط كما سقطت أمم كثيرة قبله.
ومن الناحية السياسية نجد أن إسرائيل لم تعد تملك نفس الزخم الذي كان لها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حين كانت مدعومة بلا حدود من الغرب، بل إن العالم بدأ يشهد تحولات كبرى تجعل ميزان القوى يتغير تدريجياً. فالمقاومة الفلسطينية التي كانت توصف بالمحدودة أصبحت اليوم تمتلك سلاحاً نوعياً قادراً على اختراق القبة الحديدية، وإيران وحلفاؤها يشكلون تهديداً استراتيجياً متنامياً لإسرائيل، وحتى داخل الغرب نفسه هناك أصوات متزايدة تنتقد الاحتلال وتتعاطف مع الفلسطينيين.
اقتصادياً أيضاً تعاني إسرائيل من هشاشة بنيوية، فهي تعتمد على الدعم الخارجي بشكل كبير، وأي خلل في هذا الدعم قد يهدد استقرارها. كما أن مشروعها الاستيطاني الذي ابتلع الضفة الغربية لم ينجح في القضاء على الشعب الفلسطيني بل زاد من تمسكه بأرضه، وهذا يعني أن المعادلة الديمغرافية تسير ضد إسرائيل على المدى البعيد، إذ إن الفلسطينيين يتكاثرون بسرعة أكبر ويشكلون تهديداً وجودياً لفكرة "الدولة اليهودية".
أما من ناحية الفكر اليهودي الداخلي، فإن بعض المفكرين الإسرائيليين أنفسهم بدأوا يتحدثون عن "خطر الزوال"، ومنهم مارتن فان كريفيلد المؤرخ العسكري الذي قال إن إسرائيل إذا شعرت أنها تنهار فلن تتردد في استخدام السلاح النووي لإحراق المنطقة كلها، وهو ما يعرف بـ"خيار شمشون". هذا التصريح يعكس بوضوح أنهم لا يؤمنون ببقاء دائم، بل يعيشون تحت هاجس النهاية المفاجئة.
حين نربط بين الفكر اليهودي الذي يتحدث عن الفناء في نهاية التاريخ، والفكر الإسلامي الذي يؤكد أن زوال إسرائيل حتمي في آخر الزمان، وبين الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري الذي يكشف هشاشة هذا الكيان، نجد أن الصورة تكتمل تدريجياً نحو قناعة أن النهاية ليست بعيدة. لكن المسافة الزمنية بين الحاضر والزوال تبقى غيباً لا يعلمه إلا الله، وإن كانت القرائن تشير إلى أن المشروع الصهيوني يعيش مرحلة أفوله.
إن كل قوة في التاريخ تبدأ بالصعود، تبلغ ذروتها، ثم تبدأ بالتراجع. والإمبراطوريات العظيمة من روما إلى بريطانيا لم تخلد، فكيف بكيان صغير محاط بالأعداء ويعيش على الدعم الخارجي ويعاني انقسامات داخلية عميقة؟ الواقع أن إسرائيل رغم تفوقها العسكري لا تستطيع أن تضمن بقاءها لعقود طويلة، وقد يكفي اندلاع حرب إقليمية كبرى أو انهيار دعم أمريكي أو ثورة داخلية فلسطينية شاملة ليدخل الكيان في دوامة السقوط.
هكذا نجد أن فكرة زوال إسرائيل ليست وهماً ولا دعاية، بل هي حقيقة متجذرة في كتب اليهود أنفسهم، ومؤكدة في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وملموسة في الواقع السياسي والعسكري. السؤال لم يعد هل ستزول إسرائيل، بل متى وكيف؟ والتاريخ يعلمنا أن لحظة السقوط تأتي فجأة بعد أن تتهيأ مقدماتها لسنوات طويلة. قد يظن البعض أن إسرائيل قوية ومسيطرة، لكن من ينظر بعمق يدرك أن هذه القوة أشبه بالزجاج الصلب الذي يتفتت بمجرد أن تصيبه الضربة الحاسمة.
خاتمة
إن الشعوب لا تموت، والفلسطينيون رغم سبعين عاماً من الاحتلال ما زالوا يقاومون ويتمسكون بحقهم، وهذا وحده كافٍ ليجعل إسرائيل تعيش قلقاً وجودياً دائماً. وإذا كان اليهود يعتقدون في كتبهم أنهم أمة مختارة لكنها معاقبة بالشتات كلما فسدت، وإذا كان المسلمون يعتقدون أن وعد الله بزوالهم حتمي، وإذا كان الواقع يؤكد أن مشروعهم هش ويعاني تصدعات كبرى، فإن كل ذلك يقود إلى يقين واحد: أن إسرائيل كيان مؤقت، وأن نهايتها أقرب مما يتصور كثيرون، وأن الأرض ستعود لأصحابها مهما طال الزمن.