مدير "نارسا" بولعجول في قلب عاصفة مالية وإدارية

فضيحة محتملة في "نارسا": اتهامات بتبديد أموال الدولة


في السنوات الأخيرة، أصبحت قضايا تدبير المال العام تحت المجهر، وأصبحت المؤسسات العمومية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالشفافية والفعالية في الأداء، خصوصًا تلك المرتبطة بشكل مباشر بخدمة المواطن وتأمين سلامته. ومن بين هذه المؤسسات نجد الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية، المعروفة اختصارًا بـ"نارسا"، التي عُهد إليها بمهمة كبرى وهي تقليص حوادث السير، تطوير البنية التنظيمية لمجال النقل، ومواكبة التحولات الرقمية والإدارية في هذا القطاع الحيوي. غير أن ما شهدته الساحة الوطنية خلال الآونة الأخيرة من ضجة إعلامية وتحركات برلمانية بخصوص تدبير هذه الوكالة، وتحديدًا على يد مديرها العام بناصر بولعجول، يطرح علامات استفهام كثيرة حول مدى التزام الوكالة بمبادئ الحكامة الرشيدة والشفافية في صرف المال العام.

بدأت شرارة الجدل عندما تم الكشف عن صفقة مثيرة للجدل تتعلق بتنظيم سهرة إعلامية بمناسبة اليوم الوطني للسلامة الطرقية. صفقة بدت في ظاهرها محاولة للتوعية والتحسيس، لكنها في تفاصيلها المالية أثارت موجة من الاستغراب والاستنكار، حيث رُصد لها مبلغ يقارب مليار سنتيم، وُزّع بين تنظيم سهرة لم تتعد مدتها ساعتين، وكبسولة لا تتجاوز مدتها الدقيقة والنصف، وموقع إلكتروني مؤقت استُخدم ليوم واحد فقط. هذه الأرقام التي صدمت الرأي العام دفعت فاعلين سياسيين إلى طلب تشكيل مهمة استطلاعية برلمانية للتحقيق في طريقة صرف هذه الاعتمادات، وتقييم مدى فعاليتها وجدواها بالنسبة للمواطن المغربي، الذي ما يزال يعاني من واقع طرق دامٍ، وخدمات إدارية متعثرة.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذه الصفقة وحدها. فقد كشفت تقارير إعلامية واستقصائية أخرى عن شبهات تتعلق بكيفية توزيع المناصب العليا داخل "نارسا"، حيث تم تعيين أشخاص مقرّبين دون المرور عبر المساطر القانونية المعتادة أو احترام مبدأ الكفاءة والاستحقاق. هذا التسيب في التدبير الإداري رافقه تراجع واضح في مؤشرات السلامة الطرقية، وهو ما يجعل من الصعب تبرير هذه التعيينات من منظور النتائج المحققة. وبالفعل، فإن إحصائيات حوادث السير في المغرب ما تزال مرتفعة، بل سجلت ارتفاعًا في عدد القتلى خلال عام 2024 بنسبة تقارب 5.4% مقارنة بسنة 2023، فيما ازدادت الإصابات الخطيرة والخفيفة بشكل مقلق، وهو ما يُضعف من حُجج الوكالة في الحديث عن نجاعة استراتيجيتها الوطنية للسلامة الطرقية، التي رُصدت لها ميزانيات ضخمة على مدى سنوات.

ما يزيد من تعقيد الوضع هو التناقض بين الشعارات التي ترفعها "نارسا" وخطابها الإعلامي من جهة، وبين الواقع الميداني الذي يعيشه المواطن يوميًا من جهة أخرى. فرغم المبالغ الكبيرة التي تُنفق على الحملات التحسيسية والتظاهرات الرسمية، ما يزال الكثير من المغاربة يشكون من صعوبة الحصول على خدمات بسيطة مثل تجديد البطاقة الرمادية أو الحصول على موعد لاجتياز امتحان رخصة السياقة، أو حتى معرفة وضعية مخالفة طرقية. فهذه الخدمات التي يفترض أنها مؤتمتة ومبسطة، ما تزال تعاني من ضعف في البنية التحتية الرقمية، وسوء التنسيق بين الإدارات، وهو ما ينعكس سلبًا على تجربة المواطن ويزيد من فقدان الثقة في المؤسسات.

التحقيق البرلماني المرتقب في عمل الوكالة قد يشكل نقطة تحول مهمة، خصوصًا إذا ما تم التعامل معه بجدية وشفافية. هذا التحقيق لا يجب أن ينحصر فقط في صفقة السهرة المليارية، بل ينبغي أن يتوسع ليشمل كل مجالات تدخل الوكالة، من الصفقات العمومية، إلى السياسات التحسيسية، مرورًا بتدبير الموارد البشرية، ووصولاً إلى آليات تقييم الأداء وربطه بالمردودية. فالمواطن المغربي الذي يدفع الضرائب ويُمنّى بتحسن مستوى الخدمات العامة، له الحق الكامل في معرفة كيف تُصرف الأموال العمومية، ومن يتحمل مسؤولية الإخفاق أو النجاح في تنفيذ الاستراتيجيات الحكومية.

وفي ظل هذه المعطيات، تبرز ضرورة إعادة النظر في النموذج الإداري الذي تعتمده "نارسا"، بل وفي طريقة اشتغال بعض المؤسسات العمومية المشابهة. فحين يغيب التقييم الحقيقي المبني على مؤشرات دقيقة وقابلة للقياس، ويحل محله الخطاب الإعلامي الترويجي، تكون النتيجة إهدارًا للموارد، وتدهورًا في جودة الخدمات، وتآكلًا تدريجيًا لثقة المواطن في مؤسسات بلده. هذا النوع من الإخفاقات لا يجب أن يُمرّ مرور الكرام، لأنه يعكس خللاً عميقًا في آليات الرقابة، ويظهر مدى هشاشة آليات المحاسبة داخل المؤسسات العمومية.

من جهة أخرى، لا يمكن إغفال أن الأزمة التي تعيشها "نارسا" ليست استثناءً، بل تعكس مشكلًا بنيويًا يطال العديد من المؤسسات العمومية في المغرب، حيث تغيب في أحيان كثيرة ثقافة التقييم وربط المسؤولية بالمحاسبة. فرغم كل التقارير الرسمية، والدعوات الملكية المتكررة لإصلاح الإدارة، ما تزال بعض الممارسات القديمة قائمة، وما تزال المحسوبية والزبونية تلعب دورًا كبيرًا في مسارات التعيين والتوظيف العمومي. وإذا لم يتم التعامل مع هذا الواقع بحزم وإرادة حقيقية للإصلاح، فإن الأوضاع مرشحة للمزيد من التدهور، مهما بلغ حجم الخطابات الرسمية أو حجم الميزانيات المرصودة.

وعلى ضوء هذه الوقائع، فإن المسؤولية الأخلاقية والقانونية تقع على عاتق من يقود هذه المؤسسات، لأن المدير العام لأي وكالة أو مرفق عمومي لا يمثل فقط جهة تنفيذية، بل يُفترض فيه أن يكون نموذجًا في احترام القانون، والحفاظ على المال العام، وتحقيق أهداف المؤسسة التي يتولاها. كما تقع على البرلمان مسؤولية المتابعة والمحاسبة، لأنه المؤسسة التي تمثل إرادة الأمة، وعليها أن تحرص على عدم تحول المؤسسات العمومية إلى عبء على المالية العامة بدل أن تكون رافعة للتنمية والإصلاح.

في الختام، إن قضية "نارسا" ليست مجرد حادثة معزولة، بل هي ناقوس خطر يدق بقوة في وجه كل من يتولى مسؤولية تدبير الشأن العام، ورسالة واضحة بأن المواطن المغربي لم يعد يقبل بالصمت أو التجاهل، وأن زمن الصفقات غير المراقبة والاستراتيجيات الفارغة قد ولّى. المطلوب اليوم هو يقظة جماعية، تشمل الحكومة، والبرلمان، والمجتمع المدني، وحتى الإعلام، من أجل حماية المال العام، وضمان أن كل درهم يُنفق يُوظف حيث يجب، ويخدم من يستحق. كما أن هذه القضية تشكل فرصة لإعادة إحياء ثقافة التقييم والمساءلة، والتأسيس لمنظومة مؤسساتية جديدة، تجعل من الكفاءة والنزاهة أساسًا وحيدًا لتولي المسؤولية، ومن خدمة المواطن هدفًا مركزيًا لكل إصلاح حقيقي.
تعليقات