الوحدة بين الغربة والمرض: رحلة الإنسان مع الصمت الثقيل

تجليات الوحدة في حياة الرجل والمرأة عبر الأعمار والأمكنة


المقدمة

 الوحدة في حياة الإنسان تظل تجربة معقدة لا تختصر في مجرد عزلة جسدية أو غياب آخرين من حوله، بل هي حالة أعمق تتعلق بالشعور بالفراغ العاطفي وغياب الدعم الحقيقي، وهي واقع يعيشه الرجال والنساء على السواء في مختلف الأعمار والمراحل الحياتية، سواء كانوا في أوطانهم أو في الغربة بعيدين عن ذويهم. والوحدة تتجاوز كونها ظاهرة اجتماعية إلى أن تصبح قضية وجودية تمس معنى الحياة نفسها، لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يكتمل وجوده إلا بالآخرين. حين يولد الطفل أول ما يحتاجه هو صدر أمه، وحين يكبر المراهق يبحث عن رفقة وصحبة، وحين يشيخ الشيخ لا يطلب أكثر من كلمة طيبة أو يد حانية، وما بين الميلاد والرحيل يبقى الخيط الرفيع الذي يربط الإنسان بالآخرين هو ما يمنحه معنى لحياته. لذلك فإن الوحدة حين تفرض نفسها تقلب حياة الفرد إلى صحراء قاحلة لا ظل فيها ولا ماء، فيشعر الإنسان أنه يواجه العالم وحده بلا معين ولا سند.

العرض

الرجل في وحدته يعيش صوراً مختلفة لهذه التجربة. قد يكون رجلاً في مقتبل العمر، يعمل ويكافح، لكن لا يجد من ينتظره في بيته ولا من يتقاسم معه تفاصيل يومه. يعود من عمله مثقلاً بالهموم فيفتح باب بيته فيجد الصمت ينتظره، لا أحد يسأله كيف كان يومه ولا من يمد له كأس ماء أو يشاركه طعامه. في هذه اللحظات يشعر أن الحياة بلا مشاركة تتحول إلى آلة جافة تدور بلا معنى. وهناك رجال اختاروا الغربة سعياً وراء الرزق أو هرباً من واقع قاسٍ في أوطانهم، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الغربة تحمل في طياتها عزلة أشد قسوة من كل ما فروا منه، فالغريب في بلاد الناس قد يجد نفسه محاطاً بالضجيج والناس من كل الجهات، لكنه غريب في لغتهم وعاداتهم وفي قلوبهم، وإن مرض أو وقع في مأزق وجد نفسه يواجه وحده مصيراً مجهولاً، فلا أب ولا أم ولا صديق قديم ولا جار يعرف اسمه. الوحدة في الغربة ليست مجرد غياب للأهل، بل هي فقدان لشبكة الأمان التي تمنح الإنسان شعوراً بالطمأنينة، وبدونها يصبح كل شيء هشاً وكأن الأرض تحت قدميه قد تتحول فجأة إلى هاوية.

أما المرأة في وحدتها فتختبر الأمر بأبعاد أخرى لا تقل ألماً. فهي أكثر التصاقاً في نظر المجتمع بفكرة العائلة والدفء والاحتواء، فإذا وجدت نفسها بلا سند أو شريك حياة فإن وحدتها تصبح موضع أحكام قاسية من الآخرين إضافة إلى معاناتها الداخلية. المرأة العزباء التي بلغت سناً متقدمة تشعر أن المجتمع يضعها في خانة الانتقاص مهما حققت من نجاحات مهنية أو علمية، وكأن قيمتها لا تكتمل إلا بوجود زوج أو أبناء. لكنها حين تعود إلى بيت فارغ تواجه مرآة الوحدة بكل قسوتها، فتدرك أن كل إنجازاتها لا تستطيع أن تمنحها حواراً عفوياً أو لمسة حانية. وإن مرضت أو أصابها ضعف، فالمعاناة تتضاعف، إذ لا تجد كتفاً تستند إليه ولا يداً تمتد لتخفف عنها آلامها. أما في الغربة، فإن الوحدة تتحول بالنسبة للمرأة إلى امتحان وجودي صعب، فهي تواجه الغربة في مجتمع ربما لا يمنحها الأمان الكافي، وتتحمل ثقل المسؤوليات وحدها. هناك نساء يعملن في بلاد بعيدة، يرسلن المال لعائلاتهن، لكنهن يبتلعن دموع الوحدة في ليالٍ طويلة، يخشين المرض لأنه قد يكون بداية انهيار كامل، إذ لا يوجد أحد بجوارهن، ولا أحد يدق بابهن ليسأل عن أحوالهن.

الوحدة في الشيخوخة تحمل بدورها طابعاً مأساوياً. فالرجل أو المرأة حين يبلغان الكبر يحتاجان إلى العناية أكثر من أي وقت مضى، ويكون حضن العائلة بالنسبة لهما مصدر أمان لا غنى عنه. لكن حين يغيب الأبناء أو ينشغلون بحياتهم، أو حين يموت الرفيق، يجد الشيخ أو العجوز نفسه محاطاً بصمت ثقيل. قد يجلس لساعات يحدق في النافذة منتظراً زائراً لا يأتي أو اتصالاً لا يحدث. المرض في هذه المرحلة يتحول إلى كارثة صامتة، فقد يسقط المسن في بيته ويظل ساعات أو أياماً دون أن يشعر به أحد، فتكون الوحدة هنا قاتلة فعلاً لا مجازاً. والمشهد تكرر كثيراً في مجتمعاتنا المعاصرة، حيث أصبح التباعد الأسري سمة من سمات الحياة الحديثة، وغاب التواصل الإنساني الحقيقي تحت ضغط الانشغال والمصالح.

لكن الوحدة ليست مقتصرة على كبار السن أو العزاب أو المغتربين فقط، بل قد تصيب حتى من يعيش بين أسرته. هناك من يعيش وسط زوجة وأبناء، لكن غياب التفاهم والاهتمام يجعله يشعر أنه وحيد بينهم. الوحدة النفسية أقسى أحياناً من الوحدة المادية، لأنك قد تكون محاطاً بأشخاص كثر لكنك لا تجد من يفهمك أو يشاركك عمق مشاعرك، فتغدو الوحدة في هذه الحالة عزلة داخلية لا يراها أحد. وهذا النوع من الوحدة يتفاقم مع ضغوط الحياة الحديثة، حيث ينشغل كل فرد بعالمه الخاص، بالهاتف أو العمل أو الدراسة، فيتباعد الناس وهم تحت سقف واحد.

ولا بد هنا من التفريق بين الوحدة والعزلة الاختيارية. فهناك من يختار الانسحاب لبعض الوقت بحثاً عن راحة أو تركيز، وهذه ليست وحدة بالمعنى المؤلم، بل هي حاجة إنسانية طبيعية. لكن حين تفرض الوحدة نفسها قسراً على الإنسان، حين لا يجد الآخر الذي يحتاجه في لحظة ضعف أو مرض، فإنها تتحول إلى عبء ثقيل يفتك بالروح والجسد. الوحدة حين تقترن بالمرض تكشف قسوتها الحقيقية، فالإنسان المريض في حاجة إلى العناية والحنان، وإذا لم يجد ذلك فإن ألمه يتضاعف. ليس الألم الجسدي وحده ما يرهقه، بل شعوره بأنه يواجه مصيره وحيداً، وأن سقوطه قد لا ينتبه إليه أحد. كم من مغترب مات في غربته ولم يُكتشف موته إلا بعد أيام، وكم من رجل أو امرأة مسنين ماتوا في بيوتهم دون أن يطرق أحد بابهم، وهذه الصور القاسية ليست قصصاً بعيدة، بل هي واقع يتكرر في مدننا وقرانا.

الوحدة لها أثر نفسي وجسدي موثق علمياً، فهي تزيد من احتمالات الإصابة بالاكتئاب والقلق، وتضعف المناعة، وتضاعف مخاطر أمراض القلب. وقد قال بعض الباحثين إن الوحدة أخطر على صحة الإنسان من التدخين أو السمنة. وهذا يوضح أن الأمر ليس مجرد حالة عابرة، بل مشكلة مجتمعية حقيقية. ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي أعطتنا وهماً بأننا على اتصال دائم بالآخرين، إلا أنها زادت من حدة الوحدة الواقعية، إذ صار كثير من الناس يكتفون بكتابة رسالة أو تعليق عابر، لكنهم لا يمدون يد العون الفعلي حين يحتاج الآخر إليهم. نحن اليوم نعيش مفارقة عجيبة: لم يكن البشر يوماً أكثر اتصالاً عبر التكنولوجيا مما هم عليه الآن، لكنهم في الوقت نفسه لم يشعروا بمثل هذا القدر من الوحدة والانعزال.

ورغم قسوة الوحدة، فإنها أحياناً تكشف للإنسان عمق حاجته للآخرين، وتذكره بأن الحياة لا تكتمل بالمال أو النجاح الفردي فقط، بل بالحب والعلاقات الصادقة. كثير من المغتربين حين يعودون إلى أوطانهم يقولون إن أكبر ما افتقدوه ليس الطعام أو الثقافة أو المشهد الطبيعي، بل حضور الأهل والأصدقاء والدفء الإنساني. وكثير من المسنين حين يسألون عن أعظم ما يتمنونه في أواخر حياتهم لا يطلبون مالاً ولا جاهاً، بل يتمنون فقط ألا يموتوا وحدهم، أن يجدوا أحداً يمسك أيديهم في اللحظة الأخيرة. هذه الحقيقة العميقة تجعلنا ندرك أن مواجهة الوحدة ليست مسؤولية الفرد وحده، بل مسؤولية المجتمع كله، إذ يجب أن نعيد الاعتبار للعلاقات الإنسانية الحقيقية، أن نهتم بالجار، أن نسأل عن المسن، أن نمد أيدينا لمن نعلم أنه يعيش وحيداً، لأن لمسة إنسانية بسيطة قد تنقذ حياة بأكملها من الانطفاء.

الخاتمة

في خاتمة القول، الوحدة تظل تجربة إنسانية مؤلمة يعيشها الرجل والمرأة على حد سواء في مختلف الأعمار والأماكن، سواء في الوطن أو في الغربة، في الشباب أو الشيخوخة. وهي ليست مجرد فراغ وقت أو غياب آخرين عن المحيط المادي، بل هي غياب الدعم العاطفي والشعور بالانتماء، وهي تتحول إلى مأساة حين تقترن بالمرض، حيث يصبح الإنسان في أمس الحاجة إلى من يمد له يده ولا يجد أحداً. ولذلك فإن أعظم ما يمكن أن يمنحه الإنسان للآخر ليس المال ولا الهدايا، بل حضوره الصادق حين يحتاجه، كلمة صادقة، يد حانية، أو لمسة تعاطف. فما من شيء أثمن في هذه الحياة من أن يسمع الإنسان في لحظة ضعفه صوتاً يقول له: لست وحدك.

تعليقات