أسرار العداوة والاغتيالات بين صدام ومبارك والأسد والحسن الثاني والقذافي
في عالم السياسة العربية، لا وجود للمصادفات، فكل خطوة محسوبة، وكل مصافحة وراءها ألف نية، وكل ابتسامة تخفي خنجرًا. علاقات الزعماء العرب فيما بينهم في العقود الأخيرة من القرن العشرين لم تكن سوى شبكة كثيفة من الخيانات والمؤامرات ومحاولات التصفيات الجسدية والسياسية، تحكمها قاعدة غير مكتوبة: "من يثق، يُلدغ". لم تكن القمم العربية سوى ساحات مغلقة لحروب نفسية واستخباراتية، يتقنها رجال صنعوا مجدهم على أنقاض الخيانة.
أكثر هذه العلاقات تعقيدًا كانت بين صدام حسين، الرئيس العراقي الحديدي الذي بنى لنفسه صورة الزعيم اللامنتمي، وحافظ الأسد، الذي مثل جناح البعث المناقض في دمشق. منذ انقسام حزب البعث في الستينات، بدأ العداء بين بغداد ودمشق، وتحوّل مع مرور الوقت إلى ما يشبه الحرب الباردة، حيث كانت دمشق تأوي معارضي صدام، وبغداد تمول معارضي الأسد. كان العداء شخصيًا وعقائديًا. وحين اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، اختارت سوريا دعم إيران، عدوة العرب الأولى في تلك اللحظة، فقط لأن العدو المشترك هو صدام. لم يكن ذلك مجرد موقف سياسي، بل صفعة مدوية في وجه بغداد، جعلت صدام يُقسم أنه لن يصفح أبدًا.
تكررت محاولات الغدر. إحدى الروايات تشير إلى أن المخابرات العراقية خططت لاغتيال حافظ الأسد عبر تفجير موكبه في أحد شوارع دمشق باستخدام عبوة ناسفة يتم التحكم فيها عن بعد، وكانت الخطة تمرّ عبر عميل مزدوج تمكن من التسلل إلى جهاز الأمن السوري. لكن المعلومة تسربت، وتم القبض على المنفذين قبل التنفيذ. في المقابل، دعمت دمشق محاولة انقلاب داخلية ضد صدام في 1993، كانت تقودها مجموعة من الضباط البعثيين الناقمين، وتم اكتشافها في اللحظات الأخيرة، وأُعدم المشاركون شنقًا.
أما معمر القذافي، فكان زعيمًا مختلفًا. هوسه بالزعامة الكاملة، ورغبته في تدمير كل الأنظمة المجاورة له إن لم تخضع لسلطته الرمزية، جعلته في حالة صراع دائم مع الجميع. دخل في مواجهة مباشرة مع الحسن الثاني، ملك المغرب، حين دعم جبهة البوليساريو بالسلاح والمال والتدريب، وكانت الرسالة واضحة: إذا لم تتخلَّ عن الصحراء، فسأحرقك من الداخل. استشاط الحسن الثاني غضبًا، ورد بطريقته الماكرة، حيث زود المخابرات الفرنسية بمعلومات عن خطوط الإمداد الليبية إلى البوليساريو، وسرّب صورًا لجنود ليبيين في الصحراء، ما أدى إلى فضيحة دولية.
وتصاعدت الأمور حين نجا الحسن الثاني من محاولة اغتيال مدبرة، يُقال إن القذافي موّلها عبر تنظيم يساري مغربي، وكان الهدف تنفيذ عملية تفجير داخل قاعة كان سيحضر فيها الملك احتفالًا رسميًا. فشلت المحاولة، لكن رسائل الخطر وصلت. فرد الحسن الثاني بالمثل: سُمح للمعارضة الليبية باستعمال الأراضي المغربية، بل وتم التنسيق بين الرباط وباريس في عمليات سرية ضد مواقع تدريب ليبية على الحدود مع النيجر.
مبارك، الذي دخل المسرح بعد اغتيال السادات، كان أكثرهم براعة في الدبلوماسية المتحفظة. لكنه حين شعر أن القذافي يتجاوز حدوده، خاصمه سرًا. القصة الأشهر بينهما كانت تلك التي دارت حول محاولة ليبيا تجنيد أحد حراس مبارك لاغتياله أثناء زيارته لطرابلس في أوائل التسعينات. الحارس اعترف في القاهرة، وتم ترحيل الوفد الليبي بشكل فوري من مصر، وتوقفت العلاقات لسنوات.
لكن أقوى القصص، وأغربها، تلك التي دارت بين مبارك وصدام حسين، وهي قصة تجسّد انعدام الثقة إلى حد الجنون. بعد حرب الخليج الثانية، انقطعت كل العلاقات بين العراق ومصر. كان صدام يعتقد أن مبارك خانه، وأغراه الأمريكيون بالمال مقابل المشاركة في إسقاطه. في بداية 2002، ومع تصاعد الحديث عن غزو أمريكي وشيك للعراق، طلبت إدارة بوش من مبارك التدخل شخصيًا لإقناع صدام بالتنحي.
كان اللقاء بينهما أشبه بلقاء ثعابين. حمل مبارك ساعة يد فاخرة مزودة بكاميرا دقيقة جدًا وميكروفون، صنعتها شركة تكنولوجية يابانية متخصصة، وأُعطيت له من المخابرات الأمريكية. وكان الهدف هو تسجيل كل ما يقوله صدام خلال الجلسة. عندما وصل مبارك إلى بغداد، قوبل بترحاب ظاهري. صدام كان يبتسم، لكن عينيه تشي بالريبة. أثناء الحديث، لاحظ أحد ضباط الحرس الخاص أن الساعة في يد مبارك غريبة الشكل، مختلفة عن الساعات التي اعتاد رؤيتها. همس لصدام، فابتسم هذا الأخير وقال: "قبل أن تغادر، دعنا نتبادل الهدايا".
نزع ساعته الخاصة، التي قيل إنها كانت هدية من الملك حسين، وقدمها لمبارك، وطلب من هذا الأخير أن يمنحه ساعته كذكرى. لم يجد مبارك مهربًا، واضطر لتقديم الساعة المشبوهة. وبعد خروجه من القصر، دخل صدام إلى غرفة عمليات سرية، وتم تفكيك الساعة في أقل من نصف ساعة، لتظهر الكاميرا الدقيقة والمكروفون. بعد أيام، ألقى صدام خطابًا ناريًا في بغداد، قال فيه: "بعض الزوار يظنون أن الهدايا تُمرر بها الأسرار، لكننا نقرأ ما في جيوبهم، ونفكك ما في ساعاتهم. فليحذروا!".
تلك القصة كانت ضربة استخباراتية قاسية لمبارك، لكنها أيضًا كشفت عمق الصراع غير المُعلن. فقد صدام أي أمل في التفاوض مع مصر، وأدرك أن المعركة القادمة لن تكون فقط مع الغرب، بل مع أشقاء الأمس.
في قمة عربية جمعتهم جميعًا في أواخر التسعينات، تم زرع أجهزة تسجيل في قاعة الاجتماعات من طرف ثلاث وفود مختلفة على الأقل: العراق، ليبيا، والمغرب. تم اكتشاف الأجهزة عبر فرقة أمنية سعودية كانت مكلفة بتأمين المكان، وعندما واجهوا القادة، كانت الإجابة واحدة تقريبًا: "نحن فقط نريد تسجيل الاجتماع لأرشيف الدولة". لكن الحقيقة أن الكل كان يتجسس على الكل.
صدام، قبل حضوره لتلك القمم، كان يرسل فريقًا خاصًا لتعقيم غرفته من أي أجهزة تنصت، ويحمل معه ستائر خاصة تغطي الجدران. القذافي كان ينام في خيمته التي ينصبها داخل ساحة الفندق، ويمنع دخول أي شخص إليها دون تفتيش دقيق. الحسن الثاني كان يُدخل أطباقه الخاصة، وماءه المعبأ في المغرب. مبارك كان يغير مسار طائرته في اللحظة الأخيرة، ولا ينام في الغرفة التي يُعلن عنها مسبقًا.
حتى في مؤتمرات مجلس التعاون، التي كان يُظن أنها أكثر أمنًا، كان هناك محاولات للتنصت. في إحدى المرات، عُثر على جهاز إرسال صوتي في حقيبة دبلوماسية وصلت من ليبيا إلى المنامة. التحقيقات أشارت إلى أن الجهاز صُنع في أوروبا الشرقية، وكان موجهًا لرصد مكالمات حساسة.
ربما كانت أشد القصص دموية تلك التي وقعت في تشاد، حين قرر القذافي تصفية أحد ضباطه المنشقين الذين لجأوا إلى نجامينا. الضابط كان يمتلك معلومات خطيرة عن عمليات اغتيال خطط لها النظام الليبي في أفريقيا. حاولت المخابرات المغربية تهريبه إلى المغرب، لكن قبل تنفيذ الخطة، تم استهدافه بسيارة مفخخة في أحد شوارع العاصمة، ومات حرقًا. تم اتهام ليبيا رسميًا، وهدد الحسن الثاني برد قاسٍ، فطلب القذافي وساطة من الجزائر لتخفيف التوتر.
أكثر هذه العلاقات تعقيدًا كانت بين صدام حسين، الرئيس العراقي الحديدي الذي بنى لنفسه صورة الزعيم اللامنتمي، وحافظ الأسد، الذي مثل جناح البعث المناقض في دمشق. منذ انقسام حزب البعث في الستينات، بدأ العداء بين بغداد ودمشق، وتحوّل مع مرور الوقت إلى ما يشبه الحرب الباردة، حيث كانت دمشق تأوي معارضي صدام، وبغداد تمول معارضي الأسد. كان العداء شخصيًا وعقائديًا. وحين اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، اختارت سوريا دعم إيران، عدوة العرب الأولى في تلك اللحظة، فقط لأن العدو المشترك هو صدام. لم يكن ذلك مجرد موقف سياسي، بل صفعة مدوية في وجه بغداد، جعلت صدام يُقسم أنه لن يصفح أبدًا.
تكررت محاولات الغدر. إحدى الروايات تشير إلى أن المخابرات العراقية خططت لاغتيال حافظ الأسد عبر تفجير موكبه في أحد شوارع دمشق باستخدام عبوة ناسفة يتم التحكم فيها عن بعد، وكانت الخطة تمرّ عبر عميل مزدوج تمكن من التسلل إلى جهاز الأمن السوري. لكن المعلومة تسربت، وتم القبض على المنفذين قبل التنفيذ. في المقابل، دعمت دمشق محاولة انقلاب داخلية ضد صدام في 1993، كانت تقودها مجموعة من الضباط البعثيين الناقمين، وتم اكتشافها في اللحظات الأخيرة، وأُعدم المشاركون شنقًا.
أما معمر القذافي، فكان زعيمًا مختلفًا. هوسه بالزعامة الكاملة، ورغبته في تدمير كل الأنظمة المجاورة له إن لم تخضع لسلطته الرمزية، جعلته في حالة صراع دائم مع الجميع. دخل في مواجهة مباشرة مع الحسن الثاني، ملك المغرب، حين دعم جبهة البوليساريو بالسلاح والمال والتدريب، وكانت الرسالة واضحة: إذا لم تتخلَّ عن الصحراء، فسأحرقك من الداخل. استشاط الحسن الثاني غضبًا، ورد بطريقته الماكرة، حيث زود المخابرات الفرنسية بمعلومات عن خطوط الإمداد الليبية إلى البوليساريو، وسرّب صورًا لجنود ليبيين في الصحراء، ما أدى إلى فضيحة دولية.
وتصاعدت الأمور حين نجا الحسن الثاني من محاولة اغتيال مدبرة، يُقال إن القذافي موّلها عبر تنظيم يساري مغربي، وكان الهدف تنفيذ عملية تفجير داخل قاعة كان سيحضر فيها الملك احتفالًا رسميًا. فشلت المحاولة، لكن رسائل الخطر وصلت. فرد الحسن الثاني بالمثل: سُمح للمعارضة الليبية باستعمال الأراضي المغربية، بل وتم التنسيق بين الرباط وباريس في عمليات سرية ضد مواقع تدريب ليبية على الحدود مع النيجر.
مبارك، الذي دخل المسرح بعد اغتيال السادات، كان أكثرهم براعة في الدبلوماسية المتحفظة. لكنه حين شعر أن القذافي يتجاوز حدوده، خاصمه سرًا. القصة الأشهر بينهما كانت تلك التي دارت حول محاولة ليبيا تجنيد أحد حراس مبارك لاغتياله أثناء زيارته لطرابلس في أوائل التسعينات. الحارس اعترف في القاهرة، وتم ترحيل الوفد الليبي بشكل فوري من مصر، وتوقفت العلاقات لسنوات.
لكن أقوى القصص، وأغربها، تلك التي دارت بين مبارك وصدام حسين، وهي قصة تجسّد انعدام الثقة إلى حد الجنون. بعد حرب الخليج الثانية، انقطعت كل العلاقات بين العراق ومصر. كان صدام يعتقد أن مبارك خانه، وأغراه الأمريكيون بالمال مقابل المشاركة في إسقاطه. في بداية 2002، ومع تصاعد الحديث عن غزو أمريكي وشيك للعراق، طلبت إدارة بوش من مبارك التدخل شخصيًا لإقناع صدام بالتنحي.
كان اللقاء بينهما أشبه بلقاء ثعابين. حمل مبارك ساعة يد فاخرة مزودة بكاميرا دقيقة جدًا وميكروفون، صنعتها شركة تكنولوجية يابانية متخصصة، وأُعطيت له من المخابرات الأمريكية. وكان الهدف هو تسجيل كل ما يقوله صدام خلال الجلسة. عندما وصل مبارك إلى بغداد، قوبل بترحاب ظاهري. صدام كان يبتسم، لكن عينيه تشي بالريبة. أثناء الحديث، لاحظ أحد ضباط الحرس الخاص أن الساعة في يد مبارك غريبة الشكل، مختلفة عن الساعات التي اعتاد رؤيتها. همس لصدام، فابتسم هذا الأخير وقال: "قبل أن تغادر، دعنا نتبادل الهدايا".
نزع ساعته الخاصة، التي قيل إنها كانت هدية من الملك حسين، وقدمها لمبارك، وطلب من هذا الأخير أن يمنحه ساعته كذكرى. لم يجد مبارك مهربًا، واضطر لتقديم الساعة المشبوهة. وبعد خروجه من القصر، دخل صدام إلى غرفة عمليات سرية، وتم تفكيك الساعة في أقل من نصف ساعة، لتظهر الكاميرا الدقيقة والمكروفون. بعد أيام، ألقى صدام خطابًا ناريًا في بغداد، قال فيه: "بعض الزوار يظنون أن الهدايا تُمرر بها الأسرار، لكننا نقرأ ما في جيوبهم، ونفكك ما في ساعاتهم. فليحذروا!".
تلك القصة كانت ضربة استخباراتية قاسية لمبارك، لكنها أيضًا كشفت عمق الصراع غير المُعلن. فقد صدام أي أمل في التفاوض مع مصر، وأدرك أن المعركة القادمة لن تكون فقط مع الغرب، بل مع أشقاء الأمس.
في قمة عربية جمعتهم جميعًا في أواخر التسعينات، تم زرع أجهزة تسجيل في قاعة الاجتماعات من طرف ثلاث وفود مختلفة على الأقل: العراق، ليبيا، والمغرب. تم اكتشاف الأجهزة عبر فرقة أمنية سعودية كانت مكلفة بتأمين المكان، وعندما واجهوا القادة، كانت الإجابة واحدة تقريبًا: "نحن فقط نريد تسجيل الاجتماع لأرشيف الدولة". لكن الحقيقة أن الكل كان يتجسس على الكل.
صدام، قبل حضوره لتلك القمم، كان يرسل فريقًا خاصًا لتعقيم غرفته من أي أجهزة تنصت، ويحمل معه ستائر خاصة تغطي الجدران. القذافي كان ينام في خيمته التي ينصبها داخل ساحة الفندق، ويمنع دخول أي شخص إليها دون تفتيش دقيق. الحسن الثاني كان يُدخل أطباقه الخاصة، وماءه المعبأ في المغرب. مبارك كان يغير مسار طائرته في اللحظة الأخيرة، ولا ينام في الغرفة التي يُعلن عنها مسبقًا.
حتى في مؤتمرات مجلس التعاون، التي كان يُظن أنها أكثر أمنًا، كان هناك محاولات للتنصت. في إحدى المرات، عُثر على جهاز إرسال صوتي في حقيبة دبلوماسية وصلت من ليبيا إلى المنامة. التحقيقات أشارت إلى أن الجهاز صُنع في أوروبا الشرقية، وكان موجهًا لرصد مكالمات حساسة.
ربما كانت أشد القصص دموية تلك التي وقعت في تشاد، حين قرر القذافي تصفية أحد ضباطه المنشقين الذين لجأوا إلى نجامينا. الضابط كان يمتلك معلومات خطيرة عن عمليات اغتيال خطط لها النظام الليبي في أفريقيا. حاولت المخابرات المغربية تهريبه إلى المغرب، لكن قبل تنفيذ الخطة، تم استهدافه بسيارة مفخخة في أحد شوارع العاصمة، ومات حرقًا. تم اتهام ليبيا رسميًا، وهدد الحسن الثاني برد قاسٍ، فطلب القذافي وساطة من الجزائر لتخفيف التوتر.
في كل تلك القصص، لم تكن المواجهات علنية، لكنها كانت حقيقية، وقاسية. الحروب لم تكن في الجبهات، بل في الغرف المغلقة، في حقائب الدبلوماسيين، في سطور الرسائل المشفرة، وفي ساعات اليد. لم يكن أحدٌ يثق بأحد، بل كان الكل يخاف الكل. ولأنهم لم يعرفوا إلا الخداع، انتهت معظم تلك الزعامات نهاية مأساوية: صدام أُعدم، القذافي سُحل، الأسد غرق في حرب أهلية، مبارك أُطيح وسُجن، والحسن الثاني مات وهو يرى الخريطة العربية تزداد تمزقًا.
وهكذا، كانت حكاية الزعماء العرب ليست حكاية قيادة أو مشروع، بل حكاية سموم تسرّبت إلى كل ما بنوه، فانهار مثل بيت من ورق، لا أساس له سوى الخوف والدم. لقد علمونا كيف تكون الوحدة مستحيلة، حين تكون القلوب مشحونة بالغدر.