خريبكة العطشانة... حين تجري المياه إلى الفوسفاط ويُترك البشر للمصير الجاف

صرخة مدينة تُستنزف: كيف صار الماء في خريبكة امتيازًا للفوسفاط وحرمانًا للناس

مقدمة
 في مدينة خريبكة التي تُعرف منذ زمن بعيد بأنها أرض الفوسفاط والثروات المعدنية، لم يكن يتخيل أحد أن يتحول العطش إلى واقع يومي يُعاني منه السكان، مدينة كانت تُصدِّر غناها إلى أقاصي الأرض، وتغذي الاقتصاد الوطني، وتملأ تقارير الدولة بالأرقام المشرفة، لكنها تعيش اليوم واحدة من أسوأ لحظاتها، لحظة انقطاع الماء بشكل متكرر، وانهيار البنية التحتية التي كان يُفترض أن تواكب العصر والتقدم، سكان المدينة باتوا ينظرون إلى صنابيرهم بقلق، يتوقعون الانقطاع في كل لحظة، صاروا يملؤون القنينات ويخزنون الماء في البراميل، ويفكرون في كيفية تدبير حاجياتهم اليومية وسط هذا الشح القاتل، الأطفال أصبحوا يتأخرون عن المدارس لأن أسرهم لا تملك ما يكفي من الماء لتجهيزهم في الصباح، العجائز لا يجدن ما يغسلن به أوجاعهن، والمقاهي والمخابز توقفت عن العمل في بعض الأحياء لأن الماء ببساطة لم يأت، سكان خريبكة يتحدثون اليوم عن الماء كما لو أنه كنز نادر، كما لو أنهم يعيشون في صحراء لا في مدينة صناعية من أغنى مدن المغرب، واللافت أن الانقطاعات تأتي دون سابق إنذار، ودون برنامج زمني واضح، وكأن الماء صار امتيازًا لا حقًا، وكأن حياة الناس ليست أولوية في قاموس الجهات المسؤولة، وكل ذلك يحدث في ظل صمت أو تبرير رسمي ممل، يختبئ وراء مصطلحات من قبيل الضغط على الشبكة أو أعطاب تقنية أو موجات الحر، بينما الحقيقة أمام أعين الجميع، لا ماء، لا إنصاف، ولا كرامة.
عرض
الواقع أن أزمة الماء في خريبكة ليست معزولة عن سياق أوسع، فهي تعكس خللًا عميقًا في توزيع الموارد، وتعري هشاشة السياسات العمومية في مواجهة التغير المناخي والنمو الحضري المتسارع، لكنها تكشف كذلك عن اختلال أخلاقي أكبر، حيث تُمنح الأولوية للصناعة والاستخراج والتصدير، ويُترك الإنسان للمجهول، المكتب الشريف للفوسفاط هو الاسم الذي يتكرر في كل نقاش، لأنه الفاعل الأكبر في هذه المعادلة، المؤسسة التي تستفيد من الماء بشكل مباشر في عمليات استخراج الفوسفاط وغسله ومعالجته، بل وتستعمله لنقل العجينة الفوسفاطية عبر أنابيب عملاقة نحو الجرف الأصفر، ما يعني أن الماء الذي يُفترض أن يكون أداة حياة أصبح أداة تصدير، وأن الأولوية ليست للناس بل للمناجم، وهذه ليست مجرد استنتاجات عاطفية بل وقائع موثقة، فالمكتب يستهلك ملايين الأمتار المكعبة من الماء سنويًا، بينما سكان خريبكة ينتظرون الدور للحصول على صفيحة ماء واحدة، الصورة تبدو عبثية لكنها حقيقية، كيف يعقل أن يعيش الناس العطش فوق أرض مبللة بالماء الصناعي؟ كيف يُمكن لمنطقة تنتج الملايير من الدراهم أن تعجز عن توفير الماء لشعبها؟ هل هذا مجرد فشل في التدبير أم أنه اختيار سياسي واقتصادي ممنهج؟
أمام هذا الوضع، جاء مشروع تحلية المياه كأمل جديد، المشروع الذي أُطلق رسميًا في يوليوز 2025، والذي أعلنت عنه شركة OCP Green Water التابعة للمكتب الشريف للفوسفاط، يهدف هذا المشروع إلى نقل الماء المحلى من محطة الجرف الأصفر إلى خريبكة عبر أنابيب تمتد لمسافة تفوق 200 كيلومتر، بطاقة تصل إلى 80 مليون متر مكعب سنويًا، وهو مشروع ضخم بلغت كلفته خمسة مليارات درهم، ويُعد الأول من نوعه في المغرب، إذ يتم للمرة الأولى تزويد مدينة داخلية غير ساحلية بالماء المحلى، المشروع استُعمل فيه أحدث تقنيات التحلية المعروفة بالتناضح العكسي، ويُفترض أن يوفر الماء للأنشطة الصناعية والسكنية على حد سواء، بل رُوّج له إعلاميًا على أنه إنجاز بيئي وتنموي واستراتيجي، غير أن سكان خريبكة لم يروا شيئًا من ذلك بعد، فما زالت الانقطاعات مستمرة، والمعاناة اليومية تتكرر، وغياب الماء الصالح للشرب يؤكد أن المشروع لم يصل بعد إلى الشبكات المحلية أو أنه لم يُفعّل كما يُفترض، مما خلق حالة من الشك وفقدان الثقة، هل فعلاً وصلت المياه المحلاة إلى المدينة؟ وإن وصلت، لماذا لا تصل إلى البيوت؟ هل هي مخصصة فقط للمكتب ونشاطاته الصناعية؟ أم أن هناك جهة ما تمنع تحويلها إلى الشبكة العمومية؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات منعدمة، والناس في خريبكة تعبت من الانتظار.
في ظل هذا السياق المشحون، بدأ السكان يُفكرون في خطوات ملموسة للرد على هذا التهميش، وكان أبرزها الدعوة للاحتجاج يوم الإثنين 12 غشت 2025، دعوة انطلقت من الواقع، من الغضب، من الإحساس بالحكرة، من رؤية الأطفال يبكون عطشًا والنساء يقطعن الكيلومترات للبحث عن الماء، من شعور عام بأن المدينة تُستنزف ولا يُستثمر فيها، بأن الفوسفاط يُصدَّر بينما الماء يُحجب، بأن التنمية تُمرَّر في التلفاز بينما في الواقع لا توجد سوى قنينات فارغة وصفوف انتظار ووجوه يائسة، الاحتجاج المزمع ليس مجرد خروج إلى الشارع، بل هو تعبير عن القهر، عن انسداد الأفق، عن صرخة مدينة سُرقت منها الحياة، وجُرّدت من حقها في أبسط مقومات البقاء، الاحتجاج هو محاولة لاستعادة الكرامة، للقول إننا موجودون، إننا لسنا مجرد عمال في المناجم أو أرقام في الإحصاءات، بل بشر لنا حقوق.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالماء، بل بما هو أعمق، بالأولويات التي تحكم منطق الدولة، بالخريطة غير المتوازنة للتنمية، بحقيقة أن المدن المنجمية في المغرب غالبًا ما تكون مهمشة ومحرومة رغم أنها تُنتج ثروات طائلة، النموذج يتكرر في اليوسفية وجرادة وبوكرى، حيث يعيش السكان في أوضاع هشّة رغم أن تحت أرجلهم كنوز، كأن قدرهم أن يُستنزفوا دون مقابل، أن يبنوا اقتصادًا لا يعود عليهم إلا بالغبار والانقطاع والضجيج، خريبكة اليوم تُعيد طرح سؤال العدالة المجالية، لماذا لا تأخذ ما تستحق؟ لماذا تُركت دون استثمارات حقيقية في البنية التحتية؟ لماذا لا يُفرض على المكتب الشريف للفوسفاط أن يُخصص نسبة واضحة من أرباحه لتأهيل المدينة؟ لماذا لا يُشارك في تسيير الماء بدل أن يستهلكه فقط؟ ولماذا لا تكون هناك شفافية تامة حول كمية الماء التي يستهلكها المكتب، والكمية التي تصل إلى السكان؟ وهل من المقبول في دولة تتحدث عن النموذج التنموي الجديد أن تبقى مدينة مثل خريبكة بدون ماء في 2025؟
كل هذه الأسئلة تتردد في أذهان الناس، وتُترجم في أحاديثهم اليومية، في صفحات الفيسبوك، في اللقاءات العائلية، في الشوارع والمقاهي، لقد أصبح الحديث عن الماء جزءًا من الحياة اليومية، ليس باعتباره حاجة بيولوجية فقط، بل كرمز للعدالة، للكرامة، للمواطنة، لقد صار الماء مرآة يُرى فيها كل ما هو مختل، وكل ما هو فاسد، وكل ما هو غير عادل، وصار غيابه يعني أكثر من مجرد عطش، إنه دليل على أن من يمسك بزمام الأمور لا يضع الإنسان في مركز القرار، وأن الاستراتيجيات لا تنطلق من هموم الناس الحقيقية، بل من حسابات أخرى لا يعرفها المواطن ولا تهمه.
الواقع أن خريبكة لا تطلب المعجزات، لا تريد مشاريع خيالية، ولا أبراجًا زجاجية، بل تطلب فقط ماءً نظيفًا يصلها بانتظام، وبسعر معقول، وبكرامة، تطلب أن لا تكون ضحية لمعادلة غريبة تعطي كل شيء للمكتب ولا تعطي شيئًا للمدينة، تطلب أن تُحترم كباقي المدن، أن يُستثمر فيها كما يُستثمر في طنجة أو الرباط أو الدار البيضاء، تطلب أن يُعامل سكانها كبشر، لا كعمال أو مجرد أصوات انتخابية، تطلب أن يُعاد النظر في العلاقة بين الثروة والتنمية، بين المركز والهامش، بين من يُقرر ومن يدفع الثمن، خريبكة اليوم تمثل امتحانًا للدولة، امتحانًا للسياسة، امتحانًا للأولويات، فإذا لم تُحل أزمة الماء الآن، وإذا لم تُسمع صرخة السكان، وإذا لم يُحاسب المسؤولون عن هذا العبث، فإن الأمور ستزداد سوءًا، وسيفقد الناس ثقتهم، وستتحول خيبة الأمل إلى غضب عارم، قد لا يمكن التحكم فيه غدًا.
لقد آن الأوان أن نقول بوضوح: لا تنمية بدون عدالة، لا ثروة بدون توزيع منصف، لا ماء بدون إرادة سياسية حقيقية، لا كرامة بدون احترام المواطن، خريبكة ليست مدينة من الدرجة الثانية، ولا هي حقلًا يُزرع فيه الفوسفاط ثم يُنسى، هي مدينة من لحم ودم، من ناس حقيقيين، من أطفال يحلمون، من أمهات يقاومن، من شيوخ يستحقون الراحة، خريبكة تستحق الحياة، وتستحق أن تُروى لا أن تموت عطشًا.
وما يزيد الطين بلة هو ذلك الشعور المتنامي لدى سكان خريبكة بأنهم صاروا غير مرئيين، كأن صراخهم لا يصل، وكأن عطشهم لا يُحس، وكأنهم يعيشون في منطقة عازلة بين الدولة والشركات الكبرى، مجرد بقعة تستنزف دون هوادة، ثم تُنسى حين يتكلم الجميع عن التنمية والنموذج الجديد والتوازنات الكبرى، يتحدث المسؤولون عن الفوسفاط كمفخرة وطنية ويبررون به أرقام النمو، ويُبنى عليه جزء من رواية السيادة الصناعية والاقتصادية، لكنه في عيون أبناء خريبكة لا يعني سوى الشاحنات التي تمر من أمام بيوتهم وهي تنقل خيرات أرضهم إلى موانئ التصدير، بينما هم يغرقون في الغبار، ويبحثون عن قطرة ماء، لقد تعبوا من التناقضات، من الفجوة بين الخطاب والممارسة، من ازدواجية المعايير، من كونهم لا يستفيدون من الثروة التي تُستخرج من تحت أرجلهم، بل يدفعون الثمن البيئي والاجتماعي والنفسي، ويُطلب منهم الصمت والرضا.
إن أصعب ما يشعر به الإنسان ليس الفقر ولا الحاجة فقط، بل الإحساس بأنه غير محسوب في المعادلة، بأن آلامه لا تُؤخذ بعين الاعتبار، وأنه مهما صرخ أو اشتكى فلن يتغير شيء، وهذا تحديدًا هو ما يجعل أزمة الماء في خريبكة ليست فقط أزمة مادية، بل أزمة ثقة، أزمة علاقة بين الدولة ومواطنيها، أزمة فهم للأولويات، أزمة توجيه للثروات، الناس لا يكرهون المكتب الشريف للفوسفاط لمجرد أنه يستهلك الماء، بل لأنهم يرونه يتصرف كما لو أنه الكيان الوحيد الذي يستحق التزود بالماء دون انقطاع، بينما هم مجرد عبء ثانوي في الحسابات الكبرى، لا أحد أخبرهم بوضوح لماذا تنقطع المياه عن أحيائهم لأيام، ولا أحد فسر لهم إلى أين تذهب تلك الكميات الضخمة من الماء، ولا أحد اهتم بأن يطمئنهم أو يُشركهم في القرار، كل ما فعلوه هو أنهم أعلنوا عن مشاريع ضخمة في الصحف، وقصوا شريط التدشين، ثم انسحبوا إلى صمتهم المريح.
والسؤال الذي لا بد أن يُطرح الآن هو: هل نحن أمام أولى إشارات التصحر البشري في المدن الداخلية؟ هل بدأ المغرب يواجه فعليًا أزمة إدارة موارد حيوية على رأسها الماء؟ وهل الحلول المعلن عنها كافية وعادلة؟ مشروع تحلية المياه مثلًا، رغم كونه خطوة طموحة تقنيًا، إلا أنه يطرح إشكالات عدة، من بينها كلفة الإنتاج، وطريقة التوزيع، ومن له الأسبقية في الاستفادة منه، وإذا كان المشروع موجّهًا أساسًا للأنشطة الصناعية، فماذا عن الأسر الفقيرة؟ وماذا عن الأحياء الهامشية؟ وماذا عن القرى المحيطة بخريبكة التي تعاني بدورها من عطش مزمن؟ وهل ستظل العلاقة بالماء محكومة بالقدرة على الدفع أم أنها ستُصان كمصلحة عمومية وحق إنساني؟
الأدهى من ذلك أن مشروع تحلية مياه البحر ونقلها نحو خريبكة يُروَّج له بوصفه نموذجًا للاستدامة والابتكار الأخضر، غير أن الحقائق على الأرض تكذب هذا الخطاب المثالي، لأن الاستدامة لا تكون فقط باستخدام تقنيات حديثة، بل أيضًا بتوزيع عادل للموارد، وبإشراك السكان، وببناء الثقة، وبتحقيق الشفافية، وهذا ما لا يحدث في خريبكة، فالمشروع أُعلن عنه من فوق، من دون أي نقاش عمومي محلي، ولم يُشرح للسكان كيف سيُغيّر حياتهم أو متى سيلمسون أثره، وحتى اليوم لا يُعرف متى سيتوقف مسلسل الانقطاعات، أو إن كانت المياه المحلاة ستُضخ فعلًا في شبكة المدينة، أم أن الأولوية ستظل للمكتب ومصانعه وأنابيبه، بينما يُطلب من المواطن أن يصبر ويُقنّن ويستهلك بحذر وكأنه يعيش في كوكب آخر.
كل هذه الأسئلة لا تجد جوابًا، لأنها ببساطة لا تُطرح في المؤسسات المنتخبة بشكل جاد، ولا تُناقش في المجالس المحلية التي كثيرًا ما تُدار بمنطق الولاء السياسي لا الكفاءة والمساءلة، ولأن الصحافة الجهوية المستقلة القادرة على التحقيق والتقصي والضغط غائبة أو مهمشة، ولأن النخب المحلية غالبًا ما تنخرط في منطق التبرير أو الانتظار أو الصمت، فيجد المواطن نفسه وحيدًا، لا يملك سوى صوته وهاتفه ومواقع التواصل، ينشر الصور، يكتب التدوينات، يشارك مقاطع الانقطاعات، لعلها تصل إلى من يهمه الأمر، ومع ذلك لا شيء يتغير، تتكرر الأزمة وكأن الزمن متوقف، وكأن العطش قد أصبح جزءًا من هوية المدينة.
وفي خضم هذه التراكمات، تُطرح أسئلة أكبر: ماذا بعد احتجاج 12 غشت؟ ماذا لو لم يُستجب للمطالب؟ ماذا لو استمرت الأزمة؟ هل ستتوسع رقعة الغضب؟ هل ستنضم مناطق أخرى إلى الاحتجاج؟ وهل ستفهم السلطات أن المسألة لم تعد تقنية بل اجتماعية وسياسية بامتياز؟ إن ما يحدث في خريبكة لا يجب أن يُنظر إليه باعتباره حالة معزولة، بل هو مؤشر على هشاشة نموذج التنمية في المغرب، وعلى فشل ربط الثروة بالعدالة، وعلى عمق الفجوة بين من يُدبّر ومن يعيش التدبير، وربما يكون ما يحدث الآن إنذارًا بما قد يقع في مدن أخرى، إذا لم يتم تدارك الأمور بإجراءات شجاعة، شفافة، عادلة، تراعي الإنسان قبل الأرباح، والمواطن قبل المؤسسات.
خاتمة
إن سكان خريبكة لا يريدون سوى العدل، سوى ماء نظيف يصلهم بانتظام دون تمييز، سوى سياسة تُنصت إليهم لا تُملي عليهم، سوى شراكة حقيقية في القرار لا استغلالًا صامتًا لواقعهم، يريدون من المكتب الشريف للفوسفاط أن يكون شريكًا في الحياة وليس فقط في الاستخراج، أن يُسهم في التنمية الحقيقية لا في صور الماركات والجوائز الدولية، أن يعيد للمدينة بعضًا مما أخذ منها، أن يعترف بأن البشر أهم من الأنابيب، وأن القطرة التي تنقذ إنسانًا أهم من الشحنة التي تُصدر إلى الخارج، يريدون من الدولة أن تراهم، أن تسمعهم، أن تفهم أن العدالة ليست شعارًا بل ممارسة، وأن الماء ليس فقط موردًا بل اختبارًا للإنصاف، يريدون أن يكون العطش استثناء لا قاعدة، وأن يُعاملوا كمواطنين لا كأرقام في بيانات الاستهلاك، يريدون فقط أن يعيشوا بكرامة.
تعليقات