من يضمن استمرار الملكية في المغرب؟ قراءة في توازنات السلطة وشرعية الحكم

الملكية المغربية بين إرادة الشعب وتحديات النظام الحزبي: تحولات الشرعية وآفاق التغيير


 في خضم النقاش المتجدد حول طبيعة النظام السياسي في المغرب، وما إذا كانت الملكية تشكل ضمانة للاستقرار أو عائقًا أمام الديمقراطية، يبرز تساؤل عميق وحساس يتعلق بجهة الضمان الحقيقي لاستمرار النظام الملكي: هل هو الشعب الذي يتشبث تاريخيًا بالمؤسسة الملكية؟ أم الأحزاب السياسية التي تتعايش مع هذا النظام دون أن تنازعه السلطة الحقيقية؟ أم القوى الخارجية التي ترى في الملكية المغربية ركيزة لاستقرار إقليمي يخدم مصالحها؟ إن النظر إلى هذا السؤال يتطلب تجاوز القراءات السطحية والاقتراب من حقيقة العلاقة بين السلطة، والشرعية، والمصلحة، خاصة في بلد كالمغرب يتمتع بخصوصية تاريخية وثقافية ودينية تجعل من الملكية أكثر من مجرد مؤسسة سياسية.

من خلال التجربة التاريخية للمغرب، يتضح أن الشعب لعب دورًا أساسيًا في ترسيخ الملكية، خصوصًا بالنظر إلى البعد الديني الذي يمنح الملك صفة أمير المؤمنين، وهو ما يجعله في نظر فئات واسعة من المواطنين حاميًا للهوية الدينية والوطنية، بل وضامنًا لوحدة البلاد. هذا البعد يمنح الملكية شرعية رمزية يصعب تجاوزها، خصوصًا في ظل تراجع أداء الأحزاب، وتراكم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وانهيار ثقة المواطنين في البدائل المطروحة. وفي نفس السياق، يُعتبر دعم القوى الخارجية، خصوصًا الدول الغربية والخليجية، عنصرًا مكملًا لهذه الشرعية، إذ ترى في الملكية المغربية شريكًا موثوقًا قادرًا على ضمان الأمن والاستقرار ومحاربة الهجرة والإرهاب، فضلًا عن دوره في احتواء الإسلام السياسي وتمثيل نموذج "معتدل" في المنطقة. لكن هذه القوى ليست ضمانة أبدية، فهي تتخلى عن حلفائها إن هم فقدوا السيطرة أو فشلوا في حماية مصالحها، كما أظهرت تجارب متعددة في المنطقة.

أما الأحزاب السياسية، فقد فقدت بشكل كبير دورها كمؤسسات تمثيلية تعبر عن تطلعات الشعب، وأصبحت في نظر شريحة واسعة من المواطنين مجرد أدوات لتجميل المشهد الديمقراطي أو لإضفاء شرعية انتخابية على قرارات يتم اتخاذها في دوائر ضيقة. الأحزاب اليوم، في الغالب، تعيش أزمة مزدوجة: أزمة ثقة من الشعب، وأزمة تبعية للسلطة. فهي لا تملك القدرة على التأثير في القرار السياسي الحقيقي، ولا تملك المصداقية لتمثيل هموم الناس، ما يجعلها مجرد وسيط لا فاعلية له. ولذلك، فإن الحديث عن أن الأحزاب تضمن بقاء الملكية فيه كثير من المبالغة، لأن وجودها نفسه أصبح مشروطًا بحدود ما تسمح به المؤسسة الملكية. ولعل التجربة الحكومية الحالية برئاسة عزيز أخنوش تقدم نموذجًا واضحًا لما يمكن أن يؤدي إليه التواطؤ بين السلطة والمال، وتحييد الأحزاب من دورها الطبيعي. حيث يشعر المواطن أن الحكومة لا تمثله، وأن الأحزاب لا تدافع عن مصالحه، وأن الفاعل الوحيد الذي يمكن أن يتدخل هو الملك، فيستغيث به كما لو أنه فوق الدولة نفسها، ويطالبه بالتدخل لتصحيح مسارات الخطأ، وكأن البرلمان والحكومة والوزراء مجرد واجهة.

هذا الشعور المنتشر يجعل فئة من المواطنين تميل إلى فكرة السلطة المركزية المباشرة، أي أن يتولى الملك شخصيًا تسيير الشأن العام، دون وسطاء ولا واجهات حزبية، على الأقل في مرحلة انتقالية يمكن خلالها تجربة هذا النموذج. هذه الرؤية، التي بدأت تجد صدى في النقاش العمومي، تقوم على مبدأ أن الشعب يثق في الملك أكثر مما يثق في أي حزب، وأنه في ظل فشل كل التجارب الانتخابية، فإن الأجدر أن يُمنح الملك سلطة مطلقة لفترة محدودة، يمارس فيها الحكم بشكل مباشر، ويحاسبه الشعب خلالها على نتائج واقعية، لا على وعود انتخابية. فإذا نجح الملك في تحسين الوضع، واستطاع تحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، وضمان كرامة المواطن، فحينها تصبح السلطة المركزية شرعية بالكامل، ويستمر هذا النموذج. أما إذا فشل، فيجب إعادة النظر في الشكل الكامل لنظام الحكم، سواء بإعادة هيكلة الأحزاب، أو تجاوزها بنموذج جديد قائم على الكفاءة بدل الانتماء السياسي.

وفي هذا السياق، يظهر سؤال حاسم: من الأجدر بالدفاع عن الملكية أو نقدها؟ هل هم السياسيون الذين يستفيدون منها؟ أم المواطنون الذين يدفعون ثمن فشلها إن لم تُصلح نفسها؟ الواقع يقول إن الأحزاب لا تملك من الجرأة ما يكفي لتقييم النظام بصدق، لأنها إما جزء منه، أو أنها تخشى من فقدان ما تبقى لها من سلطة شكلية. بينما يظل المواطن العادي، رغم بساطته، هو صاحب الموقف الأصدق، لأنه يعيش يوميًا آثار السياسات، ويرى بوضوح الفرق بين الخطاب والواقع. ولذلك، فإن الدفاع عن الملكية أو نقدها يجب أن ينطلق من المواطن، لا من النخب المتحالفة مع السلطة، ولا من معارضة ممسوخة لا تملك رؤية بديلة.

ومن جهة أخرى، لا يمكن فصل الملكية عن الأحزاب بشكل مطلق، إذ أن النظام السياسي المغربي بُني تاريخيًا على توازن هش بين الطرفين، حيث تحتفظ الملكية بالقرار الحقيقي، وتمنح للأحزاب مساحة محدودة للمشاركة الشكلية. هذا التوازن لم ينتج ديمقراطية فعلية، ولا حكمًا فعالًا، بل أنتج حالة من الارتباك في المسؤوليات، بحيث لا يعرف المواطن من المسؤول عن الفشل: هل هو الوزير؟ أم الحزب؟ أم الملك؟ هذه الضبابية في توزيع السلطة تُعتبر من أبرز عوائق التطور السياسي، لأنها تفرغ مفهوم المحاسبة من مضمونه، وتجعل كل طرف يتنصل من المسؤولية حين تقع الأزمة. وعليه، فإن الحل ليس في الإبقاء على هذا التوازن المختل، بل في حسم طبيعة النظام السياسي، وتحديد من يحكم فعلًا، ومن يُحاسب فعليًا.

ومن هنا، تبرز أطروحة الملكية البرلمانية، التي تم التنصيص عليها في دستور 2011، ولكن دون تطبيق فعلي. فالنص الدستوري يمنح الحكومة صلاحيات واسعة، ويجعل من الملك حكمًا فوق المؤسسات، ولكن الواقع يقول إن المؤسسة الملكية ما تزال تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، سواء بشكل مباشر أو عبر مستشاريها، أو عبر الأجهزة المرتبطة بها. والمشكل ليس في الملك كشخص، بل في النظام ككل، لأنه يجمع بين الحكم والتنفيذ والتحكيم، دون توازن حقيقي بين السلطات. ولهذا، فإن الدعوة إلى تطبيق فعلي للملكية البرلمانية، أي أن تحكم الحكومة المنتخبة فعليًا، وأن تبقى المؤسسة الملكية في موقع رمزي وديني وتحكيمي، هي دعوة عقلانية ومنطقية، لكنها تصطدم بخوف عميق لدى فئات واسعة من المغاربة، الذين لا يثقون في الأحزاب، ولا في النخب السياسية، ولا في البرلمان، ويعتبرون أن غياب الملك عن الشأن التنفيذي سيُغرق البلاد في فوضى وفساد أكبر. وهذا ما يفتح الباب أمام جدلية غريبة: الناس تطالب بديمقراطية فعلية، لكنهم لا يثقون في أدواتها، ويطالبون بحكم رشيد، لكنهم يفضلون أن يتولاه الملك مباشرة، لا المؤسسات المنتخبة.

هذا التناقض لا يُحل إلا بإعادة بناء الثقة من جديد، وإصلاح عميق لمفهوم التمثيلية السياسية. فلا يمكن أن تستمر البلاد في حالة من الانقسام بين سلطة فعلية غير منتخبة، وسلطة منتخبة بلا فعالية. ولا يمكن كذلك أن تُمدد شرعية الملكية إلى ما لا نهاية دون مراجعة دورها في التنمية، والعدالة، وضمان الحقوق، خاصة في ظل تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية عميقة. إن الملكية المغربية إذا أرادت أن تضمن لنفسها الاستمرارية الطويلة، فيجب أن تبني هذه الشرعية على قاعدة صلبة من التوازن بين السلطة والمحاسبة، وأن تتخلى عن فكرة الوصاية على الشعب، وأن تثق في نضج المواطن، وتسمح له بممارسة دوره الكامل في التقييم والمساءلة. كما أن على الملكية أن تعيد النظر في علاقتها بالأحزاب، فلا تبقى رهينة أحزاب فاسدة، ولا تكتفي بحكومات صورية، بل تشجع على بروز نخب جديدة، مستقلة، كفؤة، قادرة على تقديم بدائل حقيقية.

وفي هذا الإطار، قد يكون من المفيد التفكير في تجريب نماذج جديدة للتمثيلية، خارج الأحزاب التقليدية، مثل القوائم المستقلة، أو النخب المحلية، أو التكنوقراط المنتخبين، أو المجالس الجهوية القوية، شريطة أن يتم ذلك في إطار شفاف ونزيه، يربط المسؤولية بالمحاسبة، ويمنح المواطن القوة الحقيقية للتغيير عبر صناديق الاقتراع. ومن جهة أخرى، يجب أن يتحرر القضاء من كل وصاية، وأن يتحول إلى مؤسسة مستقلة تراقب الجميع، وتحمي المواطن من تعسف السلطة، سواء كانت هذه السلطة بيد ملك أو حزب أو شخص أو مؤسسة. لأن العدالة هي الأساس الحقيقي لأي شرعية، والدولة التي لا تملك قضاءً مستقلًا، لا يمكن أن تُقنع مواطنيها بأنها عادلة، مهما كانت شعاراتها رنانة.

كما أن الإعلام يجب أن يتحرر من الرقابة والخوف، وأن يُسمح له بلعب دوره كمراقب ومحاسب وكاشف للحقائق، لا كأداة للدعاية والتسويق والتبرير. فالمجتمعات لا تتطور بالخوف، ولا بالولاء الأعمى، بل بالحوار الحر، والنقد البناء، وتعدد الآراء. وعلى النظام ككل أن يفهم أن قوة الدولة لا تُقاس بمدى خضوع المواطنين، بل بمدى مشاركتهم الحرة في القرار، واقتناعهم الداخلي بشرعية النظام. فالتعايش السلمي لا يتحقق بالقمع ولا بالدعاية، بل بالعدالة والكرامة.

إن الملكية في المغرب أمام لحظة تاريخية حاسمة: إما أن تقود تحولًا ديمقراطيًا حقيقيًا، يُعيد بناء الثقة، ويُصلح المؤسسات، ويُحقق العدالة، أو تستمر في إدارة توازن هش بين شعب ناقم وأحزاب فاشلة وقوى خارجية متغيرة المصالح. وفي الحالتين، فإن عمر الأنظمة لا يُقاس بطول التاريخ فقط، بل بقدرتها على تجديد شرعيتها، ومواكبة تحولات شعوبها، والارتقاء إلى مستوى تطلعاتهم. الملكية يمكن أن تبقى، وتبقى قوية، لكن شرط أن تتحول من مؤسسة فوق الشعب إلى مؤسسة في خدمته، ومن حكم مطلق إلى مسؤولية مشتركة، ومن سلطة أبدية إلى عقد اجتماعي متجدد، يقوم على الوضوح، والمساءلة، والعدل، والمشاركة.
تعليقات