فيضانات السعودية: بين المطر والكارثة
مقدمة
لطالما عُرفت المملكة العربية السعودية بمناخها الصحراوي القاسي وشحّ الأمطار الذي يجعل من المطر حدثاً استثنائياً يبعث في النفوس شيئاً من الفرح والارتياح، غير أن هذه الظاهرة الطبيعية التي كانت تُستقبل بالترحيب صارت في السنوات الأخيرة تحمل في طياتها وجهاً آخر أكثر قسوة، يتمثل في الفيضانات والسيول المفاجئة التي تجتاح مدناً وقرى وتحول لحظات الفرح إلى كوارث إنسانية وخسائر مادية جسيمة. إن مشاهد السيارات وهي تُجرف في شوارع جدة أو محايل عسير، وصور العائلات التي فقدت أبناءها في القنفذة أو في أطراف مكة، لم تعد استثناءً عابراً وإنما جزءاً من واقع مناخي آخذ في التغير ويستدعي كثيراً من التأمل والبحث في الأسباب والجذور والنتائج.
عرض
ففي أواخر أغسطس من عام 2025 على سبيل المثال، شهدت مناطق جنوب غربي المملكة هطولات مطرية كثيفة حوّلت الشوارع إلى مجاري مياه عارمة، حيث غمرت السيول مناطق محايل عسير وأطاحت بالسيارات كأنها ألعاب صغيرة، وأجبرت السلطات على توجيه التحذيرات العاجلة وإغلاق طرق رئيسية. ولم تمض ساعات حتى تناقلت وسائل الإعلام حادثة مأساوية في القنفذة راحت ضحيتها أم وطفلها حين جرف السيل سيارة العائلة إلى منحدر خطير، بينما تمكّن الأب من إنقاذ اثنين من أبنائه بأعجوبة. هذه المأساة الإنسانية التي هزّت القلوب أعادت إلى الأذهان مشاهد مشابهة وقعت قبل سنوات في جدة ومكة والباحة، حيث يتكرر السيناريو تقريباً بنفس الوتيرة: أمطار غزيرة غير متوقعة، سيول جارفة، ضحايا بين قتيل ومفقود، وأضرار مادية ضخمة تطال الممتلكات والبنى التحتية.
الظاهرة ليست جديدة كلياً على المملكة، فقد عرفتها جدة بشكل مأساوي في نوفمبر 2009 حين اجتاحت السيول المدينة وأودت بحياة 122 شخصاً وخلفت آلاف المفقودين وأضراراً قُدّرت بمليارات الريالات. كان ذلك الحدث بمثابة صدمة كبرى فضحت هشاشة البنية التحتية أمام قوة الطبيعة، وفتحت النقاش على مصراعيه حول الفساد الإداري وسوء التخطيط العمراني الذي سمح بالبناء في مجاري الأودية وحوّل مسارات السيول الطبيعية إلى أحياء سكنية مزدحمة. وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على تلك الفاجعة، ما تزال الدروس المستخلصة منها غير مطبقة بالكامل، والدليل أن جدة نفسها عادت لتغرق في نوفمبر 2022 بعد هطول أمطار غزيرة شلت الحركة الجوية وأغلقت المدارس والطرق المؤدية إلى مكة، لتؤكد أن المشكلة لم تكن في حدث استثنائي وإنما في خلل هيكلي مزمن.
العوامل التي تؤدي إلى تكرار هذه الفيضانات في السعودية متعددة ومتشابكة، بعضها طبيعي يرتبط بالتغيرات المناخية العالمية وبعضها بشري يعود إلى التخطيط الحضري والقصور في إدارة الموارد المائية. من الناحية الطبيعية، تشير الدراسات المناخية الحديثة إلى أن منطقة مكة المكرمة، بما فيها جدة والطائف، شهدت خلال العقود الأربعة الماضية تزايداً ملحوظاً في عدد الأيام الممطرة بغزارة شديدة، خصوصاً في شهر نوفمبر، وأن وتيرة هذه الأمطار في ارتفاع مستمر بفعل التغير المناخي العالمي. هذا يعني أن الظواهر الجوية التي كانت تحدث مرة كل عشر سنوات مثلاً صارت اليوم تتكرر بمعدل أكبر، مما يضاعف احتمالية حدوث فيضانات مفاجئة. ومن الناحية الجغرافية، تقع العديد من المدن السعودية الكبرى مثل جدة ومكة في مناطق منخفضة قريبة من الأودية، الأمر الذي يجعلها عرضة لتجميع مياه السيول القادمة من المرتفعات المحيطة.
أما من الناحية البشرية، فإن التوسع العمراني السريع وغير المخطط في بعض الأحيان ساهم في تفاقم الأزمة. فالمناطق التي كانت في الماضي مجاري طبيعية للسيول تم ردمها وتحويلها إلى أحياء سكنية أو تجارية دون دراسة كافية، ومع هطول الأمطار تعود المياه لتبحث عن مسارها الطبيعي غير عابئة بما أقيم في طريقها. أضف إلى ذلك ضعف شبكات تصريف المياه في بعض المدن وافتقارها إلى القدرة على استيعاب كميات هائلة من الأمطار خلال ساعات معدودة، وهو ما يجعل الشوارع تتحول إلى بحيرات والسيارات إلى ضحايا عاجزة أمام التيار. كما أن ثقافة التعامل مع السيول لدى المواطنين لا تزال بحاجة إلى تطوير، فكثيرون يستهينون بالتحذيرات الجوية ويحاولون عبور مجاري السيول بمركباتهم، الأمر الذي ينتهي في الغالب بكوارث إنسانية مؤلمة.
الفيضانات ليست مجرد مشكلة محلية مرتبطة بالأمطار، بل هي قضية إنسانية واقتصادية واجتماعية ذات أبعاد عميقة. من الناحية الإنسانية، لا شيء يوازي ألم فقدان أسرة لأحد أفرادها في حادث كان بالإمكان تجنبه لو وُجدت بنية تحتية أكثر أماناً أو التزام مجتمعي أكبر بالتحذيرات. ومن الناحية الاقتصادية، فإن الخسائر المادية التي تلحق بالمدن المتضررة هائلة، تشمل السيارات والمنازل والمتاجر والطرق والجسور. تقرير فيضانات جدة 2009 قدّر الخسائر التجارية وغير التجارية بما يزيد عن مليار ريال، وهذا دون احتساب الآثار غير المباشرة المتمثلة في تعطيل النشاط الاقتصادي وإرباك الحياة اليومية. ومن الناحية الاجتماعية، تترك هذه الكوارث ندوباً عميقة في الذاكرة الجمعية للمجتمعات المحلية، إذ يعيش الناس حالة من الخوف المستمر كلما تلبدت السماء بالغيوم.
ومع ذلك، فإن التعامل مع هذا التحدي ليس مستحيلاً، إذ توجد حلول علمية وعملية يمكن أن تحد بشكل كبير من آثار الفيضانات. أول هذه الحلول هو تعزيز نظام الإنذار المبكر القائم على الرادارات الحديثة ونماذج التنبؤ المناخي الدقيقة، بحيث يتمكن المواطنون والسلطات من الاستعداد بشكل أفضل قبل هطول الأمطار. ثانيها إعادة النظر في التخطيط العمراني وتجنب البناء في مجاري الأودية والمناطق المنخفضة، مع إنشاء شبكات تصريف مياه أكثر كفاءة قادرة على استيعاب كميات كبيرة من الأمطار. ثالثها إطلاق برامج توعية مجتمعية لترسيخ ثقافة الحذر من السيول، بما في ذلك منع عبور المجاري المائية أثناء الأمطار والتجاوب الفوري مع تعليمات الدفاع المدني. رابعها دعم البحوث الأكاديمية والمراكز العلمية المتخصصة في دراسة التغير المناخي المحلي والإقليمي، من أجل بناء سياسات أكثر استدامة وفعالية في مواجهة هذه الظواهر.
ولا ينبغي إغفال أن الفيضانات في السعودية جزء من مشهد عالمي أوسع، إذ باتت الكوارث المناخية تضرب مناطق مختلفة من العالم بوتيرة متسارعة، من فيضانات باكستان المدمرة عام 2022 إلى الأعاصير التي تجتاح الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية سنوياً. إن ما يحدث في المملكة ليس استثناءً بقدر ما هو انعكاس لتغير المناخ الذي يطال الكوكب كله. وهذا ما يجعل المسؤولية أكبر، فالمسألة لم تعد مجرد قضية محلية يمكن معالجتها بالحلول التقليدية، وإنما جزء من تحدٍّ عالمي يتطلب تعاوناً دولياً في مجالات البحث والتقنية والتخطيط البيئي.
إن مأساة القنفذة الأخيرة، حيث غرق طفل بريء في أحضان أمه تحت سطوة السيل، تختزل ببلاغة موجعة حقيقة الفيضانات في السعودية: ليست مجرد أرقام في تقارير الأرصاد ولا مجرد صور على شاشات الأخبار، بل هي دموع حقيقية تُذرف في البيوت وذكريات حزينة تظل محفورة في القلوب. وربما يكون استذكار تلك القصص الإنسانية هو ما يمنحنا الحافز الأعمق للإصرار على مواجهة هذه الظاهرة بكل ما أوتينا من علم وإرادة.
خاتمة
وفي نهاية المطاف، يظل السؤال مطروحاً: كم من الأرواح يجب أن تُزهق وكم من الممتلكات يجب أن تُدمر قبل أن ندرك أن الاستعداد للكوارث الطبيعية ليس ترفاً بل ضرورة وجودية؟ الإجابة تكمن في الإرادة والوعي، وفي تحويل التحذيرات العلمية إلى سياسات عملية، وتحويل الصرخات الإنسانية إلى خطوات ملموسة تضمن أن يكون مستقبل المطر في السعودية مبعث فرح لا مأساة.