حين يرقص الشيخ على جراح الأمة
في زمنٍ يتأجج فيه العالم العربي بالمآسي والدموع والدماء، وفي الوقت الذي تعيش فيه غزة حصارًا جاثمًا على أرواح أهلها، يتكرر مشهد مؤلم، مشهد ليس جديدًا على هذه الأمة التي سقط رموزها الأخلاقية واحدًا تلو الآخر تحت وطأة الانبطاح، والرياء، والتلون بحسب إيقاع السلطان، مشهد حفل فخم يحتفل فيه أحد أكثر رجال الدين شهرة وتأثيرًا في العالم الإسلامي، وهو الشيخ عبد الرحمن السديس، بزواج ابنته وسط مظاهر بذخ فاحش وطعام متدفق حد التخمة، وأناقة مبالغ فيها وزينة تحاكي قصور ألف ليلة وليلة، بينما في الزاوية الأخرى من هذا العالم الصغير المسمى بالعروبة، ترقد غزة تحت الأنقاض، وأطفالها يبحثون عن شربة ماء وكسرة خبز، ونساؤها يلففن أجساد أطفالهنّ بالشراشف بدل الأكفان، حين لا تجد المستشفيات كيس دم ولا دواء بسيط لعلاج جرح مفتوح، في حين تطفح موائد الحفل في قصر الشيخ بالأطباق المتنوعة التي سرعان ما يُلقى كثير منها في سلال القمامة بعد أن شبعت البطون من كل ما لذّ وطاب، وكأنّ هذا الترف لا يرى، أو لا يهتم، أو لا يعرف أن أناسًا من ذات الدين واللغة والقضية يعانون على بعد ساعات فقط، لكن الحقيقة أن هذا المشهد لم يعد صادمًا إلا لمن لا يعرف أن من صعد على منابر الحرم وأمّ الناس بآيات الوعظ والتقوى هو نفسه من باع كلمته منذ سنين في أسواق السياسة، باعها بثمن بخس، وكانت العملة هي رضى ولي العهد، أما المقابل فكان قصورًا فارهة لا تملك حتى الجدران أن تخفي بذخها، ممرات رخامية، وأسطح منقوشة بالذهب، وحدائق تحاكي حدائق أوروبا في ربيعها، وجدران عازلة عن فقراء مكة وعن الحقيقة المريرة التي لا يمكن سترها: كيف لرجل دين أن يملك كل هذا وهو موظف في منصب ديني؟ من أين له الأموال التي تبني مثل هذه القصور وتغذي مثل هذه الموائد إن لم تكن هدية من السلطان مقابل الولاء؟ الولاء الذي لا يتجلى فقط في الصمت، بل في تزيين باطل الظالم وإلباسه لبوس الشريعة، في تبرير الإعدامات، وتبرير صفقات التطبيع، بل والتحريض على من يقول لا، وتحويل المظلوم إلى خارجٍ عن الجماعة، كل ذلك مقابل قصر، وربما رتبة فخمة، وربما مجرد كلمة شكر في مجلس الحكم، وهذا كله يدفعنا للسؤال الأهم: ماذا تبقى من هيبة الدين حين يصبح الإمام موظفًا عند الطاغية، لا يقول ما يمليه عليه القرآن بل ما يُقرَأ عليه من قصاصات المخابرات؟ كيف يمكن لشيخ أن يصدر بيانًا يهاجم فيه التظاهرات المؤيدة لغزة لأنها "تثير الفتنة" ثم يقيم حفلًا غارقًا في الترف في الوقت الذي تموت فيه غزة حرفيًا من الجوع؟ هل أصبحت غزة خطرًا على الأمن القومي، بينما الغناء والرقص والولائم في قصور العلماء هي صورة الإسلام الحقيقي؟ هل هذا هو التوجيه النبوي في نصرة المظلوم، أن نغض الطرف عنه لأن ولي الأمر لا يريده أن يُذكر؟ وهل أصبحنا نعيش في زمن تزيّف فيه عمائم العلماء ليصبحوا جزءًا من الدعاية السلطوية، يباركون القتل ويغضون الطرف عن التهجير، ولا يجدون غضاضة في الرقص والغناء طالما أن الخطاب العلني يبقى تحت شعار الدين؟ كان الأجدر أن يُشعل الشيخ شمعة دعاء في صمت، لا أن يُشعل آلاف الأضواء ويملأ الفضاء بالزينة والطعام، كان يمكن أن تمر المناسبة ببساطة، بوقار، باحتشام يليق برجل حفظ كتاب الله وصعد منبره، لكنه اختار الاستعراض، أو قُدّر له أن يستعرض ليبقى على الكرسي، وليظل باب القصر مفتوحًا له ولأهله، بينما تبقى أبواب المآذن مغلقة في وجه الأحرار والمخلصين، وتُفتح فقط حين يُستدعى الدين ليُستخدم كوسيلة سياسية، لا كقيمة، ومن هنا تبدو المأساة أكبر من مجرد وليمة زواج، إنها مأساة مجتمع يفقد رموزه، ويفقد ثقته بمن أُوكلت إليهم منابر الدعوة والعبادة، مأساة أمة تشاهد غزة تتفتت ولا تسمع صوتًا من الحرم، بينما تهتف الحناجر في الحفل بالفرح، ولا تسمع صوت أنين جريح، أو صرخة ثكلى، ومن هنا لم يعد ممكنًا التماس العذر، ولا قبول الصمت، فحين تسقط غزة لا يسقط معها فقط حجر أو بيت، بل يسقط القناع عن الوجوه التي كانت يومًا تُبجَّل، وتُحترم، وتساق لها العبارات احترامًا، لكن كل ذلك يُمحى حين يصبح العالم شاهد زور على مجزرة، ولا يملك من الدين سوى مواعظ محفوظة وتسجيلات قديمة لا تنتمي للحظة الراهنة، ثم يطلّ على الناس يوم الجمعة يتحدث عن الزهد والورع بينما هو يعود إلى قصره المحاط بالحراس والمزين بكل ما يتنافى مع ما يعظ به، ويأكل ما يُلقى منه بعد دقائق في القمامة، بينما يدعو الفقراء للرضى بالفتات والصبر على الفقر، يطلب من الناس أن يحمدوا الله على خبز يابس، بينما هو لا يعرف إن كان الطعام يؤكل ساخنًا أم باردًا لأن خدم القصر يهتمون بذلك عنه، ومن هنا لا يعود الخطر في وجود الشيخ أو غيابه، بل في رمزيته، في كونه عنوانًا للتماهي بين الدين والسياسة، بين القداسة والتسلط، بين الطاعة والذل، وهذا التماهي هو ما يمنح الشرعية لكل ما نراه، لأن الناس ما زالوا يقولون: "الشيخ قال"، حتى لو قال ما لم يقله الله، وحتى لو رقص فوق جراح غزة، أو أفتى بما يُرضي الحاكم ويُسخط الأمة، وإن ما حدث في هذا الحفل هو أكثر من مشهد اجتماعي عابر، إنه تعبير مكثف عن التناقض بين ما يُقال وما يُفعل، بين من يدّعي القيادة الدينية ومن يمارس الترف السلطوي، بين رجل كان يُفترض أن يكون صوتًا للحق فأصبح صدى للملك، ومن هنا لا عجب أن تكون أعين الناس على هذا الزفاف أكثر من غيره، لأنهم رأوا فيه حقيقة لم يعودوا يستطيعون إنكارها: أن من يقيم الحفلات الفارهة بينما أهله في غزة يُذبحون ليس فقط بعيدًا عنهم جغرافيًا، بل هو مفصول عنهم وجدانيًا، وإن ادّعى العروبة والدين، لأن العروبة ليست قصيدة تُقال والدين ليس خطبة تُرتل، بل موقف يُتخذ، ودمعة تُذرف، وصوت يُرفع، لكن الشيخ لم يرفع صوته إلا حين أراد ولي الأمر ذلك، ولم يذرف دمعة إلا على ابنته وعريسها، ولم يتخذ موقفًا إلا حين كان الحاكم في حاجة لتغطية دينية على قرار سياسي، ومن هنا كان الزفاف خاتمة رمزية لهذا المسار، خاتمة تؤرخ للتمزق بين الشكل والمضمون، بين اللحى الطويلة والقلوب الفارغة، بين ما يُقرأ في الكتب وما يُمارس في القصور، ومن هنا نفهم كيف تموت غزة، ليس فقط بقصف الاحتلال، بل بصمت من كانوا يُفترض أن يكونوا منارات هداية، فانطفأوا حين جاء السلطان.