الشيطان بين الوهم والحقيقة: رحلة في عوالم إبليس وعبدة الشيطان

 إبليس وظلال الإنسان: قراءة في الأسطورة والواقع

مقدمة

الشيطان أو إبليس هو ذاك الاسم الذي ظل حاضرًا في الذاكرة البشرية منذ فجر التاريخ، كأنه ظلٌ يلاحق الإنسان أينما ذهب، يتخفى في وسوساته، في مخاوفه، في أحلامه المظلمة، وفي رغباته التي يخجل من الاعتراف بها. في التصور الديني، هو كائن حقيقي خُلق من نار، تمرد على الخالق ورفض السجود لآدم، فصار ملعونًا مطرودًا، لكنه نال في الوقت نفسه فرصة أن يختبر الإنسان ويغويه إلى قيام الساعة. في الإسلام هو إبليس الذي أقسم بعزة الله ليضلن بني آدم إلا المخلصين منهم، وفي المسيحية هو لوسيفر، الملاك الساقط الذي أراد أن يكون ندًا لله فسقط إلى هاوية الشر، وفي اليهودية يتجلى أحيانًا في هيئة "الخصم" أو "المتهم" الذي يقف أمام الله ليعترض على البشر. هذا الوجود الغيبي صار حقيقة مطلقة عند المؤمنين، حقيقة لا مراء فيها، لكنه في الوقت ذاته ظل موضع جدل عند الفلاسفة والمفكرين، حتى كاد يتحول من كائن مستقل إلى رمز داخلي يسكن نفس الإنسان. بين الوهم والحقيقة ظل الشيطان يتقلب، مرة كعدو خارجي، ومرة كظل باطني، ومرة كرمز ثقافي يعكس تمرد الإنسان على كل سلطة.

عرض

إذا عدنا إلى البدايات، نجد أن الشعوب البدائية قبل ظهور الديانات التوحيدية كانت تفسر الشرور والكوارث عبر أساطير عن كائنات شريرة: الأرواح، العفاريت، أشباح الليل. في بلاد ما بين النهرين تحدثت الأساطير عن "ليليث"، وفي مصر القديمة عن "عابدي ست"، وفي اليونان عن أرواح هاديس والعالم السفلي. لكن مع مجيء الأديان السماوية، تمركزت صورة الشر في كيان واحد محدد: الشيطان. لم يعد الشر مجرد طاقة غامضة، بل صار شخصية لها قصة وأهداف ومصير. ومنذ تلك اللحظة صار الشيطان أكثر من مجرد تفسير، بل أصبح جزءًا من العقيدة التي تحدد علاقة الإنسان بخالقه، وتضع أمامه امتحانًا دائمًا بين الطاعة والتمرد.

القصة القرآنية عن إبليس حين أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، تحمل في طياتها أبعادًا فلسفية عميقة. فهي من جهة تبرز الاستكبار كمصدر الشر، ومن جهة أخرى تجعل من إبليس نموذجًا للتمرد على الأمر الإلهي. وهنا تتجلى إشكالية كبرى: هل كان إبليس مسيرًا في تمرده أم مخيرًا؟ ولماذا سمح الله له أن يعيش ويغوي؟ هذه الأسئلة رافقت الفكر الإسلامي والمسيحي على السواء، وأنتجت نقاشات حول معنى الشر وحكمته. بعض المفسرين رأوا أن إبليس مجرد أداة لاختبار إرادة الإنسان، وأن وجوده ضروري ليكون للخير معنى. بينما رأى آخرون أنه يمثل جوهر الشر المستقل، ذاك الذي يختبر قدرة الإنسان على التوبة والرجوع.

لكن إذا تركنا مجال الدين وذهبنا إلى الفلسفة، نجد أن الشيطان يتحول إلى رمز داخلي. فرويد، على سبيل المثال، يرى أن ما نسميه وسوسة شيطانية ليس سوى انبثاق للرغبات المكبوتة في اللاوعي. الإنسان يرغب في أشياء محرمة، فيلصقها بصورة شيطان خارجي كي يخفف من مسؤولية نفسه. أما كارل يونغ فيرى أن الشيطان هو صورة "الظل"، أي ذلك الجانب المظلم من النفس الذي يتجاهله الإنسان لكنه يظل حاضرًا فيه. وعندما يظهر في الأحلام أو في الأدب فإنما هو تجسيد لهذا الظل. في هذه الرؤية، يصبح الشيطان وهمًا بالمعنى الخارجي، لكنه حقيقة بالمعنى الرمزي، لأنه يعبر عن جزء أصيل من النفس البشرية.

وإذا انتقلنا إلى الأدب، نجد أن صورة الشيطان أخذت أشكالًا متعددة، فدانتي في الكوميديا الإلهية يصوره كوحش جاثم في الجحيم، أسيرًا مجمدًا في الثلج، يرمز إلى الجمود والخذلان. أما ملتون في "الفردوس المفقود" فقد أبدع صورة أخرى، إذ جعل إبليس شخصية بطولية مأساوية، قائدًا متمردًا له كبرياء، حتى أن بعض النقاد رأوا فيه البطل الحقيقي للملحمة. بينما غوته صوره في شخصية مفستوفيليس الذي يساوم فاوست بالمعرفة واللذة مقابل روحه، فيجسد بذلك غواية الإنسان بالعلم والقوة. هذه الصور الأدبية لم تكن انعكاسًا لعقيدة بقدر ما كانت إعادة تأويل للشيطان بوصفه رمزًا للحرية المتمردة التي تنقلب إلى لعنة.

لكن حضور الشيطان لم يقتصر على النصوص الدينية والفلسفية والأدبية، بل دخل بقوة في الثقافة الشعبية. ففي المجتمعات التقليدية يُعزى أي مرض غامض أو جنون مفاجئ إلى مسّ شيطاني، وتُفسر الكوابيس الليلية بأنها هجوم من جن أو شياطين، وحتى الكوارث الطبيعية يُلقى باللوم فيها على قوى شيطانية. هذه التصورات تجعل من الشيطان حقيقة راسخة في الوعي الشعبي، لكنها حقيقة مشوبة بالوهم، لأن الإنسان في النهاية كان يستعمله لتفسير ما لا يفهمه.

وفي العصر الحديث أخذ الموضوع بعدًا آخر، إذ ظهرت جماعات تعلن صراحة انتماءها للشيطان، مثل كنيسة الشيطان التي أسسها أنتون ليفي عام 1966 في سان فرانسيسكو. ليفي لم يكن يعبد شيطانًا حقيقيًا، بل استخدمه كرمز لفلسفة تمجد الفردية والأنانية والحرية المطلقة. الإنجيليون المحافظون صوروا ذلك على أنه عبادة للشيطان بالمعنى الحرفي، بينما كان في الحقيقة أقرب إلى احتجاج ثقافي. ومع ذلك، ولأن الرموز المستعملة كانت جماجم وقرون وصلبان مقلوبة، فقد ترسخت الصورة في ذهن الناس على أنها عبادة شيطانية فعلية. وفي السبعينات والثمانينات انفجرت ظاهرة "الذعر الشيطاني" في أمريكا وأوروبا، حيث انتشرت قصص عن طقوس دموية وتضحيات بالأطفال وفرق موسيقية تدعو للانتحار. الإعلام ضخّم هذه القصص، فصار كل شاب يرتدي الأسود أو يسمع الميتال يُتهم بأنه من عبدة الشيطان. ومع أن التحقيقات لم تثبت معظم هذه الادعاءات، إلا أن الذعر ترك أثرًا عميقًا، وصارت "عبادة الشيطان" مرادفًا لكل انحراف أو تمرد شبابي.

ولم يسلم العالم العربي من هذه الظاهرة، ففي التسعينات وأوائل الألفية انتشرت أخبار عن مجموعات من الشباب يتجمعون للاستماع لموسيقى الهارد روك والميتال، يرسمون جماجم ويضعون أوشامًا غريبة. الصحافة صورتهم كعبدة للشيطان، وزعمت أن لهم طقوسًا سرية تشمل شرب الدم وممارسة الفجور. بعض القضايا وصلت إلى المحاكم في مصر والمغرب ولبنان، لكن أغلبها انتهى دون أدلة واضحة. ومع ذلك، فإن مجرد الشبهة كان كافيًا ليزرع الخوف ويجعل من كلمة "عبدة الشيطان" مرادفًا لتهديد أخلاقي يهدد الشباب والمجتمع. هذه الحوادث تكشف أن الشيطان في ثقافتنا الحديثة ليس فقط حقيقة دينية، بل صار أيضًا فزاعة اجتماعية تُستعمل لتأديب الشباب المختلف وإعادة دمجه في منظومة القيم التقليدية.

إذا حاولنا أن نلخص، نجد أن الشيطان يتموضع دائمًا في منطقة غامضة بين الحقيقة والوهم. بالنسبة للمؤمنين هو حقيقة غيبية لا تقبل الشك، بالنسبة للفلاسفة هو رمز نفسي وفلسفي، بالنسبة للأدباء هو شخصية فنية تمثل التمرد أو المأساة، وبالنسبة للثقافة الشعبية هو تفسير لكل ما لا نفهمه. لكن في النهاية، يبقى السؤال الأعمق: هل نحن نخشى الشيطان حقًا، أم نخشى ما يعكسه من ظلال أنفسنا؟ قد يكون إبليس كائنًا حقيقيًا قائمًا بذاته، وقد يكون مجرد رمز، لكن الأكيد أنه يظل مرآة نرى فيها عجزنا أمام الشر ورغبتنا في تبريره.

فالإنسان حين يخطئ يقول "الشيطان أغواني"، وكأنه يريد أن يخفف من مسؤوليته، بينما الحقيقة أن الشر يخرج من داخله. وفي الوقت نفسه، فإن الإيمان بوجود عدو خارجي يعطينا عزاءً نفسيًا، لأننا نرى أنفسنا ضحايا لشيطان ماكر، لا فاعلين للشر بأنفسنا. هذه المراوحة بين الداخل والخارج هي ما جعلت الشيطان حاضرًا في كل العصور، حاضرًا كحقيقة وكوهم معًا، حاضرًا كعدو وكظل، حاضرًا كرمز للحرية وكقيد لا يرحم.

خاتمة

وهكذا نستطيع القول إن الشيطان، سواء اعتبرناه حقيقة غيبية أو وهمًا نفسيًا، يظل عنصرًا جوهريًا في التجربة الإنسانية. هو الصورة التي نواجه بها الشر، سواء كان خارجيًا أو داخليًا. هو الذي يجعل من الخير تحديًا، ومن الطاعة امتحانًا، ومن الضعف البشري قصة أبدية. وربما لهذا السبب لم تنجح أي محاولة للتخلص من صورته، فهو يعود في الدين، في الفلسفة، في الأدب، في الإعلام، وحتى في الثقافة الشعبية. إنه الوجه الآخر للإنسان، ذاك الذي يذكره دائمًا أن الخير لا يُعرف إلا بوجود الشر، وأن النور لا يُقدّر إلا حين نرى الظلمة.

تعليقات