الرحمة الغائبة في حضرة الدولة: ماسات احصين في أرضه وبيته

حين يُطلب العدل فتغتصب ارضه باسم القانون: مأساة المواطن تحت سلطة اللا رحمة


 حين تطلب الرحمة من البشر ولا تجدها، تشعر أن كل ما فيك قد خُذل دفعة واحدة، ليس لأنك ضعيف، بل لأنك كنت إنسانًا بما يكفي لتؤمن أن الرحمة ممكنة، أن القلب الذي في صدرك ليس وحده من ينبض، وأن الآهات حين ترتفع، لا يمكن أن تمر كأنها لا تُسمع. لكنك تكتشف، في لحظة مريرة، أن الرحمة قد تصبح رفاهية، وأن الإنسان يمكن أن يُسلَب أرضه، بيته، ذكرياته، وجوده، ولا أحد يلتفت إلى صراخه، لا أحد يتوقف ليسأل: بأي حق؟ بأي قلب؟ بأي عدالة؟ في أرضٍ يُفترض أنها تحت راية إمارة المؤمنين، لا يجب أن يحدث هذا، لا يجب أن يُذَلّ المواطن في حضرة شعار “الله الوطن الملك”، لا يجب أن تُهدم البيوت على أهلها بقرارات باردة، لا يُعرف من اتخذها، ولا لماذا، ولا لمصلحة من، ثم يُقال للناس: القرار جاء من فوق، من القصر، كأن هذه الجملة وحدها تكفي لتصير نهاية كل رجاء، وكأنها ختم سلطوي على موت الرحمة وموت الإنصاف.

رأيت رجالاً يبكون، نساءً يصرخن، شيوخًا يتهالكون على أبواب المسؤولين، يتوسلون، لا لترف، لا لطلب مال، فقط لشيء من العدالة، شيء من الاحترام، شيء من كرامة تُبقيهم واقفين في أرضٍ ورثوها عن أجدادهم، أو اشتروها بعرق جبينهم منذ عقود، بنوا فيها بيوتهم، زرعوا فيها آمالهم، أنجبوا فيها أبناءهم، تزوجوا، شيّدوا حياة، ثم في لحظة واحدة، تأتي الآلة الباردة للهدم، وتُحوَّل الأرض إلى سلك شائك، ويُطرَد أصحابها الحقيقيون كأنهم لصوص، كأنهم دخلاء، كأنهم لا حق لهم في أرضهم، لا وثائقهم تنفع، ولا شهودهم، ولا دموعهم، ولا توسلاتهم، ولا حتى صلواتهم في المساجد. والأنكى، أن من يفعل كل هذا، لا يأتيك من خلف ستار، بل هو معروف، هو لوبيات العقار التي تتغذى على الفساد، على الصفقات الخفية، على خيانة الأمانة، على تحالفات المال والنفوذ، على صمتٍ رسمي مرعب، كأن الوطن أصبح غنيمة، يُوزَّع على من يملك الصوت والسلطة، ويُسحَب من الذي لا يملك سوى الذاكرة.

في منطقة احصاين بسلا، كما في غيرها، الناس لا يطلبون المستحيل، لا يريدون حربًا، ولا يرفعون سلاحًا، فقط يقولون: عوّضونا، لا تهدموا بيوتنا بلا مقابل، لا تسحبوا الأرض من بين أيدينا كما يُسرق رغيف من فم طفل، لا تُحطموا كل ما بنيناه على مدار ثلاثين سنة مقابل 200 درهم للمتر، بل أحيانًا لا شيء على الإطلاق، فقط تعويض وهمي لا يكفي حتى لبناء غرفة. أي عدالة هذه؟ وأي قانون يسمح بهذا؟ وأي إمارة للمؤمنين ترضى أن يُهان المؤمن في عقر داره؟ هل صار المغربي أرخص من التراب الذي يسير عليه؟ هل صارت حقوقه مجرد بنود مرنة تُفسَّر حسب المصلحة؟ هل تآكل مفهوم الدولة حتى صار المواطن يشعر أنه غريب في أرضه، أنه عبء يجب التخلص منه، أنه رقم يمكن شطبه متى شاءت القرارات العمياء؟

الذل لا يأتي فقط من الظلم، بل من طريقة ممارسته، من البرود الذي يُنفّذ به، من الجرافة التي لا تتوقف أمام صرخة، من الجندي الذي لا يتردد في الدفع والركل، من موظف السلطة الذي لا ينظر في عين من يتحدث إليه، بل يعامله كملف زائد، لا قيمة له، لا صوت له، لا وجه له. والمهين في الأمر، أن الكل يعرف، الكل يرى، الإعلام صامت، النقابات غائبة، الأحزاب متواطئة أو خائفة أو مشغولة بمقاعدها، بينما الناس الذين بلا حماية، ولا سند، ولا صوت في البرلمان، يُسحقون تحت عجلة الدولة التي يُفترض أنها تحميهم. في بلدٍ يحكمه أمير للمؤمنين، يجب أن تكون العدالة أول ما يُصان، يجب أن يكون المواطن هو الأول، لا آخر من يُستشار، لا أول من يُضحى به. لكن الواقع يقول غير ذلك، يقول إنك إن لم تكن صاحب نفوذ أو مال أو صلة، فأنت في خطر دائم، مهما كانت وثائقك سليمة، ومهما كان تاريخك عريقًا في الأرض.

لا أحد يطلب من الملك أن يراقب كل صغيرة، ولا أن يسمع كل صرخة، لكن حين يقال للناس إن القرار من القصر، فإنهم يرفعون أبصارهم نحو الأعلى لا لأنهم يشتكون، بل لأنهم لا يفهمون، كيف يمكن للرحمة أن تغيب هناك؟ كيف يمكن للقرار أن يُتّخذ بهذا الشكل دون عدالة، دون تعويض، دون رأفة؟ هل يمكن أن يكون صوت الفقير لا يصل؟ أم أنه يصل ولا يُسمع؟ أم أنه يُسمع ويُهمل؟ لا أحد يعرف، لكن الواضح أن المواطن يعيش اغترابًا عميقًا، اغترابًا في وطنه، في قريته، في حيه، في حقله، يشعر أنه لا يملك شيئًا حتى وإن كان يحمل الملكية، يشعر أن مصيره ليس في يده، بل في يد قوى لا تُرى، لا تُحاسب، ولا تُرحم.

ومن المؤلم أن هؤلاء الناس، رغم كل ما عاشوه، لا يزالون يطلبون الرحمة، من المسؤول، من الملك، من كل من يظنون أن في قلبه ذرة إنصاف، يطلبون الرحمة وهم يعلمون أنها لا تُطلب إلا من الله، لكنهم مضطرون، لأن الأرض تُؤخذ منهم الآن، لا غدًا، والبيت يُهدم الآن، لا بعد حين، والذكرى تُمحى الآن، لا في ذاكرة بعيدة. لذلك يرفعون أصواتهم ولو كانوا يعلمون أنها تضيع في الفراغ، لأن الإنسان حين يُسحق، لا يملك إلا صوته، ولا يملك إلا الرجاء، وإن كان هشًا، وإن كان عبثيًا، وإن كان موجَّهًا لمن لا يرحم.
ما معنى أن يُعامل المواطن كغريب؟ ما معنى أن تكون الأرض في يدك ويُنتزعها أحدهم تحت غطاء القانون؟ ما معنى أن تُلغى حياة بأكملها تحت بند "المصلحة العامة" بينما المصلحة لا تعني سوى مصلحة من سيبني مجمعًا سكنيًا فاخرًا أو مشروعًا استثماريًا ضخمًا؟ ما معنى أن تُقطع شجرة زرعها جدّك بيديه لأن أحدهم قرر أن التراب أكثر ربحًا من الزرع؟ ما معنى أن تُبنى دولة على حساب وجع أهلها؟ أي مغرب نريد، إن كان الفلاح يُطرد، والأسرة تُشرد، والأرض تُباع بلا إذن، والرحمة تُسحب من وجوه المسؤولين؟

هل هذا هو العهد الجديد؟ هل هذا هو مشروع التنمية؟ هل تنمية الإنسان تبدأ بهدم بيته؟ هل تأهيل الأراضي الفلاحية يعني انتزاعها من أصحابها؟ كيف نبني وطنًا إن لم نبدأ بالعدل؟ كيف نُربي جيلًا يؤمن بالقانون، ونحن نعلمه أن القانون لا يحمي إلا من يملك السلطة؟ كيف نطلب من المواطن أن يحب وطنه، ووطنه لا يحبّه؟ كيف نعيد الثقة، إن كانت كل التجارب تُعلّم الإنسان أن لا يثق؟
ورغم كل هذا، ترى وجوهًا مبللة بالدموع، ترفع عيونها إلى السماء وتقول: الله يأخذ الحق. وهذه ليست فقط عبارة شعبية، إنها نداء من القلب، نداء حين تغلق كل الأبواب، حين يصبح الوطن قاسيًا، حين تكتشف أن شعار "الحق والقانون" لا يُطبق إلا على الضعفاء. الله يأخذ الحق، لأن لا أحد سواه يستطيع أخذه، لا محكمة، لا قائد، لا وزير، لا والي، لا مؤسسة. والله وحده هو الذي يسمع حين لا يسمع أحد، ويرى حين تُغلق العيون، وينصف حين يُقلب ميزان العدل، ويُعطي حين يُحرَم الناس من كل شيء.

تحت إمارة المؤمنين، لا يجب أن يُذلّ المؤمن. تحت راية العدل، لا يجب أن يُهدم بيت دون تعويض. تحت دستور الملكية، لا يجب أن تكون الملكية ألعوبة في يد من يملكون المال. نحن لا نطلب المستحيل، نحن فقط نريد وطنًا لا يُشرّد أبناءه، لا يُغلق أبواب الأمل، لا يجعل المواطن يعيش الخوف كلما سمع عن مشروع استثماري جديد. نريد أن نعيش في أرضنا بكرامة، لا بخوف، لا بتوسل، لا برجاء لا يُسمع. نريد أن نكون شركاء في هذا الوطن، لا عبيدًا فيه. نريد دولة تُنصفنا لا تُخرسنا، تُحمينا لا تُهددنا، تُواسي ضعفنا لا تستغله. نريد أن نعيش، فقط نعيش، بكرامة، بحق، بعدالة... فهل هذا كثير؟
تعليقات