ابتزاز ترامب والخليج: جريمة خاشقجي وأسرار المال والسلطة

إلى متى سيظل ولي العهد والخليج رهائن للتسجيلات والصفقات الأمريكية؟

ابتزاز ترامب لولي العهد محمد بن سلمان والخليج العربي على خلفية جريمة خاشقجي.

مقدمة

منذ اللحظة الأولى التي خرج فيها خبر اغتيال الصحفي جمال خاشقجي من داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في الثاني من أكتوبر عام 2018، بدا واضحاً أن الأمر لن يقف عند حدود الجريمة الجنائية التقليدية، بل سيتحول إلى ورقة ضغط دولية، تتداخل فيها الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية والعلاقات الملتبسة بين واشنطن والرياض وبقية العواصم الخليجية، حتى صارت القصة ليست مجرد اغتيال رجل معارض بل مسرحاً كبيراً لابتزاز سياسي يستمر إلى اليوم. فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أدار البيت الأبيض بعقلية التاجر الباحث عن الصفقات، لم يُخفِ يوماً أنه استغل هذه الجريمة ليجعل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورقة ربح سياسي ومالي، بل ذهب أبعد من ذلك حين اعترف في أكثر من مناسبة أنه "أنقذ" ابن سلمان من ضغط الكونغرس والإعلام، لأنه رأى في ذلك فرصة للحصول على عقود بمئات المليارات من الدولارات، وصفقات سلاح، وضمان ولاء سياسي مطلق للبيت الأبيض. وهكذا تحولت دماء خاشقجي إلى جسر عبور لصفقات مشبوهة واستثمارات ضخمة، وبات السؤال الملح: إلى متى سيظل ترامب يبتز ابن سلمان، بل والخليج كله، بهذه الورقة السوداء التي لم تغلق بعد؟

عرض

إن ولي العهد السعودي، الذي وجد نفسه بعد الجريمة في عزلة دولية غير مسبوقة، كان مضطراً للتمسك بحبل النجاة الوحيد الذي مُدّ له من واشنطن، فترامب أعلنها صراحة أن السعودية دفعت ثمناً باهظاً عبر صفقات سلاح تجاوزت قيمتها 110 مليارات دولار، وأنه لن يفرّط في هذا الكنز الاستراتيجي مهما كان حجم الضغوط. لكنه لم يكتف بالتصريحات، بل كان يلوّح بين الحين والآخر بما لديه من معلومات وتسجيلات ووثائق حول الجريمة، وهي معلومات يعلم جيداً أنها كافية لإحراج ابن سلمان أمام العالم وإضعاف شرعيته في الداخل والخارج. واللافت أن ترامب لم يكن وحده في هذا الميدان، بل تورط في هذا الابتزاز كل من يدور في فلكه، من شركات الضغط والعلاقات العامة، إلى المؤسسات الأمنية والاستخباراتية الأمريكية التي تحتفظ بنسخ من التسجيلات التركية، وتعرف جيداً تفاصيل ما جرى داخل القنصلية. لقد صار ابن سلمان في نظر ترامب كبقرة حلوب كما وصف هو نفسه السعودية، يعطيها الحماية مقابل المال، ويشهر سيف التسجيلات متى شعر بأن الحبل قد يرخى أو أن الدفع قد يتأخر.

لكن المعضلة ليست في ابن سلمان وحده، فكل الخليج العربي وجد نفسه في مأزق مشابه، لأن الولايات المتحدة في عهد ترامب أعادت صياغة علاقتها مع المنطقة على أساس المقايضة الفجة: المال مقابل الحماية، الصفقات مقابل الصمت، وابتلاع الإهانات مقابل استمرار العرش. إن ابتزاز ابن سلمان بملف خاشقجي ليس معزولاً عن ابتزاز بقية الدول الخليجية بملفات أخرى، من إيران إلى قطر إلى أسعار النفط. ترامب كان يعرف أن الأنظمة الخليجية تعيش على شرعية هشة تقوم على الحماية الأمريكية، وأن أي تهديد بانسحاب هذه المظلة يعني اهتزاز العروش، ولذلك كان يكرر في خطبه أن "بدوننا لن تصمدوا أسبوعين". وهذه العبارة لم تكن مجرد زلة لسان، بل كانت إعلاناً صريحاً بأن البيت الأبيض يعتبر هذه الدول رهائن بيد واشنطن، وأنها ستظل تدفع ما دام الخوف يسيطر على قادتها.

لقد تحولت جريمة خاشقجي إلى وصمة عار دولية، لكن في الوقت ذاته إلى أداة ابتزاز ربحت منها واشنطن أكثر مما خسرته الرياض. والحق أن ترامب أجاد استغلال التناقض بين الخطاب الإعلامي الغربي الذي صب جام غضبه على ابن سلمان، وبين شهية الشركات العملاقة في السلاح والطاقة التي رأت في هذه الأزمة فرصة لمضاعفة أرباحها. وبين هذا وذاك، بقي ولي العهد السعودي مهدداً بفضح التسجيلات التي لا تزال أنقرة تحتفظ بها، والتي يعلم الجميع أن نسخاً منها وصلت إلى أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وربما إلى ترامب شخصياً. إن مجرد وجود هذه التسجيلات يمنح ترامب قدرة على الابتزاز متى شاء، فهو يعلم أن نشرها أو تسريبها قد يقلب الطاولة في وجه ابن سلمان، خصوصاً وأنها تحمل تفاصيل صادمة عن لحظات الاغتيال والتقطيع والإخفاء.


لكن السؤال الأعمق يتجاوز الشخص إلى البنية كلها: ما الذي يجعل أنظمة الخليج قابلة لهذا النوع من الابتزاز المتكرر؟ الجواب أن غياب المؤسسات الديمقراطية، وغياب تداول السلطة، يجعل مصير الدولة مرهوناً بشخص الحاكم. فإذا هُددت شرعية الحاكم اهتز الكيان كله، وبالتالي يصبح الدفاع عن الكرسي مبرراً لدفع أي ثمن مهما كان. في هذه الحالة، يتحول مال الشعوب إلى وسيلة شراء صمت القوى الكبرى، ويتحول النفط إلى سلاح معكوس، بدل أن يكون أداة قوة يصبح مصدر ضعف لأنه يفتح شهية الغرب للمزيد من النهب. ترامب لم يكن ذكياً بقدر ما كان فظاً، قال ما كان غيره يفعله في الخفاء، فجاهر بالابتزاز وربطه بالأموال مباشرة.

لقد شاهد العالم كله كيف كان ترامب يفاخر أمام جماهيره بأنه انتزع مئات المليارات من السعودية بفضل "حمايته" لها، وكيف كان يتحدث عن الملك سلمان باعتباره رجل مسن يحتاج إلى مظلة واشنطن ليستمر في الحكم، وكيف كان يبتسم بخبث حين يلوح بتهديدات ضمنية تخص جريمة خاشقجي. وفي كل مرة كان الإعلام الأمريكي يضغط لنشر المزيد من التفاصيل، كان ترامب يتدخل ليمنع ذلك بحجة "الحفاظ على المصالح الاستراتيجية"، لكنه في الحقيقة كان يبيع هذه الحماية لابن سلمان بأغلى الأثمان.

وإذا وسعنا الدائرة أكثر، سنجد أن ابتزاز الخليج لا يتوقف عند حدود الجريمة، بل يشمل كل الملفات الإقليمية: من الصراع مع إيران، إلى الحرب في اليمن، إلى التطبيع مع إسرائيل، كلها أوراق لعب بها ترامب مستخدماً أسلوبه المفضل: أعطني المال أعطيك الحماية. وهكذا وجد قادة الخليج أنفسهم أسرى لعقلية رجل يبيع ويشتري فيهم كما يشاء، بينما الشعوب تدفع الثمن من ثرواتها ومستقبلها.

وربما الأدهى أن هذه العقلية لم تنته بخروج ترامب من البيت الأبيض، بل ظلت آثارها قائمة، لأن ابن سلمان يعلم أن ترامب قد يعود في انتخابات 2024 أو ما بعدها، وأن أي عودة له تعني استئناف لعبة الابتزاز من جديد. وهذا ما يفسر استمرار السخاء السعودي تجاه مشاريع ترامب التجارية حتى بعد مغادرته الحكم، ودعم صفقات شركات مقربة منه، خشية أن تعود التسجيلات إلى الواجهة. إن خوف ابن سلمان من هذه الورقة يجعله يدفع مسبقاً كما يدفع لاحقاً، ليضمن أن تظل القضية تحت الطاولة.

لكن التاريخ يعلمنا أن الابتزاز لا يتوقف عند حد، وأن من يرضخ مرة سيضطر للرضوخ مرات، وأن من يفتح الباب أمام التهديدات لن يستطيع إغلاقه. فإلى متى سيظل ابن سلمان، ومعه الخليج كله، يدفع ثمن الخوف من واشنطن؟ إلى متى سيبقى النفط العربي رهينة لمزاج رئيس أمريكي يبتسم أمام الكاميرا وهو يقول لشعبه: "إنهم يدفعون لنا المليارات لأنهم بحاجة إلينا"؟

إن قضية خاشقجي كشفت هشاشة النظام الإقليمي الخليجي بأسره، وأظهرت أن المال لا يشتري الكرامة ولا يعوض الشرعية. فمهما دفعت الرياض من مليارات، ستظل التسجيلات سيفاً مسلطاً على رقبة ابن سلمان، ومهما ابتلع الإعلام الغربي من صفقات الإعلانات والعلاقات العامة، ستظل صورة الجريمة حاضرة كوصمة لا تمحى. ولعل الأسوأ أن هذا الابتزاز لا يتوقف عند ترامب، بل ربما يمتد إلى من سيأتي بعده، فالمخابرات الأمريكية تحتفظ بالأرشيف كاملاً، وتدرك جيداً قيمة هذه الورقة، وستظل تستخدمها كلما احتاجت إلى الضغط.


إن نهاية الابتزاز لن تأتي إلا حين تكسر المنطقة هذه الحلقة المفرغة، حين تتحرر من عقدة الحماية الأجنبية، حين تبني شرعية داخلية حقيقية تستند إلى الشعوب لا إلى البيت الأبيض، حين تتحول ثروة النفط إلى أداة قوة بيد العرب لا إلى مصدر ضعف بيد الغرب. وإلى أن يحدث ذلك، ستظل قصة خاشقجي تذكيراً مريراً بأن الدم العربي يمكن أن يتحول إلى سلعة في سوق السياسة، وأن رئيساً مثل ترامب يستطيع أن يحول مأساة إنسانية إلى صفقة ربحية، وأن ابن سلمان، ومعه قادة الخليج، سيظلون رهائن لهذا الابتزاز ما داموا لم يجدوا طريقاً للاستقلال الحقيقي.

خاتمة

وفي النهاية يبقى السؤال مفتوحاً: هل يتوقف ترامب عن ابتزاز ابن سلمان يوماً ما؟ ربما نعم إذا فقد السيطرة على التسجيلات أو ماتت القضية بالتقادم الإعلامي، وربما لا إذا عاد إلى السلطة أو احتاج المال مجدداً، لكن المؤكد أن الخليج كله يدفع الثمن، ليس فقط بماله ونفطه بل بكرامته وصورته أمام العالم. وربما سيأتي يوم يكشف فيه التاريخ أن جريمة خاشقجي لم تكن فقط جريمة اغتيال صحفي، بل كانت جريمة ابتزاز أمة بأكملها، جريمة استنزاف ثروات شعوب كاملة بذريعة الحماية والشرعية. وإلى أن يعترف قادة الخليج أن زمن الرضوخ قد طال، سيظل ترامب وأمثاله يجدون فيهم ضالتهم، يبتزونهم بملف تلو آخر، ويدفعونهم إلى التنازل أكثر فأكثر، بينما تظل الشعوب تتساءل: إلى متى؟

تعليقات