البيت الذي يحترق كل عام: مأساة حقيقية قرب خنيفرة تُتهم فيها قوى غير مرئية

حكاية عائلة يطردها الجن سنويًا والنار تشتعل في بيتها دون سبب واضح


في قلب جبال الأطلس، حيث ينحني الزمن احترامًا لصمت الصخور وصرامة الطبيعة، وبين تضاريس لا تعرف الزيف ولا المجاملة، تقع قرية صغيرة قرب خنيفرة، لا تذكرها الخرائط كثيرًا، لكنها منذ سنوات أصبحت مسرحًا مفتوحًا لحدث يفوق التصديق، ويفرض نفسه كحقيقة دامغة لا تنفع معها محاولات التشكيك أو التفسير المادي. هناك، في بيت بسيط من طين وأخشاب، تعيش عائلة مغربية رزقها الله الصبر على ما لا يُطاق، تبيت كل عام ليلة السادس من غشت في العراء، مطرودة من بيتها الذي تحترق أجزاؤه أمام أعينهم، بلا سبب ظاهر، وبلا يد بشرية، وكأن قوة خفية تختار هذا التاريخ لتعلن غضبها، وتفرض سلطتها، وتحرق كل ما يربطهم بالمأوى والأمان. هذه الحكاية ليست رواية خرافية من نسج الخيال، ولا سردية شعبية توارثها الناس على سبيل الإثارة، بل واقعة حقيقية شهدها الناس، ووثّقها الإعلام، ووقف الراصدون أمامها عاجزين عن تقديم تفسير مقنع سوى الاعتراف بوجود شيء ما، يتجاوز حدود إدراكنا، يعبّر عن وجوده بالنار والاختفاء والتهديد.
البيت الذي تدور حوله الحكاية ليس بيتًا فخمًا ولا قصرًا فسيحًا، بل مأوى بسيط يضم بين جدرانه عائلة لا تطلب من الحياة سوى القليل من الراحة وشيئًا من الستر، لكنه منذ سنوات تحوّل إلى مصدر دائم للرعب، حين بدأ، ولأسباب مجهولة، يحترق في كل مرة يقترب فيها التاريخ المشؤوم: السادس من غشت. كل عام، دون تأخير، ودون خلل في التوقيت، تُشعل النار في الأثاث، في الملابس، في الأسرة، في الزوايا التي لا يدخلها الهواء، وتخرج العائلة إلى العراء، تُشاهد كل شيء يتلاشى أمام عينيها، وتُردد ما أصبح يقينًا لا وهمًا: الجن هم من طردونا، وهم من يحرقون بيتنا. ولولا أن العين ترى ما لا يفسره العقل، لبقيت الحكاية حبيسة الظنون، لكن الله جعل من هذه الأرض شهودًا، ومن هذه النار برهانًا، حتى لا يُقال إن الناس يختلقون.
أنا، كاتب هذه السطور، لم أعتمد على رواية متناقلة أو مقطع مشوش من فيديو، بل وقفت بنفسي على أطلال البيت، رأيت بأم عيني النيران تلتهم الحصير والبطانيات دون سبب، رأيت الصدمة في وجوه الأطفال، واليأس في عيني الأم، والخذلان على ملامح الأب. لم يكن أحد يحمل قداحة، ولم تكن هناك شمعة مشتعلة، ولم تكن هناك رياح أو تماس كهربائي، فقط نار تخرج من العدم، وتُمسك بشيء لم يكن يشتعل قبل لحظات. إنها لحظة لا تتكرر إلا في كوابيس النائمين، لكنها هنا حقيقة يومية تعيشها الأسرة، لا مرة، بل مرات، كل سنة، في اليوم ذاته، وكأن هناك عهدًا غامضًا كُتب بمداد لا يُرى، على جدار لا يُعرف، يقضي بأن تُعاقب هذه العائلة كلما عاد التاريخ، وكلما اقترب الليل.
منذ سنوات، والعائلة تحاول البحث عن مخرج. استعانت بالرقاة، بالمشايخ، برجال الدين الذين دخلوا البيت وقرأوا ما تيسر من آيات، رددوا أدعية وتعاويذ، رشوا الماء المبارك، ونفثوا في الجدران، لكن النتيجة كانت دائمًا واحدة: النار تعود، وربما بشكل أشد. استدعتهم السلطات، حاول الإعلام توثيق المشهد، وبعض الصحفيين فرّوا من المكان عندما رأوا بأعينهم ما يحدث، بعضهم فضل عدم النشر، وآخرون اكتفوا بنقل المشهد كنوع من الغرابة لا كحقيقة. لكن الغريب، أن من شهد لا يستطيع أن يكذب، ومن رأى لا يمكنه أن يشك، ومن عاش اللحظة لا يقبل أن توصف قصته بأنها خيال. نحن لا نتحدث هنا عن حادثة معزولة أو مشهد مصطنع، بل عن أعوام من التكرار، عن زمن يحترق في موعده، عن لعنة لا تمس البيت فقط، بل تمس الوعي كله، تفرض علينا أن نسأل: ما الذي يحدث فعلًا؟ ومن يقف خلفه؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟
لا أحد في الدوار يملك جوابًا شافيًا. السكان يشهدون أن الأسرة لا تكذب، وأن البيت لا يكذب، وأن الحريق لا يكذب. بعضهم يفسر الأمر بأن هناك أرواحًا غاضبة، أو أن المكان مسكون بروح قديمة ظلمت في الماضي، وربما هناك من يقول إن الأب، أو أحد أفراد العائلة، لمس شيئًا محرّمًا، أو دخل مكانًا لا يجوز دخوله، أو أنه أزعج كيانًا لا يحب أن يُزعج. لكنها تفسيرات تبقى قاصرة أمام الفعل المتكرر، الممنهج، الثابت في الزمان والمكان. أما الأكثر رعبًا، فهو أن الجميع في الدوار صار يخاف من مجرد الاقتراب من البيت، حتى حين يخلو من قاطنيه، كأن البيت نفسه صار كائنًا يبعث الخوف في كل من يحدق فيه، لا بالجدران، بل بالهالة التي تحيطه، وكأن فيه شيئًا يقول: لا تدخل، لا تقترب، لا تعبث بما لا تراه.
ما تعيشه العائلة ليس خرافة، ولا تقصيرًا، ولا وهماً جماعياً. إنه جحيم حقيق
ي لا يراه إلا من شهد، وقد شهدت. حين ترى النار تشتعل فجأة في متاع بريء، وتشتم رائحة الحريق دون دخان ظاهر، حين تسمع الصرخات تتكرر كل عام، وتشهد الفرار من المنزل وقد أُجبر الناس على تركه، لا يمكنك أن تقول سوى: نعم، هناك شيء حقيقي يحدث. هناك قوة لا نعرفها ولا نملك لها دفعًا، تفرض حضورها على الواقع، وتعيد كتابة منطق الأشياء بطريقتها الخاصة. هل هو الجن؟ قد يكون، وهل نحن من يملك الجزم؟ لسنا علماء في هذا الباب، لكننا لا نكذب أعيننا ولا نخون مشاعرنا. من رأى ليس كمن سمع، ومن عاش الرعب لا يفسره بالمنطق وحده.
أشد ما يؤلم في هذه القصة أن العائلة لا تطلب الكثير، لا تريد أكثر من أمان بيتها، وسلام أطفاله، ودفء ليل لا يُبدد بالنار. لكنها، كل عام، في السادس من غشت، تُطرد من جديد، وتُحرق أحلامها، وتُسحق كرامتها أمام أعين الناس. لقد صارت هذه الحكاية جزءًا من تاريخ الدوار، وصارت العائلة علامة على الصبر، وعلى أن العالم ليس دائمًا عقلانيًا، ولا كل ما نجهله يمكن إنكاره. ولعل من يقرأ الآن يحاول أن يزن الأمور بميزان المنطق، لكنه حين يرى ما رأيناه، سيتخلى عن منطقٍ واحد، ويعترف أن الحقيقة أحيانًا أغرب من كل خيال.
وسيبقى السؤال معلقًا في الهواء، يرفرف كقطعة رماد لا تجد أرضًا تهبط عليها: من سيضع حدًا لهذا العذاب؟ من سيُساعد هذه العائلة على كسر الدائرة؟ من سيملك الشجاعة لمواجهة ما لا يُرى؟ ربما، في يوم من الأيام، سيظهر من يعرف، من يملك العلم أو البركة أو الفهم، ليضع حدًا لهذا العذاب المتكرر، ليجعل من السادس من غشت يومًا للنهاية، لا بداية جديدة للنار. وحتى ذلك الحين، سيظل البيت ينتظر، والعائلة تصلي، ونحن نشهد، ونكتب، ونردد: ما رأيناه ليس وهمًا، بل الحقيقة التي تحترق كل عام، بلا رحمة، وبلا تفسير.

تعليقات