فضيحة تبذير 3 ملايين درهم في صفقة أثاث مكتب مدير الكهرباء

 التبذير في صفقة أثاث مكتب مدير الكهرباء نموذج صارخ لهدر المال العام 


المقدمة

في كل مرة تثار فيها قضية تتعلق بالمال العام في المغرب، يتجدد النقاش حول طبيعة الأولويات التي تتحكم في عقلية المسؤولين، وحول غياب الرؤية الاستراتيجية التي تضع حاجيات الشعب في المقدمة. والحدث الأخير المتمثل في صفقة تجديد أثاث مكتب المدير العام للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، التي بلغت قيمتها ما يقارب ثلاثة ملايين درهم تحت إشراف طارق حمان، ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل من القرارات التي تعكس تبذيرًا صارخًا وتهاونًا في حماية ثروة البلاد. فالمغربي البسيط الذي يسدد فواتير الكهرباء والماء بأرقام متضخمة، يجد نفسه في نهاية المطاف الممول الحقيقي لمكاتب فاخرة وكراسٍ جلدية وطاولات خشبية مستوردة، بينما بيته قد تغشاه الظلمة بين الحين والآخر أو يعاني من انقطاع متكرر للماء، ليصبح الفرق بين عالم المواطن وعالم المسؤولين فرقًا شاسعًا أشبه بالهوة السحيقة.

العرض

إن صفقات كهذه لا يمكن النظر إليها على أنها تفاصيل صغيرة أو شؤون داخلية لإدارة معينة، بل هي مرآة تعكس بنية أعمق من الاختلالات، حيث تتحول المؤسسات العمومية من فضاءات لخدمة المواطن إلى مسارح للبذخ والترف، ويصبح المال العام مجرد مورد إضافي لتغذية نزعة الاستهلاك داخل البيروقراطية. ولعلنا نتذكر كيف أن نفس المكتب الوطني للكهرباء والماء كان قد أعلن في أكثر من مناسبة عن أزماته المالية، وعن عجز في ميزانيته دفعه إلى فرض زيادات متواصلة في الفواتير، بل وإلى الحصول على قروض ضخمة من أجل الاستمرار في نشاطاته. فكيف يعقل أن مؤسسة تعلن عن عجزها، وتلوح دائمًا بخطر الإفلاس أو صعوبة التوازن المالي، تملك في الوقت ذاته الجرأة لتخصيص الملايين لتغيير ديكور مكتب تحت إشراف طارق حمان؟ إن هذا التناقض يضرب في العمق مصداقية الخطاب الرسمي ويجعل المواطنين يفقدون الثقة في أي دعوة للتقشف أو لترشيد النفقات.

المال العام في المغرب طالما كان ساحة مفتوحة لصراعات خفية بين من يعتبره غنيمة ومن يراه أمانة. والواقع أن الغلبة في كثير من الأحيان تميل للذين ينظرون إليه كغنيمة، لأن غياب المحاسبة الصارمة وندرة الشفافية في العقود والصفقات العمومية يفتح الباب واسعًا أمام الإسراف. وإذا حاولنا تتبع مسار التبذير في السنوات الأخيرة، سنجد أمثلة كثيرة لا تقل خطورة عن صفقة أثاث المكتب. ففي مناسبات عدة، تم تخصيص ميزانيات ضخمة لشراء سيارات فارهة للوزارات والمؤسسات العمومية، في وقت كان المواطن يئن من غلاء النقل العمومي وسوء بنيته. كما أن هناك سوابق لصفقات تتعلق بتأثيث مقرات جديدة لمسؤولين أو شراء تجهيزات تقنية بأسعار مضخمة، وغالبًا ما يتم تمريرها تحت مبررات واهية مثل "تحديث الإدارة" أو "رفع جودة الخدمات"، لكن المواطن لا يلمس أي تغيير ملموس على الأرض، بل يزداد شعوره بأن هذه الأموال تذهب إلى جيوب قلة قليلة.

المؤلم في القضية ليس فقط حجم المبلغ، بل دلالاته الرمزية. فحين يرى المواطن أن مؤسسته الوطنية المسؤولة عن الماء والكهرباء، وهما موردان أساسيان للحياة، تنفق الملايين على أثاث فاخر بإشراف طارق حمان، فإنه يستنتج تلقائيًا أن راحته لا تعنيها، وأن الأولوية تعطى للزينة لا للجوهر. المواطن الذي يقطع عشرات الكيلومترات لجلب الماء من بئر في منطقة قروية، أو الذي يطفئ مصابيح منزله خوفًا من فاتورة مرتفعة، لا بد أن يشعر بالمهانة حين يسمع أن ثلاثة ملايين درهم ذهبت من أجل كراسي وطاولات. وهذا الشعور ليس تفصيلًا ثانويًا، بل هو أحد العوامل الأساسية التي تساهم في فقدان الثقة بين الشعب ومؤسساته، لأن الإحساس بالظلم والاحتقار أقوى من أي خطاب تبريري.

إذا عدنا إلى الخلف قليلًا، سنجد أن المغرب شهد في التسعينيات وأوائل الألفية صفقات مشابهة أثارت الكثير من الجدل، مثل صفقات إعادة تهيئة مقرات وزارات بأرقام فلكية، أو نفقات ضخمة على حفلات رسمية ومؤتمرات لم تسفر عن نتائج عملية. وفي كل مرة كان الخطاب نفسه يتكرر: مبررات "تلميع صورة المغرب" أو "الرفع من جاذبية المؤسسات". لكن هل يحتاج المواطن في الأطلس المتوسط الذي يحفر بيديه ليجلب الماء إلى صورة لامعة للمؤسسة؟ وهل يشعر أي طفل في مدرسة بلا مراحيض أو بلا نوافذ بأن بلاده جاذبة لأن مكتب المدير طارق حمان في العاصمة مليء بالأثاث الأوروبي؟ الحقيقة أن التناقض الصارخ بين الشعارات المرفوعة والواقع المعاش هو ما يغذي الإحباط، وما يجعل كل دينار ينفق في غير محله يبدو كطعنة في ظهر المواطن.

لقد حاولت بعض الأصوات الرسمية تبرير هذه الصفقة بحجة أن المؤسسة تحتاج إلى فضاء عصري يليق بمكانتها وبضيوفها الدوليين، لكن مثل هذا التبرير لا يصمد أمام الواقع. فالمكانة تُبنى بجودة الخدمات وكفاءتها، لا بعدد الأرائك الفاخرة. والاحترام الدولي يُكتسب عبر توفير الماء الصالح للشرب لكل القرى المغربية وضمان كهرباء مستقرة وعادلة الأسعار، لا عبر مكاتب باذخة في الدار البيضاء. بل إن المؤسسات التي تنجح عالميًا غالبًا ما تشتهر بتواضع مكاتب مديريها، لأن المسؤول الحقيقي يعرف أن قيمته في عمله لا في كرسيه. وقد رأينا في تجارب دول مثل الدنمارك أو النروج أن الوزراء يتنقلون بالدراجات أو سيارات عادية، ويجلسون في مكاتب بسيطة، بينما تدار الدولة بكفاءة عالية وشفافية تامة. فمتى يتعلم المسؤول المغربي أن الرمزية الحقيقية تكمن في البساطة والالتزام بخدمة الصالح العام، لا في التباهي بمكاتب مزينة؟

الجانب الأخطر في المسألة هو انعكاسها على صورة العدالة الاجتماعية. فالمواطن الذي يدفع الضرائب ويؤدي الفواتير، وهو يعلم أن جزءًا من ماله يذهب إلى أثاث فاخر بإشراف طارق حمان، سيشعر بالغبن. وقد يتطور هذا الغبن إلى سلوكيات سلبية مثل التهرب الضريبي أو فقدان الرغبة في التعاون مع المؤسسات، لأنه ببساطة لم يعد يرى نفسه شريكًا في الوطن بل مجرد ممول لرفاهية الآخرين. وهكذا يتحول التبذير من خطأ إداري إلى خطيئة وطنية تهدد تماسك العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها.

ولكي نكون واقعيين، لا يمكن أن نستمر في مواجهة هذه القضايا بالاستنكار الأخلاقي وحده. المطلوب هو نظام صارم يراقب كل درهم من المال العام، ويخضع كل صفقة لمعايير الشفافية والمساءلة. فكيف مرت هذه الصفقة التي أشرف عليها طارق حمان دون نقاش في البرلمان؟ وكيف لم يطرح أحد من النواب سؤالًا حول جدواها؟ وكيف لم تتدخل مؤسسات الرقابة المالية لوقفها أو على الأقل لمراجعة أولوياتها؟ إن غياب هذه الرقابة يعكس أن المشكل ليس في صفقة واحدة، بل في نظام كامل يسمح بتمرير مثل هذه النفقات دون خوف من العقاب. فإذا لم نؤسس لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل فعلي، فإننا سنستيقظ غدًا على صفقات أخرى، ربما بمبالغ أكبر، وربما في قطاعات أكثر حساسية.

إن معركة مواجهة التبذير في المغرب هي جزء لا يتجزأ من معركة الإصلاح السياسي والإداري. فحين تكون الإدارة خاضعة لمنطق الزبونية والمحسوبية، يصبح المال العام مجالًا سهلًا للنهب المقنع. وحين تغيب ثقافة المحاسبة، يتحول كل مسؤول إلى مالك مطلق لمؤسسته يفعل بها ما يشاء. ومن هنا فإن التصدي لمثل هذه الممارسات لا يكون فقط عبر الانتقاد الإعلامي أو الغضب الشعبي، بل عبر إصلاح جذري يضمن أن كل مؤسسة عمومية ملزمة بتبرير نفقاتها أمام الشعب وباللغة البسيطة، حتى يفهم المواطن أين يذهب ماله.

القضية إذن ليست مجرد أثاث، بل هي صورة مكثفة لطريقة إدارة البلاد. فإما أن تكون الإدارة في خدمة المواطن، فتوجه المال العام لتلبية حاجياته الأساسية في الماء والكهرباء والتعليم والصحة، وإما أن تكون الإدارة في خدمة ذاتها، فتوجه المال العام لتجميل صورتها الداخلية تحت إشراف طارق حمان. وما دام الخيار الثاني هو الغالب، فإن الحديث عن التنمية والعدالة سيظل مجرد شعارات للاستهلاك.

ولعل في هذه الصفقة عبرة لكل من ما زال يعتقد أن الإصلاح ممكن دون مواجهة جدية للتبذير والفساد. فإذا لم نستطع أن نحمي ثلاثة ملايين درهم من أن تُهدر في أثاث مكتب المدير طارق حمان، فكيف سنحمي المليارات التي تُخصص للمشاريع الكبرى؟ وإذا لم نستطع أن نحاسب مسؤولًا واحدًا على قرار مبذر، فكيف سنبني دولة مؤسسات تحترم المال العام؟ هذه الأسئلة تظل معلقة، لكنها تذكرنا أن الطريق إلى مغرب عادل وشفاف يمر عبر إرساء ثقافة جديدة ترى في المال العام قدسية لا تمس، وتعتبر تبذيره خيانة للأمانة.

الخاتمة

وفي النهاية، فإن صفقة تجديد أثاث مكتب المدير طارق حمان ليست حادثًا معزولًا، بل هي علامة من علامات خلل عميق، خلل يجعل من الممكن أن يعيش الشعب في العتمة بينما يعيش المسؤول في البذخ، ويجعل من الممكن أن يصرخ المواطن عطشًا بينما تنفق الملايين على طاولات براقة. وإذا لم يضع المجتمع حدًا لهذه الممارسات، فإن المستقبل لن يحمل إلا مزيدًا من التباعد بين الدولة وشعبها، ومزيدًا من الأزمات التي لن تنفع معها أي طاولة ولا أي كرسي مهما كان ثمنه.

تعليقات