في خريف سنة 1963 اندلعت حرب الرمال بين المغرب والجزائر بسبب الخلاف على الحدود في منطقتي تندوف وبشار. الجزائر التي كانت حديثة الاستقلال وجدت نفسها في مواجهة جيش مغربي أكثر تنظيماً وتجهيزاً، فطلبت دعماً عسكرياً من مصر عبد الناصر، التي كانت في تلك الفترة تقود الخط القومي العربي وتعتبر نفسها حامية للثورات التحررية. مصر استجابت سريعاً وأرسلت مجموعة من الضباط والطيارين لدعم الجزائر، وكان من بينهم ضابط الطيران محمد حسني مبارك الذي كان يبلغ من العمر خمسةً وثلاثين عاماً وقتها.
أثناء إحدى المهام الجوية التي كُلّف بها، واجهت طائرة مبارك ومعه ستة من الضباط المصريين وقيادي جزائري ظروفاً صعبة، قيل إنها بسبب عاصفة رملية أو عطل فني، ما أجبرهم على الهبوط الاضطراري في منطقة صحراوية داخل التراب المغربي، بالقرب من محاميد الغزلان. لم تمر دقائق حتى التف حولهم عدد من الفلاحين المحليين الذين فوجئوا بالطائرة تهبط في أرضهم. هؤلاء الفلاحون كانوا مسلحين بأدوات بسيطة، لكنهم تمكنوا من السيطرة على الضباط فور خروجهم من الطائرة، وقاموا بتقييدهم بالحبال وربطهم إلى جذوع النخيل حتى لا يتمكنوا من الفرار. بل إنهم، حسب ما يروى، ربطوا الطائرة نفسها بحبال إلى الأشجار كي لا يقلع بها أحد.
بعد وقت قصير، وصل ضابط من المخابرات المغربية ومعه وحدة أمنية إلى المكان، وتأكد أن المحتجزين ليسوا جنوداً جزائريين عاديين، بل طيارون وضباط مصريون أرسلوا لدعم الجزائر ضد المغرب. فوراً تم نقلهم إلى مدينة مراكش، ثم إلى العاصمة الرباط، حيث أودعوا في دار المقري، وهو معتقل شهير كان تابعاً لوزارة الداخلية المغربية ويستخدم في تلك الحقبة لاحتجاز الشخصيات المهمة أو القضايا الحساسة.
مبارك وزملاؤه ظلوا رهن الاحتجاز لما يقارب الشهر، ولم ترد روايات عن تعرضهم للتعذيب أو سوء المعاملة، بل جرى التعامل معهم كأسرى ذوي قيمة سياسية. المغرب، بقيادة الملك الحسن الثاني، كان مدركاً لحساسية الموقف، فالقضية لم تكن مجرد اعتقال عسكري بل ورقة تفاوضية في نزاع إقليمي شاركت فيه أطراف عدة، وخصوصاً أن وجود ضباط مصريين في صف الجزائر كان رسالة مباشرة من عبد الناصر ضد المغرب.
مع تزايد الضغوط الإقليمية وتدخل وسطاء عرب وأفارقة لوقف الحرب، تقرر الإفراج عن مبارك ورفاقه ضمن تسوية سياسية أنهت عملياً حرب الرمال التي لم تدم أكثر من شهر. عاد مبارك إلى مصر، ومنذ ذلك الحين لم يُكثر الإعلام المصري الرسمي من الحديث عن تلك الحادثة، ربما لتجنب تصويره في وضع الأسر أو كضابط وقع في يد خصومه، خاصة بعدما صعد لاحقاً ليصبح رئيساً لمصر.
وهكذا فإن قصة اعتقال مبارك خلال حرب الرمال تبدأ من هبوط اضطراري في محاميد الغزلان، حيث أسره الفلاحون المحليون بأدوات بسيطة قبل أن يتسلمه الجيش المغربي، ثم انتقاله إلى دار المقري بالرباط، واحتجازه لفترة قصيرة انتهت بإطلاق سراحه في إطار تسوية سياسية أنهت الحرب.
أول من وثّق رواية اعتقال حسني مبارك أثناء حرب الرمال هو الطيار المغربي صالح حشاد—قائد سرب سابق في سلاح الجو المغربي الذي اعتقل لاحقًا لنشاطه السياسي وتحدث في مقابلات تلفزيونية عام 2009 عن دوره في الاعتقال. بحسب روايته، نزلت مروحية تقل ضباطاً مصريين بين منطقة أرفود ومحاميد الغزلان نتيجة ضياع الملاحة أو عاصفة رملية، وحينها أرسل الجنرال محمد أوفقير أحد الطيارين إلى أرفود لأسرهم، ونجح في ذلك بعد دقائق، فكان عدد المعتقلين خمسة طيارين وضابط جزائري، منهم العقيد حسني مبارك
في شهادته أيضاً، يروى أن بعض السكان المحليين في محاميد الغزلان هم أول من رددوا الاعتقال فعلياً—ربطوا الضباط بالحبال إلى جذوع النخيل وربطوا حتى الطائرة خشية محاولة طيرانها مرة أخرى
يضيف حشاد أن التحقيق مع الأسرى المصريين أثار اهتمام الجنرال أوفقير الذي أمر بإحضارهم إلى مراكش ومن ثم نقلهم إلى دار المقري في الرباط في حوالي 20 أكتوبر 1963، وقد مكثوا شهراً تقريباً
خلال التحقيقات، بحسب الروايات، تميز مبارك بتعاطفه ومصداقيته في التعاطي مع المحققين المغاربة، إذ زودهم بكل المعلومات بينما ضابط آخر رفض التعاون مستنداً إلى اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب، لكن مبارك “اعترف بكل شيء” من دون تردد
هذه بعض الاقتباسات من حشاد وشهادته:
"الجنرال محمد أوفقير طلب من أحد الطيارين أن يتوجّه فوراً إلى أرفود وأسر الضباط المصريين ... وكان عددهم خمسة أسرى بينهم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك"
منتدى التكنولوجيا العسكرية والفضاء
"أُلقي القبض على ‘العقيد’ حسني مبارك في صحراء المغرب الشرقية... حين ربط المواطنون حسني مبارك بالمروحية خوفاً من طيرانها"
بعد الإفراج عن حسني مبارك ورفاقه وعودة البعثة المصرية إلى القاهرة، تعامل الإعلام المصري الرسمي مع الموضوع بتجاهل شبه كامل، وكأن الحادثة لم تقع. مصر أرادت أن تحافظ على صورة ضباطها، خصوصاً وأن مبارك ظل يصعد في السلم العسكري حتى أصبح لاحقاً قائداً للقوات الجوية، ثم نائباً للرئيس، ثم رئيساً للجمهورية. فكان من غير المقبول سياسياً أن يُذكر أن الرجل الذي صار رمزاً للجيش المصري وقع في الأسر خلال شبابه على يد فلاحين في المغرب.
أما في المغرب، فقد ظل الموضوع يُروى في بعض الدوائر التاريخية والإعلامية، خصوصاً كدليل على أن المغرب تمكن من إفشال الدعم المصري للجزائر خلال حرب الرمال. بعض المصادر المغربية كانت تلمح إلى الحادثة باعتبارها دليلاً على بسالة سكان محاميد الغزلان الذين أسروا ضباطاً مدججين بالسلاح بأدوات بسيطة قبل أن يتسلمهم الجيش المغربي. لكن في الخطاب الرسمي، لم تُستغل القصة بشكل واسع، ربما مراعاة للعلاقات مع مصر في المراحل اللاحقة.
في الجزائر، كانت القصة حساسة أكثر. النظام الجزائري في تلك الفترة كان يعتبر الدعم المصري جزءاً من شرعيته العسكرية والسياسية، لذلك لم يكن من المناسب الاعتراف بأن بعض الضباط المصريين، بينهم مبارك، وقعوا أسرى في المغرب. ولذلك قلّما أُشير إليها بشكل صريح في الإعلام الجزائري، وإن كانت معروفة في الأوساط السياسية والعسكرية.
مع مرور الزمن، عادت القصة لتطفو أحياناً في الإعلام العربي، خصوصاً بعد سقوط مبارك عام 2011، حيث استخدمها بعض خصومه كنوع من السخرية أو الطعن في "أسطورته العسكرية". في المغرب تحديداً، جرى تداول القصة على شكل حكاية شعبية عن بطولة الفلاحين البسطاء الذين تمكنوا من أسر رجل صار لاحقاً رئيساً لمصر، بينما في الجزائر كان ذكرها قليلاً لتجنب الإحراج.
وهكذا، فالقصة لم تتحول إلى ورقة سياسية دائمة، لكنها ظلت تروى بين الحين والآخر، وكل طرف يوظفها حسب موقعه: المغرب لإبراز بطولة مواطنيه، الجزائر لتجاهلها حفاظاً على صورته، ومصر لطمسها حفاظاً على هيبة مبارك الذي لم يكن يرغب إطلاقاً في أن يُذكر أنه كان أسيراً عند بداية مشواره العسكري.
أثناء إحدى المهام الجوية التي كُلّف بها، واجهت طائرة مبارك ومعه ستة من الضباط المصريين وقيادي جزائري ظروفاً صعبة، قيل إنها بسبب عاصفة رملية أو عطل فني، ما أجبرهم على الهبوط الاضطراري في منطقة صحراوية داخل التراب المغربي، بالقرب من محاميد الغزلان. لم تمر دقائق حتى التف حولهم عدد من الفلاحين المحليين الذين فوجئوا بالطائرة تهبط في أرضهم. هؤلاء الفلاحون كانوا مسلحين بأدوات بسيطة، لكنهم تمكنوا من السيطرة على الضباط فور خروجهم من الطائرة، وقاموا بتقييدهم بالحبال وربطهم إلى جذوع النخيل حتى لا يتمكنوا من الفرار. بل إنهم، حسب ما يروى، ربطوا الطائرة نفسها بحبال إلى الأشجار كي لا يقلع بها أحد.
بعد وقت قصير، وصل ضابط من المخابرات المغربية ومعه وحدة أمنية إلى المكان، وتأكد أن المحتجزين ليسوا جنوداً جزائريين عاديين، بل طيارون وضباط مصريون أرسلوا لدعم الجزائر ضد المغرب. فوراً تم نقلهم إلى مدينة مراكش، ثم إلى العاصمة الرباط، حيث أودعوا في دار المقري، وهو معتقل شهير كان تابعاً لوزارة الداخلية المغربية ويستخدم في تلك الحقبة لاحتجاز الشخصيات المهمة أو القضايا الحساسة.
مبارك وزملاؤه ظلوا رهن الاحتجاز لما يقارب الشهر، ولم ترد روايات عن تعرضهم للتعذيب أو سوء المعاملة، بل جرى التعامل معهم كأسرى ذوي قيمة سياسية. المغرب، بقيادة الملك الحسن الثاني، كان مدركاً لحساسية الموقف، فالقضية لم تكن مجرد اعتقال عسكري بل ورقة تفاوضية في نزاع إقليمي شاركت فيه أطراف عدة، وخصوصاً أن وجود ضباط مصريين في صف الجزائر كان رسالة مباشرة من عبد الناصر ضد المغرب.
مع تزايد الضغوط الإقليمية وتدخل وسطاء عرب وأفارقة لوقف الحرب، تقرر الإفراج عن مبارك ورفاقه ضمن تسوية سياسية أنهت عملياً حرب الرمال التي لم تدم أكثر من شهر. عاد مبارك إلى مصر، ومنذ ذلك الحين لم يُكثر الإعلام المصري الرسمي من الحديث عن تلك الحادثة، ربما لتجنب تصويره في وضع الأسر أو كضابط وقع في يد خصومه، خاصة بعدما صعد لاحقاً ليصبح رئيساً لمصر.
وهكذا فإن قصة اعتقال مبارك خلال حرب الرمال تبدأ من هبوط اضطراري في محاميد الغزلان، حيث أسره الفلاحون المحليون بأدوات بسيطة قبل أن يتسلمه الجيش المغربي، ثم انتقاله إلى دار المقري بالرباط، واحتجازه لفترة قصيرة انتهت بإطلاق سراحه في إطار تسوية سياسية أنهت الحرب.
أول من وثّق رواية اعتقال حسني مبارك أثناء حرب الرمال هو الطيار المغربي صالح حشاد—قائد سرب سابق في سلاح الجو المغربي الذي اعتقل لاحقًا لنشاطه السياسي وتحدث في مقابلات تلفزيونية عام 2009 عن دوره في الاعتقال. بحسب روايته، نزلت مروحية تقل ضباطاً مصريين بين منطقة أرفود ومحاميد الغزلان نتيجة ضياع الملاحة أو عاصفة رملية، وحينها أرسل الجنرال محمد أوفقير أحد الطيارين إلى أرفود لأسرهم، ونجح في ذلك بعد دقائق، فكان عدد المعتقلين خمسة طيارين وضابط جزائري، منهم العقيد حسني مبارك
في شهادته أيضاً، يروى أن بعض السكان المحليين في محاميد الغزلان هم أول من رددوا الاعتقال فعلياً—ربطوا الضباط بالحبال إلى جذوع النخيل وربطوا حتى الطائرة خشية محاولة طيرانها مرة أخرى
يضيف حشاد أن التحقيق مع الأسرى المصريين أثار اهتمام الجنرال أوفقير الذي أمر بإحضارهم إلى مراكش ومن ثم نقلهم إلى دار المقري في الرباط في حوالي 20 أكتوبر 1963، وقد مكثوا شهراً تقريباً
خلال التحقيقات، بحسب الروايات، تميز مبارك بتعاطفه ومصداقيته في التعاطي مع المحققين المغاربة، إذ زودهم بكل المعلومات بينما ضابط آخر رفض التعاون مستنداً إلى اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب، لكن مبارك “اعترف بكل شيء” من دون تردد
هذه بعض الاقتباسات من حشاد وشهادته:
"الجنرال محمد أوفقير طلب من أحد الطيارين أن يتوجّه فوراً إلى أرفود وأسر الضباط المصريين ... وكان عددهم خمسة أسرى بينهم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك"
منتدى التكنولوجيا العسكرية والفضاء
"أُلقي القبض على ‘العقيد’ حسني مبارك في صحراء المغرب الشرقية... حين ربط المواطنون حسني مبارك بالمروحية خوفاً من طيرانها"
بعد الإفراج عن حسني مبارك ورفاقه وعودة البعثة المصرية إلى القاهرة، تعامل الإعلام المصري الرسمي مع الموضوع بتجاهل شبه كامل، وكأن الحادثة لم تقع. مصر أرادت أن تحافظ على صورة ضباطها، خصوصاً وأن مبارك ظل يصعد في السلم العسكري حتى أصبح لاحقاً قائداً للقوات الجوية، ثم نائباً للرئيس، ثم رئيساً للجمهورية. فكان من غير المقبول سياسياً أن يُذكر أن الرجل الذي صار رمزاً للجيش المصري وقع في الأسر خلال شبابه على يد فلاحين في المغرب.
أما في المغرب، فقد ظل الموضوع يُروى في بعض الدوائر التاريخية والإعلامية، خصوصاً كدليل على أن المغرب تمكن من إفشال الدعم المصري للجزائر خلال حرب الرمال. بعض المصادر المغربية كانت تلمح إلى الحادثة باعتبارها دليلاً على بسالة سكان محاميد الغزلان الذين أسروا ضباطاً مدججين بالسلاح بأدوات بسيطة قبل أن يتسلمهم الجيش المغربي. لكن في الخطاب الرسمي، لم تُستغل القصة بشكل واسع، ربما مراعاة للعلاقات مع مصر في المراحل اللاحقة.
في الجزائر، كانت القصة حساسة أكثر. النظام الجزائري في تلك الفترة كان يعتبر الدعم المصري جزءاً من شرعيته العسكرية والسياسية، لذلك لم يكن من المناسب الاعتراف بأن بعض الضباط المصريين، بينهم مبارك، وقعوا أسرى في المغرب. ولذلك قلّما أُشير إليها بشكل صريح في الإعلام الجزائري، وإن كانت معروفة في الأوساط السياسية والعسكرية.
مع مرور الزمن، عادت القصة لتطفو أحياناً في الإعلام العربي، خصوصاً بعد سقوط مبارك عام 2011، حيث استخدمها بعض خصومه كنوع من السخرية أو الطعن في "أسطورته العسكرية". في المغرب تحديداً، جرى تداول القصة على شكل حكاية شعبية عن بطولة الفلاحين البسطاء الذين تمكنوا من أسر رجل صار لاحقاً رئيساً لمصر، بينما في الجزائر كان ذكرها قليلاً لتجنب الإحراج.
وهكذا، فالقصة لم تتحول إلى ورقة سياسية دائمة، لكنها ظلت تروى بين الحين والآخر، وكل طرف يوظفها حسب موقعه: المغرب لإبراز بطولة مواطنيه، الجزائر لتجاهلها حفاظاً على صورته، ومصر لطمسها حفاظاً على هيبة مبارك الذي لم يكن يرغب إطلاقاً في أن يُذكر أنه كان أسيراً عند بداية مشواره العسكري.