التحايل في الزكاة عند المغاربة: قراءة في الدوافع والآثار

 الزكاة بين الورع والتحايل: كيف يحولها بعض المغاربة من عبادة إلى لعبة اجتماعية

مقدمة
حين نتأمل في مسألة الزكاة عند المغاربة ونحاول الغوص في أعماقها بعيدًا عن الخطاب الوعظي المكرر أو التفسيرات الفقهية الجامدة، نجد أنفسنا أمام واقع مركب تختلط فيه النية بالمصلحة وتتصادم فيه صورة التدين الظاهري مع سلوك عملي مليء بالتحايل والانتقائية. فالزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام ومفتاح من مفاتيح العدالة الاجتماعية، تتحول في بعض السياقات المغربية إلى مجرد طقس سنوي يُمارَس بحسابات دقيقة واحتياطات دفاعية أكثر منها التزامًا روحيا أو استجابة صافية لأمر الله. ولعل أبرز صور هذا التحايل ما يقوم به البعض ممن يملك مبالغ معتبرة تصل أحيانًا إلى عشرين أو ثلاثين ألف درهم أو أكثر، فإذا حل وقت إخراج الزكاة جلس يحسبها كمن يحصي خسائر محتملة، ثم عمد إلى توزيع مبالغ صغيرة على عدد كبير من معارفه وأقربائه وجيرانه، فيعطي لكل واحد منهم مائتي درهم أو أقل، فقط ليبرئ ذمته من الناحية الشكلية دون أن يحقق أي أثر اجتماعي حقيقي، ودون أن يفتح أمام المستحقين بابا من الأمل في مشروع أو رزق يغير حالهم. وهنا تصبح الزكاة مجرد حركة ميكانيكية بلا روح، تفتقد بعدها التنموي الذي أراده الشرع حين جعلها وسيلة لتداول المال وتخفيف الفوارق بين الناس.

العرض
إننا إذا تمعنا في هذه الظاهرة نلمس وراءها عقلية متوجسة، عقلية ترى في الفقير خطرا محتملا يجب إبعاده بدل دعمه. فالغني الذي يوزع مائتي درهم على هذا وذاك، يعلم يقينا أن أحدًا من هؤلاء لن يخرج من دائرة الحاجة، وأنه سيظل يعود في كل عام إلى بابه، ولكنه يفضل ذلك على أن يمنح واحدًا منهم مبلغا أكبر قد يتيح له شراء أدوات لفتح محل أو عربة صغيرة أو بضاعة بسيطة، لأنه يخشى أن ينقطع عنه في العام المقبل ولا يجد أين يضع زكاته، أو لأنه لا يريد أن يتحول الفقير إلى ندٍّ اقتصادي يمكن أن ينافسه أو يستقل عنه. إن في هذا السلوك شبهة سيطرة واستبقاء لحالة الفقر، وكأن الغني يريد للفقراء أن يظلوا دائمًا في حالة انتظار للصدقة الصغيرة، لا أن ينهضوا بأنفسهم إلى مستوى آخر من الكرامة والاعتماد على الذات. وهنا يتجلى البعد النفسي العميق للتحايل، إذ لا يتعلق الأمر فقط بخوف من تبذير المال بل برغبة دفينة في الاحتفاظ بمواقع النفوذ الاجتماعي التي يتيحها الفقر للغني، حيث يصبح العطاء وسيلة لتثبيت المكانة الاجتماعية أكثر من كونه واجبًا دينيًا.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك فئة أخرى من الناس لا يخرجون الزكاة أصلًا، بل يتذرعون بأعذار شتى لتبرير تقصيرهم. فمنهم من يقول إن الدولة تأخذ ما يكفي من الضرائب، وإن هذه الضرائب بمثابة زكاة، رغم أن الفرق بينهما جوهري؛ فالزكاة عبادة وركن تعبدي قبل أن تكون إجراء ماليًا، والضرائب نظام اقتصادي دنيوي. ومنهم من يتحايل في حساب النصاب، فيخفي أمواله أو يوزعها بين الحسابات البنكية كي لا تصل إلى النصاب، ومنهم من يدعي أن عليه ديونا كثيرة أو التزامات لا تسمح له بالإخراج. كل هذه الصور تعكس اختلالًا في وعي ديني واجتماعي، حيث ينقلب الواجب إلى عبء، وتتحول الزكاة من فرصة لتطهير المال والنفس إلى معركة للتحايل والتهرب.

لكن السؤال الأعمق هو: لماذا تنتشر هذه السلوكيات بين المغاربة رغم أنهم شعب يتباهى بتدينه وتمسكه بالشعائر؟ أليس من المفترض أن تكون الزكاة، بما تحمله من بعد روحي واجتماعي، محل حرص واعتزاز؟ الجواب يكمن في التناقض الذي يطبع الحياة الدينية عند كثير من الناس، إذ تختلط المظاهر بالجوهر، فيُعظّم الصيام والحج والصلاة كطقوس علنية، بينما تهمل الزكاة لأنها ترتبط مباشرة بالمال، والمال في المخيال الجمعي يظل أكثر قداسة من أي واجب آخر. فالزكاة لا تختبر إيمان الإنسان في مظهره الخارجي بل تختبره في صميم ذاته، حيث يتعين عليه أن يمد يده إلى جيبه ويقتطع جزءًا مما جمعه بكد أو بما ورثه أو بما كسبه، ويمنحه لمن هو أقل حظًا. إنها امتحان للأنانية والجشع، ولذلك كان التحايل فيها أكثر من غيرها.

وقد يقال إن بعض الأغنياء يختارون هذا التوزيع المجزأ من باب حسن النية، إذ يرون أن من العدل أن يستفيد أكبر عدد ممكن من الفقراء ولو بمبالغ صغيرة، بدل أن يحصل شخص واحد على مبلغ كبير ويحرم الباقون. لكن الواقع يثبت أن هذا المنطق ليس بريئًا كما يبدو، لأنه في النهاية يوزع الفقر بدل أن يكسر دائرته. إن مائتي درهم لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي مجرد استراحة قصيرة في رحلة الحاجة الطويلة. أما مبلغ أكبر يمنح لشخص واحد فقد يتيح له شراء ماكينة خياطة أو عربة بيع متجول أو بضاعة صغيرة، وبهذا قد يتحول من مستهلك للزكاة إلى مانح لها في المستقبل، وهو الهدف الذي قصده الشرع حين أمر بإعطاء الزكاة لمستحقيها، لا فقط كإعانة وقتية بل كوسيلة للنهوض.

والمفارقة المؤلمة أن كثيرًا من الأغنياء لا يجدون حرجًا في صرف آلاف الدراهم على حفلات أو كماليات أو سفريات، بينما يضيّق صدرهم عندما يتعلق الأمر بالزكاة، فيحتسبونها بحذر ويبحثون عن أقصر طريق للتخلص منها بأقل كلفة شعورية. وهذا يعكس خللا في سلم القيم، حيث تتحول العبادات إلى واجبات ثقيلة تُؤدى بتبرم لا بحب، وتُفرغ من محتواها الإصلاحي لتصبح أشبه بضريبة يتهرب منها الناس بذكاء وحيلة. إن الأمر أشبه بمن يدفع رشوة لموظف ليخلصه من غرامة، فهو يؤدي المال مضطرًا لكنه لا يغيّر شيئًا في سلوكه.

ولعل ما يزيد الطين بلة أن بعض الفقراء أنفسهم صاروا يتواطؤون ضمنيًا مع هذا النظام، إذ يرضون بمبالغ صغيرة توزع عليهم سنويًا، ويتعاملون معها كحق مكتسب مهما كان ضئيلا، دون أن يفكروا في المطالبة بمشاريع أو فرص أوسع. بل إن بعضهم صار ينظر إلى الزكاة كعطاء طبيعي يشبه أجرة أو منحة، فينتظرها كل عام كما ينتظر الموظف راتبه. وهذا بدوره يكرس حلقة مغلقة من الاعتمادية والركود، فلا الفقير يخرج من فقره ولا الغني يترقى في إنسانيته.

إن التحايل في الزكاة ليس مجرد مخالفة فردية بل هو انعكاس لبنية اجتماعية وثقافية أوسع، حيث يغيب الوعي الجماعي بدور الزكاة كأداة للعدالة الاقتصادية. فالمغاربة يعيشون في مجتمع تتسع فيه الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتكثر فيه مظاهر البذخ إلى جانب مظاهر البؤس، ولو أُديت الزكاة كما يجب لكان لها أثر ملموس في تقليص هذه الفوارق. لكن حين تتحول إلى هبات متفرقة، فإنها لا تغير شيئًا من الواقع، بل تساهم في تكريسه. والأخطر من ذلك أن هذه الممارسات تفرغ الزكاة من معناها الروحي، فتصبح عادة شكلية بدل أن تكون عبادة توصل العبد بخالقه وتطهر نفسه من الشح.

ولكي ندرك عمق المشكلة، يكفي أن نتأمل في حياة بعض القرى المغربية حيث يعيش الناس على مساعدات موسمية ويعتمدون في معيشتهم على ما يقدمه الأغنياء في رمضان أو في مناسبات معينة. هؤلاء الفقراء يعرفون جيدًا أن ما يصلهم لا يكفي لتغيير واقعهم، ولكنه يسد رمقهم لبعض الأيام. وفي المقابل، يظل الغني مطمئنًا إلى أنه أدى ما عليه من واجب ديني، حتى لو كان فعله لا يغير شيئًا. إنها معادلة مضحكة مبكية: الغني يشتري راحته النفسية بالقليل، والفقير يشتري قوته اليومي بالقليل، والزكاة تذوب في هذا التبادل الهش دون أن تحقق مقصدها الأكبر.

ولكي نضع الصورة في سياق تاريخي أشمل، يجدر بنا أن نتذكر أن المجتمع المغربي عرف عبر تاريخه الطويل مؤسسات شبه أهلية كانت تقوم بدور قريب من تنظيم الزكاة بشكل جماعي، مثل نظام الأحباس أو الأوقاف، وصناديق القبائل التي كانت تجمع المساهمات سواء على شكل نقود أو محاصيل زراعية أو رؤوس ماشية، ثم تُصرف في مصالح مشتركة أو لمساعدة الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل. ففي بعض القرى الأمازيغية كان هناك ما يسمى "أغراس ن تايمزوارو" أي الطريق الأولى أو السكة المشتركة، حيث تُجمع التبرعات والعطاءات بما فيها الزكوات في مخزن قبلي يشرف عليه مجلس الأعيان، ثم توزع الموارد على الضعفاء أو تُستخدم لإصلاح السواقي وبناء المدارس القرآنية. هذه الممارسات لم تكن مثالية دائمًا لكنها عكست روحًا جماعية تختلف عن الروح الفردية المهيمنة اليوم. كان الغني لا يشعر أنه يملك وحده قرار زكاته بل يضعها ضمن وعاء جماعي يتصرف فيه العقل الجمعي، وبهذا كان المستفيدون يحصلون أحيانًا على نصيب يسمح لهم بمباشرة مشروع أو توفير أساس للعيش، بدل الفتات الذي يُعطى اليوم في شكل أوراق نقدية صغيرة.

ولنا أن نستحضر أيضًا أن المدن المغربية العتيقة مثل فاس ومراكش وسلا كانت تعرف وجود صناديق للأحباس تُصرف منها رواتب للمدرسين وأئمة المساجد وحفظة القرآن، بل وحتى لإطعام الغرباء والطلبة. ورغم أن هذه الأموال لم تكن كلها من الزكاة بل من الوقف والتبرعات، فإنها تعكس وعيًا جمعيًا بأن المال حين يُدار جماعيًا يعطي ثمرة أكبر. ولنا أن نتخيل لو أن زكوات اليوم البالغة ملايين الدراهم جُمعت في صناديق شفافة وأُديرت بعقلية استثمارية اجتماعية، كم من مشروع صغير يمكن أن يولد، وكم من شاب يمكن أن يجد عملًا، وكم من أسرة يمكن أن تنتقل من حالة الاستجداء إلى حالة الإنتاج.

ومن الأمثلة الواقعية المعاصرة أن بعض الجمعيات القروية في المغرب بدأت منذ عقدين في تبني مبادرات قريبة من هذا المنطق، حيث يقنعون الأغنياء في المنطقة بإخراج زكاتهم عبر الجمعية، ثم تقوم الجمعية بتجميعها وتوزيعها في شكل قروض صغيرة أو منح لشراء أدوات إنتاجية. فهناك قرية في ضواحي تارودانت استطاعت جمعية محلية أن تموّل من زكاة أهل القرية شراء عشرات آلات الخياطة لنساء أرامل ومطلقات، فتحولن من متلقيات للصدقة إلى عاملات يبعن إنتاجهن في السوق الأسبوعي. وهناك تجربة أخرى في نواحي خنيفرة حيث تم تخصيص جزء من الزكاة لشراء قطيع صغير من الماعز وزّع على شباب عاطلين، فصاروا بعد سنوات قليلة يملكون قطيعًا أكبر يوفر لهم مورد رزق قار. هذه التجارب البسيطة، وإن كانت محدودة، إلا أنها تُظهر بوضوح الفرق بين توزيع مبالغ مشتتة لا أثر لها، وبين استثمار جماعي للزكاة يفتح أبوابًا حقيقية للعيش الكريم.

إن مثل هذه الأمثلة التاريخية والمعاصرة تؤكد أن التحايل في الزكاة ليس أمرًا حتميًا أو قدرًا مكتوبًا، بل هو خيار ثقافي واجتماعي يمكن تجاوزه إذا أعيد بناء الثقة بين الناس وتمت إعادة الزكاة إلى روحها الأصلية. فالمغربي الذي يوزع عشرين ألف درهم على مئة شخص بمائتي درهم لكل واحد ليس أقل كرمًا في جوهره من ذاك الذي يضع المبلغ كله في صندوق جماعي، لكنه أسير عقلية فردية ضيقة تخاف من فقدان السيطرة. فإذا وُجد إطار مؤسسي شفاف يضمن وصول المال إلى مستحقيه ويبرئ ذمة المزكي، فلن يبقى مبرر للتحايل. بل إن كثيرًا من الأغنياء قد يجدون راحة أكبر في هذا النظام، لأنهم لا يضطرون إلى مواجهة الفقراء مباشرة ولا إلى إجراء حسابات معقدة حول من يستحق ومن لا يستحق، بل يكفيهم أن يضعوا زكاتهم في الصندوق لتصل إلى وجهتها بأثر أعمق.

وهكذا ندرك أن التحايل في الزكاة عند المغاربة ليس فقط مشكلة ضمير فردي بل أيضًا مشكلة غياب إطار جماعي منظم. ففي غياب هذا الإطار، يصبح الغني مترددًا، يخشى أن يعطي لشخص واحد فيتهمه الآخرون بالانحياز، أو أن يعطي مبلغًا كبيرًا فيتهمه الناس بالتبذير أو بالبحث عن سمعة، فيفضل أن يوزع مبالغ صغيرة تبرئه في أعين الجميع. هذا الحذر الاجتماعي يعمّق منطق التحايل، بينما لو وُجدت مؤسسة تحظى بثقة عامة، لما شعر الناس بهذا الحرج. والتاريخ المغربي مليء بالشواهد على أن مثل هذه المؤسسات ممكنة، من الأوقاف إلى جمعيات الزوايا التي كانت تجمع الزكوات وتنفقها في الأوجه المختلفة.

والبعد النفسي هنا لا يقل أهمية عن البعد الاجتماعي، فالغني الذي يتردد في تمكين الفقير يخشى في لا وعيه أن يفقد امتيازه الرمزي، فهو يفضّل أن يبقى الفقير محتاجًا إليه حتى يظل في موضع صاحب اليد العليا. إنه يخشى أن يتساوى معه الفقير في القيمة أو أن يكتسب استقلالية تجعله لا يحتاجه في المستقبل. ومن ثم فإن توزيع الزكاة في شكل مبالغ صغيرة هو أيضًا شكل من أشكال الهيمنة الرمزية، حيث يظل الفقير مدينًا للغني بالشكر والاعتراف في كل عام. وهذا يعكس أن التحايل في الزكاة ليس فقط مسألة رياضيات مالية بل هو لعبة نفسية عميقة تعكس علاقة مشوهة بين الطبقات، علاقة توازنها قائم على إبقاء الآخر ضعيفًا.

خاتمة
إن العودة إلى وعي أصيل بالزكاة كوسيلة للتنمية والتحرر، لا كوسيلة للسيطرة والإخضاع، هي وحدها التي يمكن أن تضع حدًا لهذه الممارسات. فالدين لم يشرع الزكاة لتكون أداة لإبقاء الفقير في موقعه، بل لتكون وسيلة للانتقال من الحاجة إلى الكفاية، ومن الكفاية إلى الغنى، حتى يصبح المجتمع متماسكًا لا متفككًا. والتحايل على الزكاة، مهما اختلفت صوره، هو تحايل على هذه الروح بالذات، وهو في النهاية تحايل على الله قبل أن يكون تحايلاً على الفقير.
تعليقات