القضاء في المغرب: بين الفساد الأكاديمي وتحديات الإصلاح
المقدمة
يُعد القضاء العمود الفقري لأي دولة تسعى إلى تحقيق العدالة وإرساء دولة الحق والقانون. في المغرب، ارتبطت منظومة القضاء بتطلعات إصلاحية كبيرة، أُكدت في الخطابات الملكية منذ عام 2009، التي دعت إلى "تخليق القضاء" وتعزيز نزاهته واستقلاليته. ومع ذلك، فإن فضائح مثل قضية بيع الشهادات الجامعية في أكادير، التي تورط فيها الأستاذ الجامعي أحمد قيلش، والاتهامات المتكررة بـ"الحكم بالهاتف"، تُلقي بظلال كثيفة على مصداقية هذه المنظومة. هذه القضايا لا تُهدد فقط سمعة التعليم العالي والقضاء، بل تُهدد ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، وتُثير تساؤلات حول مدى التزام القضاء بالمبادئ الأخلاقية والشرعية. في هذا المقال المطول، سنستعرض تفاصيل فضيحة قيلش، تأثيرها على القضاء، التحديات الأخلاقية التي تواجه المنظومة القضائية، وسبل الإصلاح المطلوبة لاستعادة الثقة في القضاء المغربي.
العرض
1. فضيحة قيلش: شبكة فساد أكاديمي تهز الجامعة المغربية
في ماي 2025، هزت قضية الأستاذ الجامعي أحمد قيلش، بكلية الحقوق بجامعة ابن زهر بأكادير، الرأي العام المغربي، بعد كشف شبكة فساد وصفت بـ"المافيا الأكاديمية". تُتهم هذه الشبكة ببيع شهادات الماستر والدكتوراه مقابل مبالغ مالية، نفوذ سياسي، أو ولاءات عائلية. بحسب تقارير إعلامية، لم يكن قيلش يعمل بمفرده، بل كان مدعومًا بشبكة معقدة ضمت موظفين إداريين، أساتذة، محامين، قضاة، موثقين، وأقارب مسؤولين سياسيين. هذه الشبكة، التي تضم أكثر من 30 شخصًا، كشفت عنها تحقيقات الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وأدت إلى إيداع قيلش السجن المحلي الأوداية بمراكش بأمر من قاضي التحقيق المكلف بجرائم الأموال.
القضية بدأت عندما اعترف موثق، أُوقف في صيف 2021 بتهمة اختلاس ودائع مالية، بأنه حصل على شهادة ماستر مزورة مقابل دفع 25 مليون سنتيم (25 ألف دولار) لقيلش، دون أن يحضر دروسًا أو يجتاز امتحانات. هذا الاعتراف فتح الباب لتحقيقات موسعة كشفت عن تلاعب منظم في تسجيل الطلبة بسلك الماستر ومنح شهادات عليا بطرق غير قانونية. ما يثير القلق هو أن استخراج هذه الشهادات يتطلب توقيعات من عميد الكلية ورئيس الجامعة، مما يعني أن التلاعب لم يكن ممكنًا دون تواطؤ أو إهمال من أطراف إدارية متعددة.
الأخطر من ذلك هو تورط شخصيات قضائية بارزة، مثل نواب وكلاء الملك، قضاة، ومحامين، في هذه الشبكة. هؤلاء الأفراد، الذين حصلوا على شهادات مزورة، يشغلون مناصب حساسة في القضاء، مما يطرح تساؤلات حول كفاءتهم ونزاهتهم في إصدار الأحكام. هذه الفضيحة لم تُسئ فقط إلى سمعة التعليم العالي، بل هددت ثقة المواطن في القضاء كمؤسسة حامية للعدالة.
2. الحكم بالهاتف: تهديد مباشر لاستقلالية القضاء
إلى جانب فضيحة قيلش، تتردد اتهامات خطيرة حول ظاهرة "الحكم بالهاتف"، وهي مصطلح يُستخدم للإشارة إلى التدخلات الخارجية في قرارات القضاة، سواء من خلال ضغوط سياسية، اجتماعية، أو مالية. هذه الاتهامات، التي تتكرر في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، تشير إلى أن بعض الأحكام القضائية قد تُتخذ بناءً على تعليمات خارجية، وليس استنادًا إلى الأدلة القانونية أو مبادئ العدالة. على الرغم من أن هذه الادعاءات لم تُثبت بشكل قاطع في كل الحالات، إلا أن انتشارها يعكس أزمة ثقة عميقة في المنظومة القضائية.
تقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" عام 2013 أشار إلى وجود عيوب في النظام القضائي المغربي، مثل الاعتماد على اعترافات مُنتزعة بطرق غير مشروعة كأدلة إدانة، مما يعزز الشكوك حول استقلالية القضاء. كما أن قضية قيلش نفسها تُظهر مفارقة مؤلمة: ففي عام 2018، رفع قيلش دعوى ضد شاب نشر تدوينة على فيسبوك يكشف فيها تورطه في بيع الشهادات، وقضت المحكمة بإدانة الشاب بغرامة 30 ألف درهم وتعويض 100 ألف درهم لقيلش، بتهمة القذف. هذا الحكم، الذي أُثبت لاحقًا أنه كان ظالمًا بعد اعتقال قيلش، يُبرز كيف يمكن أن يُستغل القضاء لحماية الفاسدين بدلاً من محاسبتهم.
هذه الظاهرة تُعزز الانطباع بأن القضاء قد يكون عرضة للتلاعب، سواء من خلال النفوذ السياسي أو المالي. في سياق الفساد الأكاديمي، فإن وجود قضاة حاملين شهادات مزورة يُفاقم هذه المشكلة، حيث يفتقر هؤلاء إلى الكفاءة الأكاديمية والأخلاقية لتحمل مسؤولية إصدار أحكام عادلة.
3. التداعيات الأخلاقية: انحراف عن المبادئ الشرعية والإنسانية
في مجتمع مغربي يُعلي من قيم الإسلام، التي تحث على العدالة والخوف من الله، فإن تورط شخصيات قضائية في فضائح مثل قضية قيلش يُمثل انحرافًا أخلاقيًا خطيرًا. القضاء، بوصفه مؤسسة تُناط بها حماية الحقوق ورد المظالم، يُفترض أن يتسم بالنزاهة والشفافية. ومع ذلك، فإن الاتهامات بـ"الحكم بالهاتف" وبيع الشهادات تُظهر أن بعض القضاة قد يكونون أبعد ما يكون عن هذه المبادئ.
إن وجود قضاة حاملين شهادات مزورة يعني أن أحكامهم قد تكون غير عادلة بسبب نقص الكفاءة العلمية، مما يؤدي إلى تدمير حياة أفراد وأسر. على سبيل المثال، إذا كان قاضٍ حصل على شهادته بطرق غير مشروعة، فإن قدرته على فهم القوانين وتطبيقها بشكل صحيح تكون موضع شك، مما قد يؤدي إلى أحكام ظالمة تُسبب معاناة كبيرة للمتقاضين. هذا الوضع يُفاقم الشعور بالظلم الاجتماعي ويُعزز الانطباع بأن القضاء أصبح أداة للنفوذ بدلاً من حصن للعدالة.
علاوة على ذلك، فإن غياب "الخوف من الله"، كما يُشار إليه في الخطاب الشعبي، يُمثل تهديدًا للقيم الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع المغربي. إن الشريعة الإسلامية تُحث القضاة على أن يكونوا عادلين ومنصفين، مستشهدة بقوله تعالى: "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (النساء: 58). ومع ذلك، فإن الفساد الأكاديمي والقضائي يُظهر أن هذه القيم قد تكون غائبة عن ممارسات بعض الأفراد في المنظومة القضائية.
4. الأسباب الجذرية للفساد في القضاء
إن الفساد في القضاء المغربي لا يقتصر على الأفراد، بل يعكس خللاً بنيويًا في النظام. من بين الأسباب الرئيسية:
غياب الرقابة الفعالة: على الرغم من وجود المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إلا أن آليات المحاسبة الداخلية لا تزال ضعيفة، مما يسمح باستمرار التجاوزات دون عقاب.
النفوذ السياسي والاجتماعي: تُظهر قضية قيلش كيف يمكن للنفوذ السياسي والعائلي أن يُستغل للحصول على امتيازات غير مشروعة، سواء في التعليم أو القضاء.
ضعف الأخلاقيات المهنية: إن غياب التكوين المستمر في الأخلاقيات المهنية للقضاة يُسهم في تفشي الفساد.
الفجوة بين القوانين والتطبيق: على الرغم من الإصلاحات الدستورية لعام 2011، التي أكدت على استقلال القضاء، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه الإصلاحات يواجه عقبات كبيرة.
5. الإصلاحات المطلوبة: نحو قضاء نزيه ومستقل
لمواجهة هذه التحديات، يتطلب الأمر إصلاحات جذرية تشمل:
تعميق التحقيقات في قضية قيلش: يجب توسيع دائرة التحقيق لتشمل جميع المتورطين، بما في ذلك المسؤولين الإداريين والقضائيين، مع فرض عقوبات صارمة لردع الفساد.
تعزيز استقلالية القضاء: ينبغي حماية القضاة من الضغوط الخارجية من خلال تفعيل دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتعزيز شفافية تعيين القضاة.
مراجعة جدارة حاملي الشهادات: يجب إجراء تدقيق شامل للشهادات العليا التي يحملها القضاة والمسؤولون في المناصب الحساسة، للتأكد من نزاهتها.
تعزيز الشفافية والمحاسبة: ينبغي نشر تقارير دورية عن أداء القضاء، وتشجيع المجتمع المدني على مراقبة المنظومة القضائية.
تعزيز التكوين الأخلاقي: يجب إدراج برامج تكوينية في الأخلاقيات المهنية للقضاة، مع التركيز على المبادئ الشرعية والإنسانية التي تُحث على العدالة.
إشراك المجتمع المدني: يمكن للجمعيات الحقوقية، مثل الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن تلعب دورًا في كشف الفساد ودعم الإصلاحات.
6. دور المجتمع في استعادة الثقة بالقضاء
إن استعادة الثقة في القضاء ليست مسؤولية الحكومة والمؤسسات وحدها، بل تتطلب مشاركة فعالة من المجتمع. يمكن للإعلام أن يلعب دورًا في كشف الفساد وتسليط الضوء على التجاوزات، كما حدث في قضية قيلش، التي انفجرت بعد تسريبات إعلامية واعترافات خلال التحقيقات. كما يمكن للمواطنين والمنظمات الحقوقية الضغط من أجل إصلاحات من خلال الحملات التوعوية والاحتجاجات السلمية.
علاوة على ذلك، يجب على الأفراد في المجتمع أن يتحلوا بالمسؤولية الأخلاقية في رفض الفساد، سواء في التعليم أو القضاء. إن التواطؤ المجتمعي مع الفساد، كما أشار تقرير لـ"هسبريس"، يُعد أحد العوامل التي تُغذي هذه الظاهرة، حيث يُشرعن الفساد داخل الأسر والمجتمعات الصغيرة.
الخاتمة
إن فضيحة بيع الشهادات الجامعية في أكادير، التي تورط فيها أحمد قيلش، والاتهامات بـ"الحكم بالهاتف"، تُمثلان جرس إنذار للمنظومة القضائية والأكاديمية في المغرب. هذه القضايا تكشف عن خلل بنيوي يهدد أسس دولة الحق والقانون، ويُفقد المواطن ثقته في مؤسساته. إن استعادة هذه الثقة تتطلب إصلاحات جذرية تشمل محاسبة المتورطين، تعزيز استقلالية القضاء، وإعادة الاعتبار للمبادئ الأخلاقية والشرعية التي يجب أن يقوم عليها القضاء. المغرب، بتاريخه العريق وتطلعاته الإصلاحية، قادر على تجاوز هذه الأزمة، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية، مشاركة مجتمعية فاعلة، وتفعيلًا حقيقيًا لآليات المحاسبة والشفافية. في النهاية، فإن القضاء النزيه هو حجر الزاوية في بناء مجتمع عادل، وأي تقصير فيه يُهدد استقرار الدولة والمجتمع بأسره.