الربى في المغرب: حين يتحول القرض إلى عبء يطارد الناس
مقدمة
في بلد يرفع الآذان خمس مرات في اليوم وتقام فيه الصلوات في المساجد العامرة، وفي بلد يفاخر بانتمائه للإسلام ويؤكد على مكانة الدين في مؤسساته الرسمية والشعبية، يظل الإنسان البسيط يجر وراءه ثقل الديون كما يجر الأسير قيوده، وكأن الربى صار قدَرًا محتومًا على كل بيت وكل أسرة. المغرب الذي يحكمه نظام يصف نفسه بأنه "إمارة المؤمنين"، أي المرجع الديني والسياسي في آن واحد، يجد نفسه اليوم غارقًا في وحل معاملات مالية يشوبها الحرام الصريح، حيث أصبحت القروض الربوية أداة يومية لحل مشكلات الناس، من الزواج إلى اقتناء الشقق إلى شراء سيارة أو حتى مجرد الحصول على أضحية العيد. إنك إذا تجولت بين الأزقة والأسواق أو جلست في مقهى شعبي تسمع الشكاوى تتكرر بنفس الكلمات: "مضطرين"، "ما لقيناش حل"، "القرض ولا ضرورة"، وكأن الجميع أجبر على أن يمد يده للبنوك وشركات القروض كي يستطيع أن يحيا حياة عادية، لا حياة رفاهية أو ترف، بل مجرد حياة الكفاف.
العرض
إن بداية الحكاية غالبًا ما تكون بسيطة: شاب يقترب من الثلاثين، يريد الزواج، وأسرته لا تملك ما يعينه على فتح بيت، فيلجأ إلى البنك أو إلى إحدى شركات الاستهلاك. يوقع أوراقًا طويلة لا يفهمها كلها، ويخرج بفرحة مؤقتة يظن أنها ستفتح له باب الاستقرار. لكنه سرعان ما يجد نفسه غارقًا في أقساط شهرية تثقل كاهله لسنوات طويلة، حتى يتحول الزواج الذي كان يفترض أن يكون بداية فرح إلى عبء ثقيل يصاحبه كل يوم. ومثل هذا الشاب آلاف وآلاف، كلهم يركضون في نفس الدائرة المغلقة التي تبدأ بالقرض وتنتهي بعجز دائم، فلا يبقى لهم من الراتب إلا الفتات بعد أن يقتطع البنك نصيبه أولًا. وهذا المثال لا ينحصر في الزواج، بل يمتد إلى كل تفاصيل الحياة: شراء شقة أصبح حلمًا مستحيلًا من دون قرض بنكي، وحتى الأضحية التي هي شعيرة دينية مرتبطة بعيد الأضحى، أصبح الكثيرون يلجؤون إلى قروض صغيرة من مؤسسات التمويل لشرائها، فتتحول الشعيرة إلى صفقة تجارية يقتطع فيها البنك جزءًا من فرحة العيد.
وما يزيد الغرابة أن هذه الظاهرة تتفشى في بلد يرفع راية الإسلام ويُعلي من شأن المرجعية الدينية. فالناس يسمعون خطب الجمعة التي تحذر من الربى وتصفه بالحرب مع الله ورسوله، لكنهم بعد الخروج من المسجد يجدون أن حياتهم اليومية تدفعهم دفعًا إلى الوقوع في المحظور، حتى صار التناقض بين الخطاب الديني والواقع الاقتصادي فجوة واسعة لا يمكن سدها. بعض الناس يبرر لنفسه قائلاً: "ما عندي اختيار، الدولة ما كتعاونش، والراتب ما كيكفيش"، وآخرون يعيشون الصراع النفسي بين ما يعتقدون أنه حرام وبين ما يضطرون إليه لتسيير حياتهم. وهنا يظهر السؤال المؤلم: كيف يمكن أن يستمر هذا التناقض في بلد يرفع شعار "إمارة المؤمنين"؟ أليس من المفترض أن يكون النظام هو الحامي الأول لأحكام الشرع، فيحارب الربى ويضع بدائل حقيقية للناس بدل أن يتركهم نهبًا للمؤسسات المالية الربوية؟
إن القروض في المغرب لم تعد وسيلة استثنائية لحالات الضرورة، بل أصبحت قاعدة عامة تسير بها حياة الملايين. الموظف البسيط يتقاضى راتبًا ضعيفًا بالكاد يكفي لحاجياته، وإذا أراد أن يحقق حلمًا صغيرًا كاقتناء بيت أو تجهيز ابنته للزواج أو إصلاح منزله، يجد نفسه أمام حل وحيد هو الاقتراض. والتاجر الصغير إذا ضاقت به الحال واحتاج إلى تمويل سريع، لن يجد أمامه سوى مؤسسات الإقراض التي تستغله بفوائد مرتفعة. وحتى الأضحية التي يفترض أن تكون رمزًا للتضحية والعبادة صارت سببًا في تراكم الديون، حيث تلجأ عائلات فقيرة إلى الاقتراض لشراء كبش العيد، فيتحول العيد من فرحة جماعية إلى همّ فردي ثقيل. إن هذا المشهد يطرح سؤالاً عميقًا حول معنى "العيش الكريم" في بلد يُفترض أنه مسلم، فإذا كان المسلمون يضطرون لارتكاب ما يرونه حرامًا من أجل إشباع حاجيات أساسية، فهذا يعني أن هناك خللًا في بنية الدولة والاقتصاد والمجتمع.
قد يبرر بعض المسؤولين الأمر بكون المغرب مرتبطًا بالمنظومة المالية العالمية التي لا تعرف إلا لغة الفائدة، وأن الربى أصبح جزءًا من قواعد السوق. لكن هذا التبرير لا يقنع البسطاء، الذين يرون في الأمر استسلامًا لا يليق ببلد يدّعي أنه يحمل مشروعًا دينيًا. ثم إن التجارب الإسلامية في بعض الدول أثبتت أن البدائل موجودة، من خلال البنوك التشاركية أو ما يسمى بالبنوك الإسلامية، لكنها في المغرب جاءت مشوهة ومقيدة بقيود كثيرة، حتى تحولت إلى مجرد نسخة أخرى من البنوك التقليدية مع تغيير في الأسماء والمصطلحات. الناس جربوا هذه البنوك التشاركية فاكتشفوا أنها لا تقدم لهم فرقًا كبيرًا، وأنها تظل في النهاية جزءًا من نفس النظام المالي الذي يستنزف جيوبهم. والنتيجة أن المواطن بقي في نفس المأزق: إما أن يقترض بالربى الصريح، وإما أن يقترض بما يسمى تمويلاً تشاركياً لا يختلف عنه كثيرًا.
إن انتشار الديون بين الناس لم يعد مجرد قضية اقتصادية، بل أصبح قضية اجتماعية وأخلاقية. فالعائلات تتفكك بسبب ثقل الأقساط، والآباء يهاجرون بحثًا عن دخل إضافي يسددون به القروض، والشباب يضيعون في متاهة لا تنتهي من الالتزامات المالية التي تقتل أحلامهم. وكم من أسرة سمعتُ عنها دخلت في نزاعات وشجارات لأن البنك حجز على راتب المعيل أو لأن القروض تراكمت حتى عجزوا عن السداد. إن الدَّين في المغرب لم يعد مجرد ورقة يوقعها الإنسان، بل أصبح كابوسًا يرافقه في نومه ويقظته، يحاصر أحلامه وقراراته، ويحدد مستقبله دون أن يترك له حرية الاختيار.
ومما يزيد الطين بلة أن ثقافة الاستهلاك التي شجعتها الإعلانات والإعلام زادت من عطش الناس للقروض، فالإشهارات التي تبث في القنوات أو التي تنتشر في الشوارع تقدم القرض وكأنه حل سحري لتحقيق الأحلام، تزينه بوجوه مبتسمة وألوان زاهية، لكنها تخفي وراءها الحقيقة المرة: سنوات طويلة من الاستنزاف والفوائد المركبة التي تجعل الإنسان عبداً للمؤسسة المالية. وبينما يدعو الدين الإسلامي إلى القناعة والعيش بما تيسر، يدعو النظام الاقتصادي المعاصر في المغرب إلى الاستهلاك بلا حدود، مما يضع الإنسان في صراع دائم بين قيمه الدينية ومتطلبات الواقع الذي يفرض عليه العيش بالربى.
في هذا السياق، تطرح المسؤولية الكبرى على عاتق الدولة ومؤسساتها، فإذا كانت الدولة تحكم باسم الإسلام وتتبنى "إمارة المؤمنين" شعارًا رسميًا، فإنها مطالبة بإيجاد حلول حقيقية وواقعية تنسجم مع هذا الشعار. لا يكفي أن تُلقى الخطب في المساجد عن خطورة الربى، بينما تظل الأبواب مغلقة أمام أي بديل عملي. ولا يكفي أن تُفتتح بنوك تشاركية شكلية، بينما يظل المواطن محاصرًا بين الفقر والديون. المطلوب إصلاح جذري يجعل الاقتصاد المغربي أكثر عدلاً ورحمة، ويمنح الناس بدائل حقيقية تتفق مع دينهم وقيمهم. فالمسلم لا يريد أن يعيش في حرب مع ربه كما جاء في النصوص القرآنية، ولا يريد أن يشعر بأنه مضطر لارتكاب الحرام كي يعيش حياة بسيطة.
لقد آن الأوان لمصارحة حقيقية: لا يمكن لبلد يرفع شعار الإسلام أن يترك مواطنيه غارقين في الديون الربوية إلى هذا الحد. لا يمكن أن يكون الدين مجرد زينة للخطاب الرسمي بينما الحياة اليومية تناقضه في كل تفاصيلها. إن الكرامة الإنسانية لا تتحقق بالقروض، بل تتحقق بتوفير فرص عمل كريمة وأجور عادلة وسكن ميسر وخدمات أساسية متاحة للجميع. إذا تحقق ذلك، فلن يضطر الشاب إلى الاقتراض ليتزوج، ولن تضطر الأسرة إلى الاستدانة لشراء أضحية، ولن يجد المواطن نفسه عبدًا للبنك طيلة حياته. إن معالجة أزمة الربى في المغرب ليست مسألة وعظ فقط، بل هي معركة اقتصادية واجتماعية وسياسية تتطلب إرادة حقيقية من الدولة ومشاركة واعية من المجتمع.
خاتمة
وفي الختام، يمكن القول إن الربى في المغرب لم يعد قضية فردية يواجهها هذا الشخص أو ذاك، بل أصبح ظاهرة عامة تنخر جسد المجتمع وتكشف عن تناقض خطير بين المرجعية الدينية والواقع العملي. الناس يعيشون في دوامة لا تنتهي من الديون التي تبدأ بقرض صغير ولا تنتهي إلا بفقدان الأمل في الخلاص. وإذا لم تتحرك الدولة بجدية لتوفير بدائل واقعية ومنسجمة مع الشريعة، فإن الهوة ستزداد بين الخطاب والواقع، وسيفقد الناس ثقتهم في الشعارات التي يسمعونها كل يوم. إن إنقاذ المغاربة من ربقة الربى ليس رفاهية، بل ضرورة ملحة لحماية دينهم وكرامتهم وإنسانيتهم. والبلد الذي يرفع شعار "إمارة المؤمنين" لا يليق به أن يترك رعاياه أسرى للبنوك، بل يجب أن يكون هو المبادر إلى تحريرهم من هذه العبودية الجديدة التي اسمها: الدَّين.