حين كان الرجل سيد البيت وكيف تغيرت الموازين في زمن المرأة

غلبة الرجال بين الماضي والحاضر: قراءة في تحولات البيت المغربي

 المقدمة
لم يعد خافياً على أحد أن صورة الرجل في هذا الزمان قد تغيرت بشكل كبير، وأن مكانته داخل البيت وفي المجتمع لم تعد هي نفسها التي عرفها الأجداد، حين كان يُنظر إلى الرجل على أنه عماد الأسرة وسيد الكلمة والقرار، وحين كان البيت يُبنى على قاعدة الطاعة له والثقة في حكمته وخبرته. فالزمن القديم كان يمنح الرجل مكانة شبه مقدسة، إذ لم يكن ممكناً الاعتراض على رأيه أو مخالفته، وكان الناس يعتبرون أن سلطة الرجل ضرورة لحفظ التوازن الأسري وضمان استقرار العلاقات داخل البيت. أما اليوم، فقد انقلبت الأمور رأساً على عقب، إذ صارت المرأة أكثر حضوراً وسيطرة، وصار الرجل في حالات كثيرة مجرد تابع أو منفذ لرغبات شريكته، وهو ما خلق جدلاً واسعاً حول السؤال: أي الأزمنة أفضل؟ أزمنة أجدادنا حيث كانت الكلمة العليا للرجل أم زمننا الحالي الذي انقلبت فيه الموازين؟

العرض
عندما نتأمل صورة البيت المغربي قديماً، نجد أن الرجل كان بحق هو السيد المطلق داخل جدران منزله، فقد كان رب البيت هو المسؤول الأول والأخير عن القرارات، سواء تعلقت بالإنفاق أو التربية أو العلاقات الاجتماعية. كان الناس ينظرون إليه باعتباره الحامي الذي يوفر الأمن لأسرته، والذي لا يمكن أن يتجرأ أحد على منازعته سلطته. حتى الزوجة، مهما بلغت قوتها أو حزمها، كانت تعرف أن مكانتها تأتي بعد مكانة الزوج، وأن احترامه واجب لا جدال فيه، لأن المجتمع نفسه كان يؤطر تلك العلاقة ويفرضها كعرف لا يمكن تجاوزه. وكانت المرأة، في أغلب الحالات، راضية بتلك القسمة، فهي لم تكن تتصور حياة مشتركة بلا قيادة واضحة للرجل، وكانت ترى في طاعته نوعاً من ضمان الاستقرار والكرامة.

هذا التصور القديم للعلاقة الزوجية والأسرية كان يجد سنده في تقاليد متوارثة، وفي مرجعية دينية وثقافية تعطي للرجل حق القوامة والمسؤولية الكبرى، وتجعل من الزوجة شريكة في الكفاح اليومي، لكنها ليست منافسة على السلطة. لذلك كانت البيوت أكثر انسجاماً في الظاهر، وكانت المشاكل أقل ظهوراً للعلن، لأن الجميع يعرف حدوده. حتى الأولاد كانوا يرون في أبيهم رمزاً للقوة والهيبة، فلا يجرؤون على رفع أصواتهم أمامه، وكان يكفي نظرة منه حتى ينضبط الجميع.

غير أن هذا النظام لم يكن يخلو من سلبيات، فقد كانت هناك حالات كثيرة من ظلم النساء وحرمانهن من حقوقهن، وكان صوتهن يُعتبر ثانوياً، حتى وإن تعلّق الأمر بقرارات تخصهن مباشرة. كثير من النساء عشن تحت وطأة القهر، يعانين في صمت لأن المجتمع لم يكن يسمح لهن بالتمرد. ومع ذلك، فإن ذلك الزمن كان يمنح الرجل مكانة واضحة، وكانت الأسرة تشعر بوجود مرجعية صلبة تعتمد عليها.

لكن مع مرور العقود، ومع تغير أنماط الحياة، وتوسع التعليم، وخروج المرأة إلى سوق الشغل، بدأت موازين القوى داخل البيت تتبدل تدريجياً. صارت المرأة تساهم في النفقة، وتشارك في القرارات، وتطالب بحقوق لم تكن تحلم بها من قبل. ولم يقف الأمر عند حد المشاركة، بل تعداه في كثير من الأحيان إلى السيطرة الكاملة، حيث أصبحنا نرى بيوتاً تُدار بالكامل من طرف الزوجة، بينما تراجع دور الرجل إلى مجرد منفذ أو مراقب صامت.

لقد ساهم الإعلام والانفتاح الثقافي ووسائل التواصل الحديثة في تكريس هذه التحولات، إذ صارت المرأة ترى نفسها قادرة على اتخاذ القرارات الكبرى بلا حاجة إلى وصاية. بل إن بعض النساء أصبحن يعتبرن أي سلطة للرجل نوعاً من التخلف أو الاستبداد، فانتقلنا من نظام تقليدي يقدس الرجل إلى نظام معاصر يقلل من شأنه ويجرده من مكانته الرمزية. ومن هنا نشأ إحساس عميق لدى كثير من الرجال بأنهم غُلبوا في هذا الزمان، وأنهم فقدوا شيئاً أساسياً كان يمنحهم الثقة والهيبة والاحترام.

وإذا ما قارنا بين الماضي والحاضر، نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة: ففي الماضي كان الرجل يملك الكلمة العليا لكنه كان يتحمل عبء المسؤولية كاملة، فلا أحد يلوم المرأة إذا أخطأت، بل كان الرجل دائماً هو المسؤول عن نجاح البيت أو فشله، عن تربية الأبناء أو انحرافهم، عن النفقة أو التقصير فيها. أما اليوم، فقد تراجعت سلطته، لكن الأعباء لم تختفِ، بل إن كثيراً من الرجال يعيشون ضغطاً مضاعفاً، إذ يُطلب منهم أن يشاركوا في الإنفاق والتربية، وفي الوقت نفسه أن يقبلوا بفقدان مكانتهم التقليدية، أي أنهم صاروا يتحملون التزامات من دون أن يقابلها امتياز اجتماعي أو رمزي.

ومن جهة أخرى، علينا أن نعترف أن الحاضر لم يخلُ من إيجابيات. فخروج المرأة إلى العمل، ومشاركتها في القرار الأسري، ساهم في التخفيف من الأعباء على الرجل، وفتح أمامها آفاقاً جديدة من الحرية والكرامة. كثير من النساء اليوم يرفعن أُسرهن بعرق جبينهن، ويقدمن الدعم لأزواجهن في مواجهة مصاعب الحياة، بل إن بعض البيوت ما كانت لتستمر لولا تضحيات المرأة وعملها. كما أن الأطفال صاروا يستفيدون من رعاية مزدوجة، حيث لم يعد العبء على الأم وحدها أو على الأب وحده.

لكن المشكلة أن هذه المساواة لم تُبنَ دائماً على التوازن، بل على رغبة في قلب الموازين. فقد أصبحنا نرى حالات كثيرة من استضعاف الرجل والسخرية منه، حتى في الثقافة الشعبية والبرامج التلفزيونية التي تقدم صورة مشوهة عن الزوج، باعتباره عاجزاً أو ضعيف الشخصية أمام زوجته. هذه الصورة جعلت كثيراً من الرجال يشعرون بالمرارة وبأنهم فقدوا رمزيتهم التاريخية، مما دفع بعضهم إلى الانطواء أو الهروب من مسؤولياتهم، فساهم ذلك في تدهور الاستقرار الأسري.

وفي المغرب خاصة، تتجلى هذه المفارقة بشكل أوضح، لأن المجتمع المغربي عاش طويلاً على القيم التقليدية التي تمنح للرجل مكانة قيادية، ثم فجأة وجد نفسه أمام تحول سريع جعل المرأة في الواجهة. صحيح أن هذا التحول ساهم في تمكين النساء ومنحهن فرصاً جديدة، لكنه في المقابل خلق صداماً داخل الأسر، حيث يشعر الرجل أنه لم يعد سيد بيته كما كان، بينما تشعر المرأة أنها تحررت من قيد قديم. والنتيجة أن كثيراً من الأسر صارت تعيش صراعات صامتة بين سلطة الرجل التقليدية وطموحات المرأة الحديثة.

وإذا ما تساءلنا: أي الأزمنة أفضل؟ فإن الجواب ليس سهلاً. فالماضي كان يمنح الرجال هيبة ومكانة، لكنه في الوقت نفسه كان يظلم النساء ويقيد حرياتهن. أما الحاضر، فإنه منح النساء مساحة أكبر من الحرية والقرار، لكنه أفقد الرجل جزءاً كبيراً من احترامه وهيبته. ربما الأفضل ليس في تبني نموذج الماضي بحذافيره ولا في الانسياق وراء حاضر مشوه، بل في البحث عن توازن جديد يضمن للرجل مكانته كقائد ومسؤول، ويمنح للمرأة حقوقها كإنسانة وشريكة حقيقية.

لقد كان التحول الذي عرفه البيت المغربي انعكاساً طبيعياً للتغيرات العميقة التي مست المجتمع برمته، فلم يعد الأمر مجرد صراع بين رجل وامرأة داخل جدران ضيقة، بل صار جزءاً من حركة اجتماعية واقتصادية وثقافية شاملة قلبت الموازين وأعادت صياغة العلاقات الإنسانية كلها. حين ننظر إلى الماضي، نجد أن حياة الناس كانت أبسط بكثير، فالبيت كان يضم الرجل والمرأة والأبناء وربما الأجداد أيضاً، وكانت الروابط متينة بفضل وضوح الأدوار، إذ يعرف كل طرف ما له وما عليه، فلا مجال للمساءلة حول من ينفق أو من يقرر، لأن الجواب كان جاهزاً دائماً: الرجل هو الكفيل والضامن، والمرأة هي الركيزة في الرعاية والبيت. هذا الوضوح كان يمنح الحياة نوعاً من الاستقرار حتى وإن كان يخفي وراءه ظلماً أو تهميشاً للمرأة، لكنه على الأقل كان يجعل السلطة محددة لا تقبل الجدل.

اليوم تغيرت المعادلة جذرياً. فقد خرجت المرأة إلى التعليم والعمل، وأصبحت لها موارد مالية مستقلة، وصارت تساهم في مصاريف البيت وربما تتكفل بها أحياناً كاملة، وهذا الواقع الجديد فتح أمامها أبواباً من الحرية والاختيار لم تكن متاحة من قبل، لكنه في المقابل أضعف سلطة الرجل وأربكه، إذ لم يعد يعرف كيف يثبت وجوده أمام شريكة تملك نفس الإمكانيات أو ربما أكثر. وهنا يظهر ما يصفه كثيرون بـ "غلبة الرجال"، فهم لم يعودوا وحدهم أصحاب القرار، بل أصبحوا يتقاسمونه أو يخسرونه تماماً.

هذا التحول لم يقتصر على العلاقة الثنائية بين الزوجين، بل انعكس بوضوح على تربية الأبناء. ففي الزمن الماضي، كان الأب يشكل رمز الهيبة داخل البيت، يكفي حضوره كي ينضبط الأبناء، وكانت الأم بدورها تذكرهم دائماً بضرورة طاعته واحترامه، حتى أن كثيراً من الأطفال كانوا يهابون اسم الأب أكثر من أي شيء آخر. أما اليوم، فإن كثيراً من الأطفال يرون في الأم صاحبة السلطة الحقيقية، فهي التي تنفق أحياناً، وهي التي تقرر في تفاصيل حياتهم، مما جعل صورة الأب تتراجع في وعي الأجيال الجديدة، وأصبح البعض ينظر إليه كشخص ثانوي أو حتى كضيف داخل بيته. هذا التحول جعل سلطة التربية مشتتة، ولم يعد الأبناء يعرفون المرجعية الواضحة التي كانوا يجدونها في الماضي.

وإذا عدنا إلى المجتمع المغربي ككل، فإننا سنجد أن صورة الرجل قديماً كانت ترتبط بالقوة والشهامة والقدرة على الحسم، وكان يُقال دائماً إن البيت بلا رجل كالسفينة بلا ربان. هذه الصورة لم تكن مجرد مقولة شعبية بل كانت تمثل قناعة عامة بأن الرجل لا غنى عنه في أي أسرة، وأن وجوده هو الضامن الحقيقي للاستقرار. أما اليوم فقد صارت هذه الصورة موضع نقاش، بل إن بعض الأصوات ترى أن وجود الرجل لم يعد أساسياً كما كان، لأن المرأة أصبحت قادرة على تدبير شؤون حياتها وحياة أبنائها بمفردها. هذه القناعة الجديدة أضعفت قيمة الرجل في المخيال الجمعي، حتى صار البعض ينظر إليه كعبء أكثر منه كركيزة.

ومما يزيد الطين بلة أن التحولات الاقتصادية القاسية جعلت كثيراً من الرجال عاجزين عن أداء دورهم التقليدي في الإنفاق، فموجات البطالة وغلاء المعيشة جعلت شريحة كبيرة منهم تعتمد على دعم الزوجة، وهذا الواقع وإن كان في ظاهره تعاوناً، إلا أنه في باطنه يحمل الكثير من الجرح للرجولة التقليدية، إذ لم يكن الرجل قديماً يقبل أن يُقال إن زوجته هي التي تنفق عليه أو تدبر شؤون بيته. لذلك صار عدد منهم يشعرون بالهامشية وبأنهم فقدوا مكانتهم، بينما تزداد المرأة قوة وثقة بالنفس.

لكن هل يمكن القول إن هذا التحول كله سلبي؟ الجواب معقد. فمن جهة، لا يمكن إنكار أن مشاركة المرأة في القرارات الأسرية والعمل والنفقة أعطت للبيت طاقة جديدة، وسمحت له بمواجهة تحديات الحياة الصعبة. ومن جهة أخرى، فإن إفراط بعض النساء في السيطرة والرغبة في تهميش الرجل خلق نوعاً من الصراع الداخلي الذي يهدد الأسرة في العمق. وهكذا نجد أنفسنا أمام مشهد متناقض: رجال يشعرون بالهزيمة لأن سلطتهم القديمة انهارت، ونساء يفرحن بالانتصار لكنهن يكتشفن أن هذا الانتصار قد يترك البيت هشاً ومفتتاً.

المثير في الأمر أن المجتمع المغربي ظل يعيش طويلاً على فكرة "الرجولة" كقيمة عليا، فكان يُمدح الرجل الذي يتحمل مسؤوليته وينفق على بيته ويُطاع من زوجته وأبنائه. هذه القيمة كانت تضبط السلوك وتمنح الرجل اعترافاً اجتماعياً. أما اليوم فقد تراجعت هذه القيمة بشكل لافت، وصارت بعض النساء بل وحتى بعض الرجال أنفسهم يسخرون من مفهوم "الكلمة العليا للرجل"، معتبرين أنه بقايا ماضٍ تقليدي يجب تجاوزه. هذا التغيير في القيم جعل الأجيال الجديدة تنشأ على فكرة مختلفة تماماً، وهي أن المساواة تعني بالضرورة تراجع سلطة الرجل، لا البحث عن التوازن والتكامل.

ومع ذلك، يظل في قلوب كثير من الناس حنين إلى الماضي، ليس لأنهم يريدون استعادة القهر الذي عاشته النساء، بل لأنهم يرون أن وضوح الأدوار في ذلك الزمن كان يمنح البيت استقراراً أكبر. ففي الماضي، رغم قسوة الحياة وفقرها، كان البيت متماسكاً أكثر، والطلاق نادراً، والاحترام متبادلاً حتى وإن كان غير متكافئ. أما اليوم، ومع كل ما تحقق من حقوق وحريات، فإن نسبة الطلاق ارتفعت، والخلافات صارت علنية، والأبناء يعيشون وسط انقسام في السلطة. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كنا أكثر سعادة حين كان الرجل سيد البيت، أم نحن أكثر سعادة الآن حيث المرأة هي التي تسطر على التفاصيل؟

الجواب يختلف من أسرة إلى أخرى، لكن المؤكد أن غلبة الرجال في هذا الزمان حقيقة يشعر بها الكثيرون، لأن الزمن الذي كانوا فيه قادة بلا منازع قد انتهى، وجاء زمن جديد لم يستطع أن يجد صيغة عادلة ومتوازنة بين الرجل والمرأة. فالأمر ليس في أن تكون السلطة للرجل أو للمرأة، بل في أن تتأسس الأسرة على التكامل والاعتراف المتبادل. الرجل الذي يحن إلى الماضي ربما ينسى أن المرأة دفعت ثمناً باهظاً من كرامتها في سبيل تلك السلطة، والمرأة التي تفرح بالحاضر ربما تنسى أن استقرار البيت يحتاج أيضاً إلى رمزية الرجل وهيبته. لذلك فإن الزمن الأفضل ليس بالضرورة وراءنا أو أمامنا، بل في اللحظة التي ندرك فيها أن الأسرة لا تقوم على غلبة طرف على آخر، بل على تفاهم عميق بينهما.

الخاتمة
إن غلبة الرجال في هذا الزمان ليست مجرد وهم، بل هي حقيقة يعيشها كثيرون وهم يرون أنفسهم يفقدون مكانتهم شيئاً فشيئاً داخل البيت والمجتمع. لقد كان الماضي يمنح الرجل سلطة مطلقة لكنه يحمّله المسؤولية كاملة، بينما جاء الحاضر ليقلب الموازين ويجعل المرأة أكثر حضوراً وقراراً، حتى بات الرجل في أحيان كثيرة يشعر بأنه مهمش في عقر داره. لذلك فإن النقاش حول أي الأزمنة أفضل يظل معقداً، لأن الماضي لم يكن جنة كاملة ولا الحاضر جحيماً مطلقاً، بل لكل زمن حسناته وسيئاته. غير أن المؤكد هو أن الأسرة لا تستقيم إلا بتوازن بين الرجل والمرأة، لا بسيطرة أحدهما على الآخر، وأن الرجل لكي يستعيد مكانته لا يحتاج إلى استبداد أو قمع، بل إلى تجديد دوره كحامٍ وراعٍ ومسؤول، في انسجام مع شريكة حياة لا تُقصى ولا تُهمش. وما لم ندرك هذه الحقيقة، فسنظل ندور في دائرة مفرغة من صراع الأزمنة والهيمنة، بينما المطلوب هو التعايش والعدل.
تعليقات