الفساد يهدد المغرب: وقائع موثقة ودور الشعب في الإنقاذ

 من أخنوش إلى وهبي: كيف يواجه الشعب المغربي الفساد المستشري


المقدمة: الفساد كجائحة تهدد استقرار المغربيعيش المغرب تحت وطأة أزمة عميقة تتمثل في الفساد المستشري، الذي أصبح كالوباء ينخر مؤسسات الدولة ويهدد أسس العدالة والتنمية. الفساد ليس مجرد ممارسات فردية، بل نظام متجذر يتغلغل في السياسة، الاقتصاد، القضاء، والإدارة، مما يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية، تضخم الديون العامة، وتآكل الثقة في المؤسسات. حسب تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، يكلف الفساد الاقتصاد المغربي حوالي 50 مليار درهم سنويًا، أي ما يعادل ميزانيات كافية لتحسين التعليم والصحة والبنية التحتية. تقارير دولية، مثل مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2024، تُصنف المغرب في المرتبة 37 من 180 دولة، مما يعكس تحديًا هيكليًا. من أرباح غير مشروعة إلى التهرب الضريبي وهيمنة اللوبيات، تتكشف يوميًا وقائع تُبرز عمق الأزمة. في هذا المقال، سنستعرض وقائع موثقة حول فساد شخصيات بارزة مثل عزيز أخنوش، عبد اللطيف وهبي، ورشيد الطالبي العلمي، مع التركيز على تهرب أخنوش من المحاسبة في المخطط الأخضر وقضية وهبي في تسريبات "جبروت"، ثم نناقش دور الشعب المغربي، شرعًا وقانونًا، مع أمثلة عملية لجهوده في مواجهة هذه الجائحة.1. وقائع موثقة تكشف عمق الفسادأ. عزيز أخنوش: أرباح غير أخلاقية وتهرب من المحاسبة في المخطط الأخضرعزيز أخنوش، رئيس الحكومة وأحد أثرى رجال الأعمال في المغرب، ارتبط اسمه بفضائح مالية أثارت جدلًا واسعًا. قبل توليه رئاسة الحكومة، كشفت تقارير إعلامية وتحقيقات برلمانية عام 2017 أن شركاته، خصوصًا في قطاع المحروقات، حققت أرباحًا غير مشروعة تقدر بـ17 مليار درهم (1.7 مليار دولار) نتيجة استغلال تحرير سوق المحروقات في 2015. اللجنة البرلمانية أظهرت هوامش ربح غير مبررة، حيث تم رفع أسعار المحروقات بشكل مصطنع على حساب المواطنين، دون محاسبة فعالة. هذه القضية كشفت عن تضارب المصالح بين دوره كرجل أعمال ومسؤول سياسي.إضافة إلى ذلك، واجه أخنوش اتهامات بالتهرب من المحاسبة في إطار "المخطط الأخضر"، وهو برنامج تنموي أُطلق عام 2008 لدعم الفلاحة. عبد اللطيف وهبي، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، اتهم أخنوش في 2021 بأنه استفاد من دعم المخطط الأخضر بشكل غير مشروع، مطالبًا بإعادة 17 مليار درهم إلى خزينة الدولة. وهبي أشار إلى أن أخنوش، بصفته وزير الفلاحة آنذاك، استغل منصبه لتوجيه الدعم العمومي لمصالح شركاته، دون تقديم حسابات واضحة عن كيفية صرف هذه الأموال. حتى اليوم، لم تُتخذ إجراءات قانونية حاسمة ضد أخنوش، مما يعزز شعور الشعب بأن النخب تتمتع بحصانة من المحاسبة.ب. عبد اللطيف وهبي: تسريبات "جبروت" وقضية القرض السريعتسريبات "جبروت"، التي نشرتها مجموعة قراصنة إلكترونيين في يوليوز 2024، كشفت عن فضيحة تورط فيها وزير العدل عبد اللطيف وهبي. الوثائق المسربة أظهرت أن وهبي اقتنى عقارًا فاخرًا في حي السفراء بالرباط عام 2020 بقيمة 11 مليار سنتيم (11 مليون درهم) من خلال قرض بنكي، وسدد أقساطه بالكامل في غضون أربع سنوات فقط، وهو زمن قياسي أثار تساؤلات حول مصدر الأموال. في أغسطس 2024، وهب العقار لزوجته بقيمة مصرح بها لا تتجاوز مليون درهم، رغم أن قيمته السوقية تفوق 11 مليون درهم، مما اعتبره العديد من المتابعين تهربًا ضريبيًا. وهبي دافع عن نفسه، مؤكدًا أن العملية "هبة قانونية" في إطار تثمين عمل المرأة المنزلي، وأنه مستعد للمراجعة الضريبية إذا ثبت وجود خطأ. لكن هذه الرواية لم تقنع الرأي العام، خصوصًا أن سرعة سداد القرض تثير شكوكًا حول مصادر تمويله. الحزب المغربي الحر تقدم بشكاية ضد وهبي أمام مصالح الرقابة المالية، مطالبًا بمحاسبته وإقالته، مما يعكس حجم الجدل المثار.ج. رشيد الطالبي العلمي: التهرب الضريبي الممتدرشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب، واجه اتهامات بالتهرب الضريبي لأكثر من 25 عامًا. تقارير إعلامية كشفت عن اكتشاف معمل سري للنسيج تابع لشركته منذ 1991، مع ديون ضريبية تصل إلى 1.3 مليار درهم. هذه القضية أثارت استياء الرأي العام، خصوصًا أن العلمي يشغل منصبًا دستوريًا رفيعًا يفترض أن يكون قدوة في النزاهة. عدم محاسبته بشكل فوري يعزز الانطباع بأن النخب السياسية محمية من القانون.د. هيمنة اللوبياتاللوبيات الاقتصادية والسياسية تتحكم في قطاعات حيوية مثل المحروقات، العقار، والصيد البحري. تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة أشار إلى أن هذه اللوبيات تُعيق عمل القضاء وتمنع تطبيق القوانين، مما يسمح باستمرار الإثراء غير المشروع. فضيحة المحروقات، على سبيل المثال، كشفت كيف استفادت شركات مملوكة لمسؤولين كبار من تحرير السوق، مما أدى إلى تضخم الأسعار وزيادة الأعباء على المواطنين. هذه الهيمنة تمتد إلى العقار والصيد البحري، حيث تُمنح امتيازات لشركات مرتبطة بالنخب دون رقابة فعّالة.هـ. الفساد البرلماني وسجن عكاشةرغم أن القول إن "نصف البرلمانيين في سجن عكاشة" قد يكون مبالغة، إلا أنه يعكس حالة السخط الشعبي من الفساد السياسي. شخصيات مثل محمد مبديع، الوزير السابق، انتهى به المطاف في سجن عكاشة بتهم نهب المال العام. تقارير المجالس الجهوية للحسابات كشفت عن اختلالات في تدبير الدعم العمومي للجمعيات، حيث تُستخدم اتفاقيات وهمية لتحويل الأموال إلى جيوب الأفراد.2. جهود الشعب المغربي في مواجهة الفساد: أمثلة عمليةالشعب المغربي لم يقف مكتوف الأيدي أمام هذه التحديات، بل أظهر مبادرات تُبرز إرادته في التغيير. فيما يلي أمثلة عملية لجهوده:أ. حراك الريف (2016-2017)حراك الريف، الذي اندلع في الحسيمة بعد مقتل بائع السمك محسن فكري، يُعد نموذجًا لتحرك شعبي سلمي ضد الفساد وسوء الحكامة. المحتجون طالبوا بتحسين الخدمات العامة، محاربة الفساد، وتوفير فرص عمل. رغم القمع، نجح الحراك في دفع الحكومة لإطلاق مشاريع تنموية في المنطقة، مما يُظهر أن الضغط الشعبي يمكن أن يؤتي ثماره.ب. حملة "#17مليار" على وسائل التواصل الاجتماعيبعد الكشف عن أرباح أخنوش غير الأخلاقية في قطاع المحروقات، أطلق الشباب حملة "#17مليار" على منصات التواصل الاجتماعي لفضح تضارب المصالح. الحملة جذبت آلاف المشاركين، وساهمت في إجبار السلطات على فتح تحقيق برلماني، رغم محدودية نتائجه. هذا المثال يُبرز قوة الإعلام الاجتماعي كأداة لتعبئة الرأي العام.ج. دور الجمعيات المدنيةمنظمات مثل "الشفافية المغرب" لعبت دورًا رئيسيًا في مراقبة الفساد. المنظمة قدمت تقارير دورية حول اختلالات تدبير المال العام، وساهمت في الضغط لتفعيل قانون الحق في الوصول إلى المعلومات. كما نظمت جمعيات محلية حملات لدعم الفئات المهمشة، مثل توفير التعليم في المناطق النائية، مما يُقلل من الفوارق الاجتماعية.د. التعاونيات الاقتصاديةفي مناطق مثل الأطلس المتوسط، أسست نساء تعاونيات لإنتاج زيت الأركان، مما وفر دخلًا مستدامًا وساهم في تمكينهن اقتصاديًا. هذه المبادرات تُظهر قدرة الشعب على بناء بدائل اقتصادية بعيدًا عن هيمنة اللوبيات. في الصويرة، على سبيل المثال، أنشأ شباب تعاونيات للصيد البحري المستدام، مما قلل من الاعتماد على الشركات الكبرى.هـ. المقاطعة الاقتصادية (2018)حملة المقاطعة الشعبية عام 2018 ضد شركات مثل "دانون" و"سنطرال" ومحطات وقود مرتبطة بأخنوش كانت ردًا على ارتفاع الأسعار واستغلال النفوذ. الحملة، التي نظمها الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أثرت على أرباح الشركات المستهدفة، مما أجبرها على مراجعة أسعارها جزئيًا. هذه الحملة تُظهر قدرة الشعب على استخدام المقاطعة كسلاح اقتصادي.3. الدور الشرعي والقانوني للشعبأ. الدور الشرعي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرمن الناحية الشرعية، يقوم الإسلام على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في قوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" (آل عمران: 110). هذا المبدأ يحث الشعب على مواجهة الفساد بالنصيحة، تقديم الشكاوى، أو تنظيم حملات توعية سلمية. النصيحة لا تعني التمرد، بل السعي للإصلاح بأساليب تحافظ على استقرار الوطن.ب. الدور القانوني: استغلال الدستورالدستور المغربي لعام 2011 يتيح أدوات قانونية للإصلاح. المادة 27 تكفل الحق في الوصول إلى المعلومات، مما يسمح بمراقبة الميزانيات والمشاريع الحكومية. المادة 29 تتيح التظاهر السلمي، وهو ما يمكن استغلاله للمطالبة بمحاسبة المسؤولين. الشعب مدعو لاستخدام هذه الحقوق للضغط من أجل إصلاحات هيكلية، مثل تعزيز استقلالية القضاء وتفعيل مؤسسات الحكامة.ج. خطوات عملية إضافيةتعزيز التعليم والوعي: يجب على الشباب مواصلة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الوعي، كما في حملة "#17مليار".دعم المجتمع المدني: الانضمام إلى منظمات مثل "الشفافية المغرب" يعزز الرقابة على المؤسسات.المشاركة السياسية: التصويت لمرشحين نزيهين أو الترشح للمناصب العامة يمكن أن يغير المشهد السياسي.رفض التطبيع مع الفساد: يجب على المواطنين رفض دفع الرشاوى، مهما كانت صغيرة، لخلق ثقافة النزاهة.تنظيم الضغط الاقتصادي: مواصلة المقاطعات الاقتصادية ضد الشركات المرتبطة بالفساد يمكن أن يدفع إلى تغييرات ملموسة.4.التحديات وسبل التغلب عليهاالتحديات تشمل الخوف من القمع، ضعف الثقة في المؤسسات، والانقسامات الاجتماعية. التغلب عليها يتطلب وحدة وطنية، صبرًا، وإصرارًا على الإصلاحات الهيكلية، مثل تحسين التعليم والصحة، إعادة هيكلة الديون العامة، وتعزيز استقلالية القضاء. يجب أيضًا على الشعب تجاوز الانقسامات الإقليمية والطبقية لبناء جبهة موحدة ضد الفساد. الخاتمةالفساد في المغرب، من أرباح أخنوش غير الأخلاقية وتهربه من المحاسبة في المخطط الأخضر، إلى فضيحة وهبي في تسريبات "جبروت" وسداد قرض ضخم في زمن قياسي، وصولًا إلى تهرب العلمي الضريبي وهيمنة اللوبيات، يُظهر أن الأزمة هيكلية. لكن الشعب المغربي أثبت قدرته على المواجهة من خلال حراك الريف، حملات التواصل الاجتماعي، التعاونيات المحلية، والمقاطعات الاقتصادية. شرعًا، يتحمل الشعب مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقانونًا، يوفر الدستور أدوات للإصلاح. المغرب، بتاريخه العريق وثقافته الغنية، يستحق جهودًا جماعية لاستعادة عدالته وازدهاره. فليواصل الشعب نضاله بصبر وإصرار، فالتغيير ممكن إذا توحدت الإرادات.
تعليقات