بين ألم الجسد وغلاء الدواء… معاناة صامتة لمرضى السرطان بالمغرب
مقدمة
ومثل كل مرض مزمن، السرطان يعري الفوارق الطبقية بلا رحمة. في القطاع الخاص، غرفة فردية وموعد سريع وطبيبٌ يُجيب على الهاتف، وإن تعطل مسرّع خطي للإشعاع يوجد بديلٌ بعد شارع أو اثنين. في القطاع العام، قوائم انتظار طويلة، أجهزة قليلة تعمل فوق طاقتها، اختناقات في مواعيد الأشعة، وتخصصات ناقصة هنا أو هناك، والطاقم الطبي يقاتل بين قلة الإمكانات وكثرة الواجبات. ليس هذا اتهامًا لأحد، بل توصيف لوضع بنيويّ: الاستثمار في البنية التحتية للأورام تقنيًا وبشريًا مكلف، وتوزيعه الترابي غير متوازن. لذلك تصير الرباط والدار البيضاء وطنًا ثانيًا لمرضى الجنوب والشرق والجبال، تتحول فيها بيوت قريبٍ بعيدٍ إلى فنادق مؤقتة، وتصبح كلمة “المدينة” مرادفًا للعلاج والحياة. المعضلة أنّ هذا النزوح العلاجي يضاعف كلفة المرض: النقل والإيواء والطعام وفقدان الدخل. ولذلك ظهرت عبر السنوات مبادرات مواطِنة: بيوتٌ للإيواء تسمى “دار الحياة” أو “بيت الأمل”، جمعيات تتكفل بالأدوية غير المغطاة، قوافل تصل إلى القرى للتوعية والكشف المبكر، ومؤسسات خصصت منحًا للحالات الاستثنائية. هذه المبادرات لا تعوض دولة، لكنها ترقّع ثغرات وتمنح وقتًا ثمينًا.
عرض
ثمّة فصلٌ مسكوت عنه كثيرًا: الألم. ليس كل ما في السرطان هو الأدوية المضادة للخلايا، فهناك دواءٌ للألم، للغثيان، للقلق، للاكتئاب، للأرق، للإمساك الذي تسببه المسكنات، للحكة التي ترافق الإشعاع، لقرح الفم التي تجعل اللقمة معركة. الرعاية التلطيفية ليست استسلامًا، بل علمٌ كامل يضمن للمريض كرامة العيش خلال الحرب، ويضمن للأسرة إرشادًا في كيفية تغيير الضمادات، إدارة الأعراض، ودعم الروح عندما يبهت الأمل. لكن ثقافتنا الطبية والاجتماعية لا تزال تخلط بين “تلطيف” و”يأس”، بين طلب مسكنٍ أقوى وبين “إدمان”، وبين البكاء في غرفة الطبيب و”قلة الإيمان”. في هذا الفراغ، يعاني كثيرون بصمت: مريضة تخجل من طلب جرعة مسكن إضافية خوفًا من نظرةٍ أو حكمٍ أخلاقي، مريضٌ يتألم ليلًا لأن وصفته انتهت ويحتاج موافقة جديدة، ومتطوعٌ يحاول جلب “عُكّاز” إداريّ لتمرير الدواء بسرعة. لو أُتيح للناس ما يكفي من معلومات دقيقة وإرشادٍ دينيّ وإنسانيّ، ولو وُسّعت دوائر الرعاية المنزلية ودعم الممرضة الميدانية والطبيب الأسري، لخفّ جزء كبير من العذاب الذي لا يظهر في الصور.
على هامش المسار الطبي، يشتغل سوق الظلال: وصفات الأعشاب الغالية التي تُباع في قوارير بلا أسماء، خلطات العسل بالحبة السوداء والزنجبيل التي تُقدّم كأنها خلاصٌ نهائيّ، “أوراق” تُحرق وأبخرة تُستنشق وكمادات كركم تُوضع على الجلد حتى يحترق. ليست المشكلة في التداوي بالأعشاب إن كان بإرشادٍ عقلانيّ ودعمٍ غذائيّ مساعد، المشكلة في الوعد المضلّل الذي يسرق المال والوقت والأمل ويجعل المريض يؤجل العلاج العلميّ حتى تتفاقم الحالة. لهذا يحتاج النظام برمته إلى خطاب تواصليّ أذكى: طبيبٌ يتحدث بوضوح دون تعالٍ، إعلامٌ يشرح ويستضيف من يفهم، ووزارة تنسّق حملاتٍ لا تكتفي بمقاطع دعائية قصيرة، بل تمشي إلى الناس حيث هم: في الأسواق الأسبوعية، في المساجد بعد صلاة الجمعة، في المدارس والجامعات، في صفحات الفيسبوك والواتساب حيث تنتشر الشائعات أسرع من أي مطبوعة رسمية.
السرطان أيضًا مدرسة في الفقر. أنت لا تفقر فقط لأن الدواء غالٍ، تفقر لأنك تفقد دخلك وأنت تتعافى، لأنك تحتاج مرافقًا يترك عمله ليكون معك، لأنّ الطريق تلتهم البنزين و”الكيران” ووجباتٍ تُشترى على عجل، لأنّ أطفالك يحتاجون مصاريف مدرسة لا تنتظر شفائك، ولأنّ البيت يعيد ترتيب نفسه: غرفة تتحول إلى فضاء عناية، فراشٌ جديد، أدوات نظافة إضافية، قائمة مشتريات تضمّ أشياء لم تكن تُشترى من قبل. المريض الذي كان يخطط لبناء طابقٍ جديد يضع المشروع في درج، والموظفة التي كانت تفكّر في ماسترٍ مهني تؤجل عامًا بعد عام، والأسرة التي كانت “تماشي الشهر” بالكاد الآن تتنفس على قنينة الأكسجين المالي. هنا يصبح للتضامن العائلي والمجتمعي دورٌ أخلاقيّ واقتصاديّ، لكنّه ليس دائمًا منصفًا: هناك من له شبكة قوية فتنهال المساعدات، وهناك من لا أحد له، فيطرق باب الجمعيات، فإن وجد بيروقراطية جديدة على باب الخير أُصيب بالإحباط مرتين.
قصة الأطفال مع السرطان قصة أخرى. هنا الألم أكبر لأن جسد الطفل صغير، ولأن الوالدين يعيشان بين ذنبٍ صامت وسؤالٍ كبير: لماذا نحن؟ غرف الأطفال في مراكز الأورام تزيَّن برسوم كرتونية وألعاب صغيرة، لكنّ الروح تعرف أنّ العلاج قاسٍ على الجسد الغضّ. تُدار جرعاتٌ بحساسية أعلى، وتُسند الأسر نفسيًا لأن الأخوة كذلك يتأثرون: أخٌ أكبر يشعر أنّه غير مرئيّ، وأختٌ صغيرة تتأتئ في الكلام بعد أن تغيّرت روتيناتها. المدارس بدورها لا تعرف دائمًا كيف تحتوي الطفل المريض عند عودته: زملاء يسألون عن الشعر المتساقط، معلمة لا تدري إن كان عليه أن يشارك في الرياضة، مديرٌ يتردد في قبول غياباتٍ متقطعة. كل هذا يحتاج بروتوكولًا تربويًا واضحًا يتعاون فيه قطاع الصحة مع التعليم، يجعل المدرسة امتدادًا لطيفًا للمستشفى لا حاجزًا بينهما.
ومن القضايا التي لا تُناقَش بما يكفي: العدالة في الوصول إلى العلاجات الجديدة. في العالم تتقدم المناعة الدوائية، يتوسع استخدام الأدوية الموجهة، وتتطور الجراحات المحافظة التي تقلل البتر وتزيد جودة الحياة. لكن إدخال كل دواء جديد إلى السلة العلاجية العامة يحتاج ميزانية وتقييمًا للفعالية والتكلفة ودراسات اقتصادية صحية، وفي الطريق تظهر فجوة: من يملك يدفع في القطاع الخاص ويستفيد سريعًا، ومن ينتظر تغطيةً يعبر وقتًا لا يرحم. الشفافية هنا مطلوبة: لجان تقييم الأدوية بحاجة إلى تواصل يشرح المعايير والجدولة الزمنية والبدائل، والمرضى بحاجة إلى منصات رقمية واضحة تُخبرهم أين وصل طلبهم وما المتاح لهم الآن، بدل أن يبقوا معلّقين على خبرٍ يأتي “الأسبوع القادم”.
في وسط هذا المشهد المعقد، لا بد أن نرى أيضًا نقاط الضوء. هناك أطباءٌ يواصلون الليل بالنهار ليظفر مريضهم بموعدٍ مبكر أو جرعة كاملة، هناك ممرضاتٌ يبتسمن لأنهنّ يعرفن أنّ الابتسامة جزءٌ من الدواء، هناك مختبرات تطوّر فحوصًا أدق، هناك جمعيات حقيقية لا تستخدم المرضى لإضاءة صفحاتها بل تخفف عبئهم بصمت، وهناك مبادرات وطنية للكشف المبكر عن سرطان الثدي وعنق الرحم والقولون إن توسعت وتكاملت قد تغيّر الخريطة خلال سنوات. الوقاية ليست شعارًا: هي ضرائب على التبغ تُخصص فعلاً للوقاية لا لثقوب أخرى، هي حملات للتطعيم ضد فيروس الورم الحليمي والتهاب الكبد B، هي بيئة عمرانية تشجع المشي والغذاء الصحي، وهي مدارسٌ تدرّس الأبناء معنى أن يقولوا “لا” للسيجارة الأولى بدل أن ينتظروا الطبيب الأخير.
ما الذي يريده مرضى السرطان من الدولة؟ يريدون أن يشعروا أنّ المرض لا يُسقط عنهم صفتهم كمواطنين كاملين. يريدون نظام تمويلٍ واضحًا وعادلاً: تأمينًا صحيًا فعّالًا بلا متاهات، سلة أدوية محدثة دوريًا، آليات شراء مركزية تقلّل الكلفة وتضمن التوفر، وخدمةً عمومية لا يُقاس فيها النجاح بعدد البلاغات بل بعدد الدموع التي لم تنزل. يريدون مسارات رعاية مدمجة: من المركز الصحي في القرية إلى المركز الجهوي للأورام إلى المستشفى الجامعي، بخطّ واضح ووسائل نقلٍ محترمة وإقاماتٍ مؤقتة لائقة لمن يأتي من بعيد. يريدون أن تُحترم كرامتهم في المكتب قبل قاعة العلاج: موظّفٌ يشرح لا يصرخ، لائحة معلّقة تبين الوثائق بدل أن تتغير كل يوم، هاتفٌ يرنّ ويُردّ عليه، وبرامج رقمية تختصر الوقت بدل أن تكون واجهة جديدة لبيروقراطية قديمة. ويريدون دعمًا نفسيًا وروحيًا قانونيًا: مرشدون نفسيون معتمدون في المراكز، فقه واقع يجسر بين الدين والعلم في موضوع الألم والمسكنات، وجمعيات تحظى بتمويلٍ مستدام لا يتوقف على مزاج تبرعات موسمية.
وما الذي يريده الأطباء والممرضون؟ يريدون تجهيزات تعمل بلا انقطاع، مسرّعات خطية كافية موزعة على الجهات، فرق صيانة سريعة، مختبرات تشريح مرضي لا تؤخر التقارير أسابيع، أدوية لا تنقطع، ورواتب وظروف عمل تحفظ كرامتهم وتقلّل هجرة الأدمغة. يريدون مساحة للتكوين المستمر ومؤتمراتٍ علمية يشاركون فيها لا يشاهدونها على يوتيوب فقط، يريدون بروتوكولات وطنية محدثة تجعل القرار العلاجي عادلًا ومنسجمًا بين المدن، ويريدون أن يُستمع إلى أصواتهم حين يكتب المسؤولون “الاستراتيجيات”. هؤلاء الجنود المجهولون هم صمّام الأمان: في كل مرة يضحّون باستراحة لأجل مريض، يمنحون النظام فرصةً أخلاقية للبقاء.
ثم هناك ملفّ الشفافية: أرقام السرطان الوطنية، خريطة الانتشار، نسب البقيا، أنواع السرطانات حسب الجهات، كل ذلك يجب أن يكون متاحًا ببيانات مفتوحة تتيح للصحافة والباحثين والجمعيات البناء عليها ومساءلة السياسات حين يلزم. لا شيء يطوّر نظامًا صحيًا مثل الضوء: حين يعرف المواطن كم من الوقت ينتظر، وكم جهازًا يعمل، وما هي كلفة الدواء، ولِمَ رُفض طلبه، يصبح الحوار عامًا لا همسًا. الشفافية تحمي كذلك من الانزلاقات: السوق الموازي للأدوية، تضارب المصالح، التلاعب بالمواعيد، و”الوساطات” التي تظلم الضعفاء مرتين.
في تفاصيل البيوت، تتشكل حكايات صغيرة لا تراها التقارير. فاطمة القادمة من قرية بعيدة، التي تعلّمت أن تقسّم الجرعة القوية إلى جرعات صغيرة من الصلاة بين التكبيرة والتكبيرة، التي تحفظ أسماء الممرضات كما لو كنّ بناتها. رشيد سائق الطاكسي الذي ظلّ يعمل في الأيام الجيدة ليؤمّن تكاليف الأيام السيئة، كان يقول لزبائنه وهو يضع قبعة لإخفاء صلعه: “الموت علينا حق، لكن الحياة واجب”. الطفلة مريم التي كانت ترسم فراشات على قفازات أمها حين تأتي الجرعة، وأطلقت على جهاز المصل اسم “الشجرة”، لأن منه “تنزل ماء الحياة”. طبيبة الأورام التي تحفظ ملامح كل مريض لكنها لا تستطيع حفظ كل ألمه منفردًا، فتجمع آلامهم في دفترٍ ذهني وتعود به إلى البيت كأنها تحمل سلة حجارة. هذه الحكايات هي ما يعطي للسياسة معنى: إن لم تُحسن دولةٌ ما قياس أثر قراراتها على فاطمة ورشيد ومريم والطبيبة، فهي لا تدير صحةً بل أوراقًا.
ليس المطلوب معجزة. المطلوب ترتيب أولوياتٍ شجاع: أن نضع الوقاية والكشف المبكر في المقدمة بلا تردّد، أن نعيد توزيع الاستثمار على الجهات بعدل، أن نحمي القطاع العام من الانهاك بالتجهيز والموارد البشرية، أن نبني جسورًا ذكية مع القطاع الخاص بالشراء الموحّد وتكامل الخدمات لا بالتخلي عن المسؤولية، وأن ننشئ نظامًا رقميًا حقيقيًا يرافق المريض من لحظة الشكّ الأولى إلى آخر مراجعة بعد الشفاء. المطلوب أيضًا أن نضع كرامة المريض في قلب كل شيء: في لسان الطبيب، في تصميم قاعة الانتظار، في ورقة الموافقة، في كيفية إخبار امرأةٍ بأن ثديها سيُستأصل وكيف سندعمها بعد ذلك. وأن نضع الأسرة كشريكٍ لا كمتفرج: دروس مبسطة لكيفية العناية بالمنفذ الوريدي، كتيّبات عن التغذية خلال العلاج، خطوط هاتف للدعم النفسي والقانوني، ومجموعات مساندة يقودها مختصون لا هواة.
حين نقول “غلاء فاحش للأدوية” نعني بالضبط تلك اللحظة التي تقف فيها أسرة على باب الصيدلية بين “أن نشتري ونستدين” و”أن نؤجل وننتظر”، ونعني منظومة تسعيرٍ ومشترياتٍ يمكن تحسينها بمزيدٍ من الشفافية والتفاوض المركزي وتشجيع البدائل الجنيسة والبيوسيميليار دون التفريط في الجودة، ونعني سياسة اعتماد سريعة تُوازن بين الأدلة العلمية وقدرة النظام، ونعني أيضًا مكافحة الانقطاع عبر سلاسل توريدٍ مرنة ومخزونٍ احتياطيّ للأدوية الحرجة. وحين نقول “تحامل الداء والدولة”، لا نقصد شيطنة مؤسساتٍ يعمل داخلها آلاف الشرفاء، بل نقصد أنّ المرض ثقيل والدولة حين تتأخر تصبح ثقله مضاعفًا، وأن العدالة الصحية لا تختبر فقط في عدد المراكز التي تُفتتح بل في عدد الخطوات التي وفّرناها على المريض وعدد الليالي التي نجّيناه فيها من برد محطة الحافلات.
خاتمة
في النهاية، مرضى السرطان في المغرب ليسوا أرقامًا في جدولٍ ولا قصصًا تُروى للتفاعل على مواقع التواصل. إنهم مواطنون لهم حقّ أن يعيشوا بكرامة ويتعالجوا بكرامة ويُكملوا حياتهم بكرامة، سواء أكانوا فلاحين في سهول دكالة أم موظفين في إدارات الرباط أم عمّالًا في مصانع طنجة أم نساءً يبعن الخبز في أزقة فاس. إنهم أمهاتٌ يخبئن خوفهنّ في قبلةٍ على جبين طفل، آباءٌ يهربون من دموعهم إلى سطح البيت، شبابٌ كانوا يحلمون بالسفر فصار حلمهم أن تعود نتائج الفحوص “مطمئنة”، وأطباءٌ وممرضون ومساعدون اجتماعيون يحاولون كل يوم أن يربطوا خيوط النظام ببعضها كي لا يقع أحد من الشبكة. إذا أردنا حقًا أن نخفف مأساتهم، فعلينا أن نتعامل مع السرطان كقضية دولة ومجتمع وثقافة واقتصاد في آنٍ واحد: أن نُصحّح المسارات، نُبسط الإجراءات، نُقوّي الوقاية، نضمن الدواء في الوقت المناسب وبالسعر الممكن، نوزع الأجهزة والأطر بإنصاف، نحترم المريض والأسرة في الخطاب والقرار، ونفتح البيانات أمام ضوء المساءلة. عندها فقط، حين تدخل فاطمة غرفة العلاج، لن تشعر أنّها تدخل حربًا وحيدة، بل منظومةً تعاهدت أن تحارب معها، وفرقٌ كبير بين أن تواجه السرطان بشخصك وبين أن تواجهه بوطنٍ يقف خلفك. وإذا كان الداء ثقيلًا، فليكن العدل أثقل، وإذا كان الألم مقيمًا، فليكن الأمل مقيمًا أيضًا، لا كشعارٍ مُعلّق على جدار، بل كموعدٍ تُحترم ورقة دخوله أكثر من أي ختمٍ على أي باب.