مائة مليون درهم تتبخر سنوياً في جمعيات الآباء: من يدافع عن التلميذ المغربي؟

 جمعيات الآباء بين شعار الدفاع عن المدرسة وواقع الفساد والاختلاس

المقدمة

إن المدرسة العمومية في المغرب تحولت إلى مرآة صادقة تعكس اختلالات عميقة تضرب في صميم المجتمع، فهي ليست مجرد فضاء للتعليم والتربية، بل هي مختبر يكشف كيف تتعامل الدولة والمجتمع مع قضية مصيرية تتعلق بمستقبل الأجيال. وحين نتأمل التفاصيل اليومية المرتبطة بهذه المؤسسة، نكتشف أن الأمر لم يعد يقتصر على ضعف البنية التحتية أو قلة التجهيزات أو نقص الأطر، بل إننا أمام شكل من أشكال الفساد الممنهج الذي تسرب إلى مفاصل المدرسة حتى صار التلميذ المغربي، وهو رمز البراءة والمستقبل، رهينة لمنطق الريع والزبونية وسوء التدبير. ومن بين أبرز الواجهات التي يظهر من خلالها هذا الفساد ما يسمى بجمعيات آباء وأولياء التلاميذ، التي وُجدت في الأصل لتكون صوتاً مدافعاً عن مصلحة التلميذ، لكنها في كثير من الأحيان تحولت إلى عبء إضافي، بل إلى قناة من قنوات نهب المال واستغلال الأسر الضعيفة.

العرض

فمنذ اللحظة الأولى التي يلتحق فيها التلميذ بمؤسسته التعليمية، يجد ولي أمره أمام إلزام غير معلن لأداء واجب الانخراط في هذه الجمعية، وهو مبلغ قد يبدو بسيطاً لا يتجاوز عشرين درهماً، غير أن الحسابات حين تتوسع إلى المستوى الوطني تصير مخيفة: خمسة ملايين تلميذ وتلميذة × عشرون درهماً = 100 مليون درهم سنوياً. أي أننا أمام 100 مليار سنتيم تدخل إلى صناديق هذه الجمعيات دون أن تخضع لنفس المساطر الصارمة التي تفرضها الدولة على أي مؤسسة مالية أو إدارية أخرى. ولأن المبلغ موزع على آلاف المؤسسات التعليمية في ربوع المملكة، فإنه غالباً ما يمر دون أن يثير انتباه الرأي العام، غير أن تجميعه في صورة واحدة يبين لنا حجم الخطر: نحن أمام ميزانية ضخمة توازي ميزانيات وزارات صغيرة أو جماعات ترابية كاملة، لكنها توجد بين يدي أشخاص عاديين لا يخضعون لأي تكوين محاسباتي أو رقابي، بل في أحيان كثيرة تكون نيتهم الأولى استغلال الموقع لا لخدمة التلميذ وإنما لتحقيق مكاسب شخصية أو انتخابية أو حتى مالية مباشرة.

إن المراقب البسيط يمكنه أن يسأل بكل براءة: ماذا لو استُثمرت هذه المائة مليون درهم فعلاً في تطوير المدرسة العمومية؟ لكان بالإمكان تجهيز آلاف الحجرات الدراسية بلوحات ذكية أو حواسيب حديثة، أو توفير مكتبات مدرسية تفتح أفق القراءة والمعرفة، أو تمويل أندية ثقافية ورياضية تسهم في تكوين شخصية التلميذ وتحصينه من الانحراف. لكن الواقع المؤلم هو أن القسم ما زال يعاني من الطاولات المهترئة، والجدران المتساقطة، والسبورات السوداء التي لم تعد تواكب الزمن، بل حتى المرافق الصحية في عدد من المدارس تفتقر إلى أبسط شروط النظافة والكرامة. فأين ذهبت إذن تلك المساهمات التي تقتطع من جيوب الأسر في كل موسم دراسي؟

الجواب يجرنا إلى فضاء الاختلالات والاختلاسات التي تحيط بعمل كثير من جمعيات الآباء. ففي غياب تقارير مالية دقيقة، وفي ظل انعدام الجموع العامة الحقيقية التي يحضرها الآباء ويطلعون فيها على التفاصيل، تتحول صناديق الجمعيات إلى شبه ملكية خاصة للمكتب المسير، يقرر فيها كيف يشاء، وأحياناً دون أي محاسبة. هناك من يستعمل المال لاقتناء لوازم من محلات تابعة لأقاربهم أو أصدقائهم، وهناك من يصرفها على حفلات شكلية لا أثر لها في تطوير التعليم، وهناك من يكتفي بالسكوت عن مصيرها وكأنها لم تكن. والأنكى أن القانون نفسه، في كثير من الحالات، لا يتحرك إلا حين تقع فضيحة كبرى أو حين يرفع بعض الغيورين شكايات إلى السلطات، لتظل الغالبية العظمى من هذه الجمعيات في منأى عن أي افتحاص أو متابعة.

الأخطر أن الأمر لا يقف عند حدود الاختلاس المالي، بل يتجاوزه إلى إفساد العلاقة بين أطراف العملية التعليمية. فالجمعيات، بدل أن تقف سنداً إلى جانب الأساتذة المطالبين بتحسين ظروفهم وضمان حق التلميذ في تعليم جيد، نجدها في لحظات عديدة تصطف ضدهم، بل وتتحول إلى أداة للضغط عليهم. حين كان الأساتذة ينزلون إلى الشارع محتجين على أوضاعهم المزرية، بدل أن يجدوا دعماً من الآباء، فوجئوا بمواقف عدائية من بعض هذه الجمعيات، التي وقفت إلى جانب الإدارة والوزارة بدعوى الدفاع عن مصلحة التلاميذ. غير أن المفارقة أن مصلحة التلميذ الحقيقية لا تتحقق بإسكات صوت الأستاذ أو الضغط عليه، بل تتحقق حين يتوفر لهذا الأخير الحد الأدنى من الكرامة والوسائل والظروف التي تمكنه من أداء رسالته. وهكذا، بدلاً من أن تكون الجمعيات جداراً للدفاع عن المدرسة العمومية، صارت في حالات كثيرة معولاً لهدم التضامن بين الأسرة والمدرس والأستاذ، مما يكرس عزلة رجل التعليم ويزيد من هشاشة المنظومة برمتها.

إن هذا الوضع يكشف جانباً خطيراً في الثقافة السائدة: الأسر التي ترضخ لهذا المنطق، وتدفع المبلغ كل سنة دون أن تسأل عن مصيره، إنما تساهم بشكل غير مباشر في تكريس الفساد. وحين تقف ضد الأستاذ الذي يطالب بحقوقه، فإنها في العمق تضعف المدرسة العمومية التي يدرس فيها أبناؤها. وفي النهاية، التلميذ نفسه هو الذي يؤدي الفاتورة مضاعفة: أولاً حين يقتطع ولي أمره من دخله الهزيل واجب الانخراط، وثانياً حين يجد نفسه داخل قسم متداعٍ، بلا وسائل تعليمية حديثة، وبأستاذ محبط يشتغل في ظروف سيئة. وهنا يتجلى الطابع المأساوي للقضية: المدرسة لم تعد ضحية فقط لسياسات الدولة، بل صارت ضحية لتواطؤ المجتمع نفسه مع الفساد الصغير المتغلغل في كل تفاصيل الحياة اليومية.

ولا ينبغي أن ننسى أن هذا النموذج من الفساد الصغير، وإن بدا محدوداً في مبلغه على المستوى الفردي، إلا أنه يشكل تربية حقيقية للأجيال على التطبيع مع الفساد. فالطفل الذي يرى أباه يدفع مبلغاً لجمعية لا يعرف مصيره، ثم يسمع عن فضائح الاختلاس والزبونية في المدرسة، سيتشرب فكرة أن الفساد أمر طبيعي ومقبول. والطفل الذي يرى أباه يقف ضد أستاذه بدل أن يسانده في مطالبه المشروعة، سيتعلم أن الانتهازية والأنانية قيم مسموح بها. وهكذا، بدل أن تكون المدرسة مجالاً لتعليم قيم المواطنة والشفافية والتضامن، تتحول إلى فضاء يعيد إنتاج نفس الأمراض التي نخرت المجتمع لعقود طويلة.

إن معالجة هذا الوضع تتطلب شجاعة سياسية ورقابية. يجب أن تخضع كل جمعيات الآباء لافتحاص مالي سنوي من طرف المجالس الجهوية للحسابات أو أي جهاز رقابي مستقل، وأن يكون أي تقرير مالي منشوراً وملزماً، حتى يعرف كل ولي أمر أين صرفت مساهمته. ويجب أن يتم القطع مع منطق الوجوه الدائمة التي تستغل موقعها داخل الجمعيات لسنوات طويلة، عبر فرض دورات انتخابية شفافة وتناوب حقيقي على المسؤولية. كما يجب على الوزارة الوصية أن تحدد بشكل دقيق أوجه صرف هذه الأموال، وأن تمنع أي استعمال لها خارج خدمة العملية التعليمية المباشرة. وبدون هذه الإجراءات، سيظل الوضع كما هو: مساهمات ضخمة تتبخر في الهواء، ومدرسة عمومية تزداد تدهوراً عاماً بعد عام.

الخاتمة

في الختام، يمكن القول إن قصة عشرين درهماً يؤديها كل تلميذ ليست مجرد تفصيل مالي صغير، بل هي مرآة تعكس أزمة أعمق في علاقتنا بالمؤسسة التعليمية. مائة مليون درهم سنوياً ليست بالمبلغ الهين، ومع ذلك فإنها تضيع بين أيدي جمعيات أغلبها لا يعرف الشفافية ولا يحترم قواعد المحاسبة. الأخطر أن هذه الجمعيات، بدل أن تدافع عن المدرسة العمومية، صارت أحياناً أداة لإضعافها، عبر اختلاس الأموال من جهة، والاصطفاف ضد الأساتذة من جهة أخرى. وهكذا، يبقى التلميذ المغربي الضحية الكبرى، يدفع الثمن من جيب أسرته ومن مستقبله ومن حقه في تعليم جيد. وإذا لم نفتح هذا الملف بجرأة، ونربطه بسؤال أعمق عن الفساد في المغرب، فإننا نكون قد تركنا أجيالاً كاملة تسير نحو المستقبل محملة بعبء الإحباط والظلم وفقدان الثقة. إن إصلاح المدرسة يبدأ من محاربة هذه الممارسات الصغيرة التي تبدو عادية، لكنها في الحقيقة أخطر بكثير لأنها تؤسس لثقافة عامة تجعل الفساد أمراً مألوفاً منذ أول مقعد دراسي.

تعليقات