من الأسواق الشعبية إلى أروقة السياسة: كيف أصبح النصب واقعًا يوميًا في المغرب
مقدمة
النصب والاحتيال في المغرب ليسا مجرد حوادث عرضية أو حالات فردية متفرقة يمكن التعامل معها باعتبارها استثناءً عن القاعدة، بل هما واقع متشعب يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة ويأخذ أشكالًا متعددة، من أبسط صور المعاملات التجارية الصغيرة إلى أعلى مراتب السياسة والاقتصاد. الحديث عن هذا الموضوع يستدعي الغوص في خلفيات اجتماعية وتاريخية وسياسية عميقة، لأن النصب ليس مجرد فعل يعكس دهاء فرد أو ضعف ضحية، بل هو انعكاس لنظام اجتماعي واقتصادي يسمح باستمراره، بل أحيانًا يشجعه أو يغض الطرف عنه. حين يتحدث الناس في الشارع المغربي عن النصب، فإن أول ما يخطر ببالهم هم أولئك الأشخاص الذين يستغلون طيبة الآخرين أو جهلهم أو حاجتهم، فيبيعون لهم أوهامًا مغلفة بوعود كاذبة، سواء تعلق الأمر بعقارات تباع أكثر من مرة، أو بمنتجات مغشوشة، أو حتى بوعود بتأشيرات سفر ووظائف خارج البلاد. لكن ما يجعل الظاهرة أخطر هو أنها لا تبقى حبيسة التعاملات اليومية العادية، بل تتسع لتشمل مؤسسات بأكملها، وأحيانًا قطاعات حساسة يفترض أن تكون محصنة ضد مثل هذه الممارسات.
عرض
ففي المجال التجاري مثلًا، يعرف السوق المغربي انتشارًا واسعًا لعمليات الغش، سواء عبر تزوير العلامات التجارية أو بيع بضائع منتهية الصلاحية بعد إعادة تغليفها، أو عبر استيراد سلع مغشوشة تمر أحيانًا أمام أعين سلطات المراقبة دون رقيب حقيقي. المستهلك المغربي أصبح في كثير من الحالات مضطرًا لأن يشك في كل ما يقتنيه، من قنينة الزيت إلى الأدوية، لأن واقع السوق جعل الثقة شبه منعدمة، وهذه الثقة المنعدمة هي الوجه الآخر لثقافة النصب التي زرعت جذورها في التعاملات اليومية. أما في المجال العقاري، فقد عرف المغرب على مدى عقود قضايا نصب كبرى، راح ضحيتها آلاف المواطنين الذين دفعوا مدخرات عمرهم مقابل شقق أو بقع أرضية لم يروا منها سوى عقود وهمية أو مشاريع لم تكتمل أبدًا. هؤلاء الضحايا لم يكونوا في الغالب من السذج أو قليلي الحيلة، بل كانوا أناسًا بحثوا عن الاستقرار والسكن، لكنهم وقعوا في شباك مقاولين محميين بشبكات علاقات معقدة تجعل من ملاحقتهم قضائيًا أمرًا شبه مستحيل، وهذا يوضح أن النصب حين يرتبط بالسلطة والمال يصبح ظاهرة محمية وليست مجرد جريمة فردية.
في ميدان التشغيل والهجرة، تحضر صور مأساوية للنصب والاحتيال، حيث تستغل وكالات وهمية أو شبكات غير قانونية حلم الشباب المغربي بالهجرة إلى الخارج، فتبيع لهم عقود عمل وهمية أو وعودًا بفرص لا وجود لها، مقابل مبالغ مالية كبيرة غالبًا ما تكون نتيجة قروض أو بيع ممتلكات أسرية. وما يزيد من مرارة هذه الحالات أن الضحايا لا يجدون سبيلًا لإنصافهم، لأن القوانين إما متساهلة أو متواطئة مع هذه الشبكات التي تعرف كيف تستغل ثغرات القانون وتعرف أيضًا كيف تحتمي خلف علاقات مع نافذين. النصب في هذا المجال يتحول إلى شكل من أشكال سحق الأحلام، حيث لا يخسر الشاب ماله فقط، بل يخسر ثقته في المستقبل وفي المؤسسات التي كان يفترض أن تحميه.
أما في السياسة، فالنصب يأخذ أبعادًا أخطر وأكثر تعقيدًا. فحين يعد السياسي ناخبيه ببرامج تنموية وإصلاحات جوهرية وهو يعلم مسبقًا أنها مجرد شعارات انتخابية لا نية حقيقية لتنفيذها، فإننا أمام عملية نصب جماعي ممنهج، يشارك فيه حزب بأكمله أو تحالف سياسي كامل. المواطن البسيط الذي يضع ثقته في وعود انتخابية يصوت عليها بناءً على ما يعتقد أنه سيغير حياته، يجد نفسه بعد سنوات أمام نفس المشاكل، بل ربما أمام تدهور أكبر. هذا النمط من النصب أخطر من أي عملية احتيال تجارية، لأنه يهدم الثقة في السياسة كمجال للتغيير، ويجعل الناس ينظرون إليها باعتبارها سوقًا للوهم، حيث يتم تبادل الكذب مقابل الأصوات، ثم لا يبقى شيء بعد ذلك سوى الخيبة والخذلان.
وفي الإدارة العمومية، تتجلى صور أخرى من النصب المقنع، حيث يجد المواطن نفسه مضطرًا لدفع رشاوى من أجل الحصول على حق مشروع، أو يُمنح وعودًا بإنجاز ملفه في آجال قصيرة مقابل “إكراميات”، ليكتشف في النهاية أن حقوقه لا تتحقق إلا عبر هذا المسار غير المشروع. هنا يصبح النصب جزءًا من البنية الإدارية، يمارسه الموظف باسم السلطة التي أوكلت له، فيتحول الحق إلى سلعة والواجب إلى مصدر ابتزاز. المواطن الذي يقبل بدفع الرشوة يعرف أنه ضحية نصب، لكنه يرضخ لأنه لا يملك خيارًا آخر، فيصبح شريكًا مكرهًا في استمرار المنظومة.
ولا يمكن إغفال المجال الثقافي والإعلامي، حيث يمارس النصب بأساليب ناعمة، عبر تسويق نجوم وهميين، أو نشر أخبار مزيفة، أو برامج تافهة تقدم على أنها منتوج ثقافي. المتلقي هنا يتعرض لعملية احتيال رمزية، حيث يُباع له الرديء باعتباره إبداعًا، ويُحرم من حقه في ثقافة حقيقية ترفع من وعيه وتمنحه أدوات النقد. هذا النمط من النصب أخطر على المدى الطويل، لأنه يعيد تشكيل وعي المجتمع بطريقة تجعل الخداع مقبولًا ومألوفًا، بل قد يجعله في نظر البعض ذكاءً اجتماعيًا أو مهارة للبقاء.
من أخطر ما في ظاهرة النصب بالمغرب أنها لم تعد تُرى كجريمة فقط، بل أحيانًا يُنظر إليها كسلوك عادي أو حتى مشروع. هناك من يبرر للمحتال بأنه “شاف فرصتو” أو “عاقب النية” أو “دار عقله”، وهذه العبارات تكشف كيف ترسخت ثقافة تجعل من الضحية مذنبًا لأنه صدق أو وثق، بينما يصبح النصاب مجرد شخص ذكي استغل ضعف الآخرين. هذه الثقافة ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة سنوات من التعايش مع الفساد والرشوة والمحسوبية، حيث تعلم الناس أن الطريق المستقيم قد لا يوصل إلى شيء، وأن الالتفاف والمراوغة هما السبيل الوحيد لتحقيق المكاسب.
لكن هل يمكن اعتبار النصب والاحتيال مجرد انعكاس لأخلاق الأفراد؟ الجواب يتجاوز هذا الطرح المبسط، لأن الظاهرة مرتبطة ببنية اقتصادية واجتماعية تسمح بانتشارها. حين يعيش ملايين الناس في هشاشة اقتصادية، وحين يكون الفرق بين الأغنياء والفقراء شاسعًا، وحين يغيب الأمل في عدالة حقيقية، يصبح النصب بالنسبة للبعض وسيلة للبقاء، ويصبح الاحتيال نوعًا من التعويض عن الشعور بالعجز. هذا لا يبرر الجريمة ولا يبرئ مرتكبيها، لكنه يفسر لماذا تجد لها بيئة خصبة تنتشر فيها.
ومن زاوية أخرى، لا يمكن إنكار أن السلطات أحيانًا تكون جزءًا من المشكلة. فالتساهل مع النصابين الكبار، أو إطلاق سراحهم بعد سنوات طويلة من المحاكمات دون نتائج ملموسة، أو حماية بعضهم عبر النفوذ، كلها عوامل تجعل المواطن يشعر بأن القانون لا يحمي الضعفاء، وأن من يملك المال والعلاقات يمكنه أن يحتال دون خوف. هذا الشعور باللاعدالة يغذي بدوره ثقافة عدم الثقة في المؤسسات، ويجعل الناس يبحثون عن حلول فردية ولو كانت غير قانونية.
النصب في المغرب إذن ليس مجرد سلسلة من القصص الفردية التي يمكن أن نرويها للترفيه أو للعظة، بل هو ظاهرة تعكس اختلالًا عميقًا في بنية المجتمع. هو مرآة تعكس غياب الثقة، وغياب العدالة، وغياب المحاسبة الحقيقية. والخروج من هذا الوضع لا يقتصر على سن قوانين جديدة أو تشديد العقوبات، لأن هذه الإجراءات تبقى سطحية ما لم يصاحبها تغيير ثقافي وتعليمي يجعل من النزاهة قيمة اجتماعية حقيقية، ويعيد الاعتبار للعمل الشريف، ويعزز ثقة الناس في أن الطريق القانوني والمستقيم قد يكون أطول لكنه يؤدي في النهاية إلى نتائج مضمونة.
خاتمة
إن النصب والاحتيال في المغرب هو في جوهره أزمة ثقة قبل أن يكون جريمة، أزمة ثقة بين المواطن والدولة، بين الفرد والسوق، بين الناخب والسياسي، بين المتعلم والمثقف والإعلام، وحتى بين الجار وجاره. هذه الأزمة لا تُحل عبر المحاكم فقط، بل عبر إعادة بناء منظومة قيمية تجعل من الكذب عيبًا لا مهارة، وتجعل من الغش خزيًا لا ذكاءً، وتجعل من احترام القانون فعلًا طبيعيًا لا بطولة. حينها فقط يمكن أن يبدأ المجتمع في التحرر من هذه الظاهرة التي تكلفه الكثير ماديًا ومعنويًا، وتحرم أبناءه من العيش في وطن يقوم على الشفافية والعدل والكرامة.