فشل محمد بن سلمان في مشاريعه الكبرى ومصير السعودية الغامض

 بين وعود رؤية 2030 والواقع المأزوم: السعودية إلى أين تحت حكم محمد بن سلمان؟


مقدمة

من يتأمل مسار الحكم في السعودية منذ تولي محمد بن سلمان زمام السلطة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر نفوذه على والده الملك، لا يمكنه إلا أن يتوقف طويلا أمام سلسلة المشاريع الضخمة التي أعلن عنها ثم ذابت في الهواء، أو تحولت إلى شعارات إعلامية بلا نتائج ملموسة. كان ولي العهد قد أراد أن يطل على العالم باعتباره رجل التحولات الكبرى، الإصلاحي الطموح الذي سينقل المملكة من دولة تعتمد على النفط وتعيش على ريع الطاقة إلى دولة عصرية منفتحة تعتمد على الاستثمارات والتكنولوجيا والسياحة والحداثة. رفع شعارات كبيرة مثل رؤية 2030، ومدينة نيوم، والانفتاح الثقافي والفني، واستضافة الأحداث العالمية، لكنه بعد سنوات من الضخ المالي والدعائي لم ينجح في أن يقنع أحداً بأن هذه المشاريع خرجت من طور الإعلان إلى طور الإنجاز الحقيقي. فالمشاريع العملاقة التي بشّر بها مثل نيوم ظلت في طور الرسوم الثلاثية الأبعاد، ومدينة الخط التي رُسمت بخيال مهندس معماري على شاشة حاسوب، بينما الواقع في شمال غرب المملكة يظل صحراء شاسعة لم تُنجز فيها إلا بعض البنى الأولية. أما التحول الاقتصادي فقد ظل أسيراً لتقلبات أسعار النفط، إذ كلما ارتفع سعر البرميل تنفّس النظام المالي قليلاً، وكلما انخفض عاد شبح العجز ليكشف أن السعودية ما زالت دولة ريعية في جوهرها، وأنها بعيدة عن أن تتحرر من لعنة النفط.

عرض

محمد بن سلمان حاول أيضاً أن يروج لنفسه كقائد جديد منفتح على الغرب ومحب للتغيير، فسمح بحفلات غنائية صاخبة وأدخل دور السينما وأطلق يد الهيئة العامة للترفيه، لكنه في الوقت نفسه شدّد قبضته على المعارضين بشكل غير مسبوق، حتى أن أبناء الأسرة الحاكمة أنفسهم لم يسلموا من الاعتقال أو الإقامة الجبرية. هذا التناقض بين خطاب الانفتاح وقمع الحريات جعل صورته في الداخل مرتبكة، وجعل المجتمع في حيرة: هل هو يسعى للتحديث فعلاً أم أنه يخلط بين التسلية والحداثة؟ فالتحديث في جوهره لا يقوم على استقدام المغنين والمصارعين، بل على بناء مؤسسات سياسية واقتصادية قوية تضمن مشاركة المواطنين في القرار، وتمنحهم حقوقهم الأساسية، وهو ما لم يتحقق.

ارضاء ترامب و تبدير المال العام 

في مايو 2025، وقع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وثيقة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، والتي تضمنت التزامًا سعوديًا باستثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع المقبلة. وقد وصف البيت الأبيض هذا التزامًا بـ"التاريخي"، مشيرًا إلى أنه يشمل أكبر صفقة مبيعات دفاعية في تاريخ أمريكا بقيمة 142 مليار دولار.

في أعقاب الإعلان، صرح ترامب بأنه سيطلب من الأمير محمد بن سلمان زيادة حجم الاستثمارات إلى تريليون دولار، مؤكدًا أن المملكة العربية السعودية ستستثمر على الأقل 600 مليار دولار في بلاده .هذه الاستثمارات تأتي في وقت حساس، حيث تواجه السعودية تحديات مالية تتعلق بتنفيذ هذه الالتزامات، وقد تعتمد قدرتها على توفير الأموال على مدى سرعة تنفيذ الاستثمارات وما إذا كانت ستلجأ إلى الاقتراض لتمويلها . من الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقيات تأتي في إطار تعزيز العلاقات الاقتصادية بين السعودية والولايات المتحدة، وقد أثارت اهتمامًا واسعًا نظرًا لحجمها وأهميتها الاستراتيجية.

حرب اليمن

أما على المستوى الخارجي، فقد أراد محمد بن سلمان أن يظهر بمظهر القائد العربي الجديد، القوي الحازم، فدخل في حرب اليمن باعتبارها مغامرة سريعة ستنهي نفوذ الحوثيين وتضع اليمن تحت النفوذ السعودي الكامل. لكن الحرب تحولت إلى مستنقع دموي استنزف السعودية مالياً وعسكرياً وأخلاقياً، فقد تورطت المملكة في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في المنطقة، بينما لم تحقق أي نصر عسكري حقيقي. الحوثيون ما زالوا يسيطرون على صنعاء وأجزاء واسعة من اليمن، بل أصبحوا أكثر جرأة في استهداف العمق السعودي بالصواريخ والطائرات المسيرة. هنا ظهر فشل آخر لمحمد بن سلمان: فشل الاستراتيجية العسكرية وفشل الرهان على أن الحسم سيكون سهلاً.

قضية خاشقجي

أكثر من ذلك، فإن اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية السعودية بإسطنبول شكّل ضربة كبرى لصورة ولي العهد على المستوى العالمي. لم يعد الغرب ينظر إليه باعتباره شاباً إصلاحياً، بل أصبح اسمه مقترناً بالقمع والقتل وتكميم الأفواه. ورغم أن الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تقطع العلاقات مع السعودية لأسباب تتعلق بالنفط والسلاح، إلا أن سمعة محمد بن سلمان تلطخت بشكل يصعب محوه. هذه الحادثة لم تضعف فقط صورته، بل أضعفت أيضاً قدرة السعودية على ترويج خطابها الجديد، لأن العالم أدرك أن الإصلاح المزعوم لا يعدو كونه ستاراً لسلطة فردية مطلقة.

في الداخل السعودي، يتضح الفشل في عدم قدرة ولي العهد على خلق توازن بين طموحاته الاقتصادية وواقع المجتمع. فقد فرض ضرائب جديدة وألغى بعض الإعانات التي كانت تمنح للمواطنين، ورفع أسعار بعض الخدمات، في وقت ما زال فيه أغلب الشعب يعتمد على الدولة كمصدر للوظائف والدخل. هذا التغيير المفاجئ في نمط الحياة الاقتصادية خلق تململاً صامتاً، وإن لم يتحول إلى احتجاجات واسعة بسبب القبضة الأمنية. لكن ما يخشاه محمد بن سلمان أن استمرار هذه السياسات مع أي أزمة اقتصادية عالمية قد يفجر سخطاً شعبياً يصعب احتواؤه.

فشل ولي العهد في تذبير أمور الدولة

إذاً، نحن أمام ولي عهد جمع بين الفشل الاقتصادي والعسكري والسياسي. يبقى السؤال: ما مصير السعودية تحت حكمه؟ الجواب ليس سهلاً، لأن السعودية دولة مركزية في المنطقة، وذات ثقل مالي وديني وسياسي لا يمكن تجاهله. لكن مستقبلها في ظل هذا النهج يبدو محفوفاً بالمخاطر. فمن جهة، استمرار اعتماد الاقتصاد على النفط مع غياب بدائل حقيقية يجعلها رهينة تقلبات السوق العالمية. فإذا حدث انهيار في أسعار النفط مجدداً كما حدث في السنوات الماضية، فإن كل الخطط الطموحة ستتوقف، وسيعود شبح العجز والديون. ومن جهة ثانية، الحرب في اليمن قد تنفجر مجدداً في أي لحظة، والحوثيون يملكون أوراق ضغط قوية. ومن جهة ثالثة، القمع الداخلي يولّد احتقاناً صامتاً، وهذا الاحتقان قد يظهر على شكل انفجار مفاجئ يصعب التنبؤ بزمانه ومكانه.

مصير السعودية الى اين?

مصير السعودية إذن قد يكون مزيجاً من استمرار القبضة الحديدية داخلياً، والتنازلات خارجياً للحفاظ على الدعم الغربي. فمحمد بن سلمان، رغم كل ما قيل عن طموحه للاستقلالية، لا يستطيع أن يحكم من دون مظلة أميركية. وقد ظهر ذلك حين اضطر إلى تحسين العلاقات مع واشنطن بعد وصول بايدن إلى الحكم، رغم أن الأخير كان قد وصف السعودية بالدولة المنبوذة. كذلك يسعى ولي العهد للتقارب مع الصين وروسيا لتخفيف الاعتماد على الغرب، لكنه يعرف أن هذه المناورات محدودة الأثر، لأن أمن المملكة في النهاية مرتبط بالحماية الأميركية.

هناك أيضاً البعد الديني الذي يثقل كاهل الحكم في السعودية. فكونها حامية الحرمين الشريفين يعطيها مكانة خاصة في العالم الإسلامي، لكن هذه المكانة تتعرض للاهتزاز حين يرى المسلمون أن بلاد الحرمين تتحول إلى ساحة للحفلات الصاخبة والاختلاط، بينما يقبع الدعاة والعلماء في السجون. هذه المفارقة قد تنعكس على صورة السعودية عالمياً، وتجعلها في موقع تناقض مع هويتها التاريخية.

إذا استمر محمد بن سلمان في طريقه الحالي، فإن السعودية قد تتحول إلى دولة تستهلك أموالها في مشاريع دعائية بلا جدوى، وتفقد تدريجياً قوتها الناعمة التي بنتها طوال عقود عبر الدين والنفط. وربما تصل في لحظة ما إلى مأزق تاريخي شبيه بما وصلت إليه دول نفطية أخرى حين نفد رصيدها المالي وفقدت شرعية حكمها. الفرق الوحيد أن السعودية أكبر وأغنى، لكنها أيضاً معرضة لضغوط أكبر.

احتمالات

السيناريو المحتمل هو أن يظل محمد بن سلمان ممسكاً بالسلطة بقبضة من حديد، مستفيداً من غياب البدائل داخل الأسرة الحاكمة ومن تفكك المعارضة في الخارج. لكنه سيظل يواجه مأزقاً متكرراً: كيف يحافظ على الاستقرار الداخلي مع تراجع النمو الاقتصادي وازدياد البطالة بين الشباب؟ كيف يقنع العالم بأنه إصلاحي بينما تلاحقه تهمة خاشقجي ويواصل اعتقال الأصوات المعارضة؟ كيف يوازن بين طموحه في أن يكون زعيماً عالمياً وبين عجزه عن حسم حرب اليمن؟ هذه الأسئلة تضع مستقبل المملكة على مفترق طرق خطير.

قد يجد محمد بن سلمان نفسه مضطراً إلى تقديم تنازلات مؤلمة، مثل فتح الباب أمام مشاركة سياسية أوسع أو إعادة النظر في بعض سياساته الاقتصادية، لكن حتى ذلك لن ينقذه إذا استمر في تجاهل جوهر الأزمة: غياب المؤسسات وضعف التوازن بين السلطة والمجتمع. إن الاعتماد على القمع والإعلام وحدهما لن يصنعا نهضة حقيقية ولن يضمنا استقراراً دائماً. ربما تصمد السعودية لسنوات بفضل ثروتها واحتياطاتها المالية، لكن من دون إصلاح حقيقي فإن هذه الثروة ستتبخر.

خاتمة

في النهاية، يمكن القول إن مصير السعودية في عهد محمد بن سلمان يتأرجح بين استمرار الوضع الحالي بما يحمله من توترات داخلية وعزلة خارجية، وبين احتمالات انفجار أزمات قد تعصف بالاستقرار. الفشل المتكرر في المشاريع الكبرى ليس مجرد إخفاق عابر، بل هو مؤشر على خلل بنيوي في طريقة إدارة الدولة. وإذا لم يُعالَج هذا الخلل، فإن المملكة قد تجد نفسها بعد سنوات أمام واقع جديد، حيث لا يكفي المال ولا القبضة الأمنية لإنقاذ حكم يفتقد للرؤية الحقيقية.

تعليقات