كيف يُستهدف الدين في المغرب عبر الإعلام والتعليم والحقوق الفردية؟
في المغرب حيث ظل الإسلام على مر القرون ركيزة أساسية للهوية الجماعية ومصدرًا للوحدة والانسجام الاجتماعي، لا تُشن الحرب عليه في العلن بالصورة التي قد يتخيلها البعض، بل يجري استهدافه في الخفاء بوسائل ناعمة ومتدرجة، حتى تبدو للمراقب غير الخبير مجرد تحديث أو مواءمة مع العصر، بينما هي في حقيقتها تفكيك متواصل للرابطة التي تجمع الإنسان المغربي بدينه. هذه الحرب لا تعتمد على السلاح ولا على القرارات المباشرة التي تصطدم مع عمق المجتمع، بل تُدار عبر الإعلام والفن والتعليم والمناهج الحقوقية، وعبر الدعم الخارجي الذي يُضخ في منظمات بعينها لتتولى فتح جبهات نقاش حول مواضيع تمس المرجعية الإسلامية مباشرة، فيتحول الإسلام من قوة حية تؤطر الحياة العامة إلى طقس فردي محاصر داخل المساجد.
العرض
من أبرز الآليات المستعملة في هذه الحرب الخفية خطاب الإعلام الذي يعيد تشكيل الوعي الجماعي ببطء شديد. فالدراما والأفلام والبرامج الحوارية كثيرًا ما تُدخل شخصيات ملحدة أو مثلية وتقدمها في صورة مثالية إيجابية متعاطفة، في مقابل تقديم الشخص المتدين في صورة متشددة أو رجعية أو عدوانية. هذا التكرار المقصود لا يمر من دون أثر، إذ يغرس في اللاوعي الجماعي انطباعًا غير مباشر مفاده أن الالتزام بالدين يعني الانغلاق والجمود، بينما التحرر من الدين أو الانفتاح على المثلية والإلحاد يعني الحداثة والعقلانية. وهنا يكمن الخطر، لأن الناس لا يتلقون الرسالة في لحظة نقاش فكري واعٍ، بل يتشربونها وهم في وضعية انفتاح عاطفي على قصة أو مشهد أو شخصية. وحين يُعاد تمرير هذه الصور مئات المرات، يصبح العقل الباطن مهيأً لتقبلها وكأنها طبيعية.
إلى جانب الإعلام، يأتي التعليم كجبهة أخرى لهذه الحرب الناعمة. إذ يلاحظ المتتبع أن مادة التربية الإسلامية لم تعد تحمل الزخم ذاته الذي كانت تحمله من قبل، وأن حضورها في المناهج صار هامشيًا مقارنة بمواد أخرى تُقدَّم باعتبارها أكثر أهمية لمستقبل الأجيال. لا أحد ينكر ضرورة العلوم واللغات والتقنيات، لكن حين يُقدَّم الدين في صورة باهتة كأنه مجرد تذكير بأحكام فقهية محدودة، فإن الطالب يتخرج برؤية مشوهة: يرى الإسلام طقسًا روحانيًا لا غير، بينما تتشكل عقليته على مرجعيات أخرى. هذا الإضعاف البطيء لا يثير
احتجاجًا واسعًا لأنه لا يأتي دفعة واحدة، بل يسير خطوة خطوة حتى يغدو الدين هامشيًا في الوجدان التربوي.
ثم تأتي المنظمات الحقوقية التي تشتغل على ملفات بعينها كالمثلية الجنسية، والعلاقات خارج الزواج، والمساواة في الإرث، والإجهاض، والإفطار العلني في رمضان. هذه القضايا لا تُطرح عادة في إطار مرجعية إسلامية أو نقاش داخلي نابع من حاجات المجتمع، بل في إطار ضغوط دولية ومواثيق حقوقية أممية، ويُسوَّق لها على أنها سبيل المغرب إلى اللحاق بركب الحداثة العالمية. لكن في العمق هي محاولات لكسر المرجعية الإسلامية التي تُعد أساس التشريع المغربي. الأخطر أن كثيرًا من هذه الجمعيات مدعومة بتمويلات خارجية ضخمة، ما يجعلها أداة لتنفيذ أجندات غريبة عن السياق المغربي، ومع ذلك يتم تمرير خطابها بلغة براقة عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، بحيث يختلط على المواطن البسيط الأمر بين قيم سامية يتفق معها دينه وبين مشاريع تهدف إلى تقويض الدين نفسه.
ثم تأتي المنظمات الحقوقية التي تشتغل على ملفات بعينها كالمثلية الجنسية، والعلاقات خارج الزواج، والمساواة في الإرث، والإجهاض، والإفطار العلني في رمضان. هذه القضايا لا تُطرح عادة في إطار مرجعية إسلامية أو نقاش داخلي نابع من حاجات المجتمع، بل في إطار ضغوط دولية ومواثيق حقوقية أممية، ويُسوَّق لها على أنها سبيل المغرب إلى اللحاق بركب الحداثة العالمية. لكن في العمق هي محاولات لكسر المرجعية الإسلامية التي تُعد أساس التشريع المغربي. الأخطر أن كثيرًا من هذه الجمعيات مدعومة بتمويلات خارجية ضخمة، ما يجعلها أداة لتنفيذ أجندات غريبة عن السياق المغربي، ومع ذلك يتم تمرير خطابها بلغة براقة عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، بحيث يختلط على المواطن البسيط الأمر بين قيم سامية يتفق معها دينه وبين مشاريع تهدف إلى تقويض الدين نفسه.
ولكي يُفتح النقاش حول هذه الطابوهات، لا بد من وجود شخصيات تجاهر علنًا بأفكار صادمة للمجتمع، مثل ابتسام لشكر التي قادت حملات تدعو إلى الإفطار العلني في رمضان وإلى حرية العلاقات خارج إطار الزواج، أو غيرها ممن يروجون للمثلية كحق طبيعي. هؤلاء لا يشكلون في حد ذاتهم تيارًا جماهيريًا واسعًا، لكن دورهم الأساسي هو كسر الصمت وإثارة الجدل العلني. في البداية ينفر الناس ويغضبون، لكن مع تكرار النقاش وتعدد المناسبات، يفقد الموضوع صدمة بداياته ويصبح حاضرًا في الفضاء العمومي كقضية عادية مطروحة. إنهم أشبه بكاسري الجليد الذين يفتحون الطريق أمام خطاب خفي يعمل بصمت عبر المؤسسات التعليمية والإعلامية والقانونية.
ما يعمق هذا الوضع أن الشباب المغربي يعيش في كثير من الأحيان فراغًا ثقافيًا وروحيًا، بسبب ضعف الخطاب الديني الرسمي الذي يكرر شعارات لا تتماشى مع الواقع، وبسبب فساد السياسة وتناقضها مع المبادئ الإسلامية المعلنة. حين يرى الشاب أن من يتحدثون باسم الدين يمارسون الظلم أو ينهبون المال العام، فإنه يفقد الثقة في الدين برمته، ويصبح عرضة للانجذاب نحو خطابات بديلة تقدم نفسها على أنها طريق الحرية والتحرر. بهذا الشكل يتم استغلال الأزمات الاجتماعية والسياسية لتمرير أجندات فكرية وثقافية تبعد المجتمع عن دينه، مستغلة إحباط الشباب وخيبة أمله.
ومع مرور الوقت، تظهر علامات هذا الضغط في لغة الناس اليومية، حيث تتكرر عبارات من قبيل “الدين علاقة شخصية بين الفرد وربه” أو “الجسد ملكية خاصة لا حق لأحد فيه”، وهي شعارات في ظاهرها بريئة لكنها تُعبر عن تحول عميق في المرجعية. فاللغة تعكس دائمًا ما استقر في العقول والقلوب، وحين تصبح هذه العبارات مألوفة على ألسنة الشباب، فهذا يعني أن الخطاب العلماني المتطرف والإلحادي قد تسلل بالفعل إلى النسيج الاجتماعي. والخطر هنا أن هذه الأفكار لم تعد حكرًا على النخب بل بدأت تتحول إلى قناعات جماهيرية لدى فئات من المجتمع.
رغم كل ذلك، يبقى الإسلام في المغرب حاضرًا بقوة في عمق الناس. فالتدين الشعبي، رغم ما يعتريه من طقوسية، لا يزال يحافظ على شعائر الصلاة والصيام والزكاة، ولا تزال المناسبات الدينية تشكل لحظات جامعة للأمة المغربية. لكن الخطر أن يُختزل الدين في هذه الطقوس فقط، وأن يُفرغ من مضمونه القيمي الذي يوجه حياة الفرد والمجتمع. فالحرب الخفية لا تهدف إلى منع الناس من الصلاة أو الصيام، بل إلى جعل هذه العبادات بلا أثر حقيقي في سلوكهم، بحيث يعيشون حياتهم بقوانين وثقافة أخرى، بينما يؤدون الطقوس في أوقات محددة. إنها عملية فصل تدريجي بين الإسلام كدين وبين الإسلام كهوية شاملة.
وإذا نظرنا إلى العقدين الأخيرين، سنجد أن كثيرًا من المواضيع التي كانت تعتبر من المحرمات المطلقة أصبحت اليوم مطروحة علنًا. فمسألة المثلية مثلًا، كانت حتى سنوات قليلة مضت لا تذكر إلا همسًا وفي سياقات محدودة، أما اليوم فقد أصبحت لها جمعيات تنظم أنشطة وتصدر بيانات وتجد منابر إعلامية تدافع عنها. كذلك مسألة المساواة في الإرث، التي كانت لا تخطر على بال، تحولت إلى موضوع نقاش مجتمعي وسياسي وإعلامي واسع، بفعل ضغط منظمات حقوقية مدعومة خارجيًا. هذه التحولات لم تحدث صدفة، بل نتيجة مسار طويل من العمل الخفي الذي يسعى إلى إعادة صياغة هوية المجتمع المغربي بعيدًا عن مرجعيته الإسلامية.
وعلى الرغم من أن المجتمع لا يزال يقاوم هذه الضغوط، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في أن هذه الحرب لا تدار على المدى القصير، بل هي حرب أجيال. فالمقصود ليس إحداث صدمة لحظية تُقابل برفض واسع، بل زعزعة البنية العميقة على مدى عقود حتى يترعرع جيل يرى في الإسلام مجرد طقوس شخصية لا علاقة لها بتنظيم المجتمع والدولة. وهنا تبرز خطورة الاستهانة بهذه الظواهر والاكتفاء بالنظر إليها كتصرفات فردية معزولة، بينما هي في الحقيقة جزء من مشروع أكبر يجري تنفيذه بصمت وبتدرج.
الخاتمة
إن المغرب اليوم يقف أمام مفترق طرق صعب، فإما أن يواجه هذا المسار الخفي بتجديد وعيه الديني والفكري وإعادة الاعتبار للإسلام كمرجعية شاملة للحياة، وإما أن يترك الأمور تسير في اتجاه علمنة بطيئة تفقد المجتمع خصوصيته وتتركه ممزق الهوية. إن أخطر ما في هذه الحرب أنها لا تعلن نفسها كحرب، بل تأتي متخفية تحت أقنعة الحرية والكرامة والحقوق الفردية، بينما هي في العمق محاولة لاقتلاع جذور الإسلام من النفوس. والمجتمع الذي لا ينتبه إلى هذه المخططات إلا بعد فوات الأوان، قد يجد نفسه وقد صار مسلمًا بالاسم فقط، بينما يعيش بقيم وسلوكيات لا تمت إلى الإسلام بصلة.