سياحة خارجية تفضح نفاق الخطاب الرسمي
في بلد يُنادي ليلًا ونهارًا بتنمية السياحة الداخلية، ويُخصص الملايين من الدراهم لحملات الترويج لمناطق لا تحتاج سوى إلى قليل من الصيانة وكثير من الصدق، نجد أن من يتولون زمام التوجيه والتخطيط والتسويق هم أول من يهربون خارج حدود الوطن كلما لاحت لهم فرصة عطلة أو استراحة. مشهد متكرر ومخجل، لا يُمكن اعتباره صدفة ولا ظرفًا استثنائيًا، بل أصبح قاعدة سلوكية لدى طبقة من المسؤولين الذين لا يرون في الوطن سوى مصرف مفتوح ومكتب عمل مؤقت، بينما تُشد الرحال إلى جزر بعيدة، وفنادق فاخرة، ومطاعم لا تعرف عن المغرب إلا اسمه على بطاقات السفر. هكذا إذن، يتحول الوطن إلى واجهة للاستهلاك الإعلامي بينما تُستهلك أموال الشعب في سردينيا، والزنجبار، ونيس، وجنيف، وبرشلونة. فما الرسالة التي تُبعث إلى المواطن المغربي البسيط الذي لا يجد أحيانًا ثمن تذكرة الحافلة إلى شاطئ يبعد عنه بعشرين كيلومترًا؟ ما الذي يمكن أن يفهمه شاب عاطل أو ربّ أسرة مكسور الظهر حين يرى وزراء ومسؤولين يتحدثون صباحًا عن تشجيع السياحة الداخلية ثم يظهرون مساءً على شواطئ المتوسط الأوروبي أو المحيط الهندي يرفعون كؤوس الرفاهية ويدسون الوطن في حقائب يدهم؟ هل المطلوب من هذا المواطن أن يُصدق أن هؤلاء أمناء على ما في الخزينة العامة؟ أم أن عليه أن يتعلم باكرًا أن الوطنية شعار يُرفع فقط حين يتعلق الأمر بالشعب، ويُطوى حين يتعلق الأمر بالامتيازات؟
نحن لا نتحدث عن حرية شخصية في اختيار وجهة عطلة، بل عن نموذج يُفترض أن يُقتدى به، وعن مسؤول يحمل على عاتقه مهمة الترويج لصورة البلد، وإنعاش اقتصاده، وتحفيز مواطنيه على استكشاف خيرات بلادهم. حين تسافر وزيرة السياحة إلى الزنجبار لقضاء عطلتها، وتُنشر صورها مبتسمة في منتجعات أجنبية بينما آلاف الفنادق المغربية تئن من قلة الزوار وتراجع النشاط، فإن ذلك ليس مجرد اختيار بريء، بل رسالة سياسية مُحبطة، واستهتار بما يُفترض أنه التزام وطني. وحين يُشوهد رئيس الحكومة نفسه في جزيرة سردينيا وهو يتناول وجبة فاخرة في مطعم يتطلب حجزًا شهورًا مسبقًا، بينما يئن آلاف المغاربة من لهيب الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة، فإن ذلك لا يمكن أن يُفهم إلا باعتباره إعلانًا صريحًا بأن زمن القدوة قد ولى، وأن خدمة المواطن لا تعني مشاركة معاناته أو التواجد الرمزي بين ظهرانيه، بل مجرد توقيع قرارات من برج عاجي ثم التواري عن الأنظار في أقرب مطار.
إن مشكلتنا مع هؤلاء المسؤولين لا تنبع فقط من رحلاتهم خارج البلاد، بل من التناقض الفجّ بين خطابهم وسلوكهم، بين ما يُعلَن في المنابر وبين ما يُمارَس على الأرض. كيف يُمكن لوزير أن يخرج في لقاء رسمي ليتحدث عن المؤهلات السياحية للمغرب، من الجبال إلى الشواطئ، ومن المدن العتيقة إلى الواحات، ثم لا يختار منها شيئًا حين يُفكر في قضاء بضعة أيام من الراحة؟ هل يظنون أن الشعب لا يرى؟ أن الصور لن تصل؟ أن روائح النفاق لن تُشم؟ المواطن المغربي ذكي بما يكفي ليُدرك أن الفجوة بين الخطاب والممارسة ليست مجرد تناقض عفوي، بل هي جوهر الأزمة التي يعيشها البلد: أزمة ثقة، أزمة قدوة، أزمة التزام.
لقد أصبح من المألوف أن يتابع المغاربة أخبار تنقلات مسؤوليهم في العطل كما يتابعون نشرات الطقس، فقط ليروا إلى أي مدى يتم استغباؤهم. هل تعلم أن بعض هؤلاء المسؤولين لا يكتفون فقط بالسفر خارج البلاد، بل يُسددون تكاليفهم من حسابات مشبوهة، أو من امتيازات الدولة، أو من ريع لا يعرف المواطن شيئًا عن مصدره؟ هل تعلم أن بعضهم يرسل أبناءه للدراسة في الخارج ثم يظهر في البرلمان ليُدافع عن المدرسة العمومية؟ أن بعضهم يُقيم في إقامات فاخرة مدفوعة من المال العام، ثم يتحدث عن "تشجيع الاستثمار المحلي"؟ إنهم باختصار يُريدون وطنًا يُدر عليهم الأموال لا أكثر، أما الانتماء الحقيقي، فمحفوظ لأوطان أخرى، أو لوجهات عابرة، أو لمناخات أكثر دفئًا مما يُتيحه المغرب لشعبه.
وإن كانت هناك فضيحة أخلاقية في هذا السلوك، فإن الفضيحة الأكبر تكمن في صمت المؤسسات، وتواطؤ الإعلام، وانشغال المواطنين عن هذه الرموز التي كان يفترض أن تكون في المقدمة، فإذا بها تختبئ في الصفوف الخلفية وتُطل من نوافذ الفنادق البعيدة لتلوّح فقط حين تقترب الانتخابات. لا أحد يُحاسب مسؤولًا عن اختياراته الشخصية، نعم، لكن حين تكون هذه الاختيارات مناقضة تمامًا لما تقتضيه طبيعة المنصب، فإننا لا نتحدث عن حياة خاصة، بل عن فضيحة عمومية. كيف يُمكن أن يُصدق المواطن أن حكومةً تُخصص ملايير الدراهم لدعم السياحة الداخلية وهي نفسها التي تهجرها كلما حل الصيف؟ كيف نُقنع المغاربة بزيارة جبال الأطلس والصويرة وورزازات بينما يهرب مسؤولوهم إلى باريس وبرلين وتوسكانا؟
إن أخطر ما في هذا المشهد ليس فقط الصورة التي يقدمها المسؤول عن نفسه، بل ما يزرعه في وعي الأجيال الجديدة من قيم مشوهة. حين يرى الشاب المغربي أن من يتحدث عن المغرب الجميل لا يقضي فيه إلا ما يفرضه البروتوكول، فإنه سيتعلم سريعًا أن الوطنية سلعة تُباع في المؤتمرات، وأن القدوة الحقيقية توجد في من يستطيع أن يهرب بأقصى سرعة نحو الخارج، لا في من يبقى في بلده. حين يرى المواطن أن ميزانيات الدولة تُصرف على الإقامات الفاخرة لموظفين سامين في عواصم أجنبية، ثم يُطلب منه أن يتقشف، أن يصبر، أن يدعم الاقتصاد الوطني، فإن ذلك لا يُنتج سوى الاحتقار، والسخرية، واليأس.
نحن بحاجة إلى مسؤولين لا يحملون فقط جواز السفر المغربي، بل يحملون المغرب في سلوكهم، في اختياراتهم، في تفضيلاتهم، في أمكنة عطلتهم. لا نطلب الكثير حين نقول إن من يدعو إلى إنعاش السياحة الداخلية يجب أن يكون أول من يمارسها، وإن من يتحدث عن حب الوطن عليه أن يعيش فيه كما نعيش نحن، لا أن يزوره كما نزور نحن مدنًا لا نعرفها. لقد سئمنا الخطابات، والتقارير، والبرامج، والدراسات، نريد فقط قليلاً من الصدق، من التناسق، من الشعور بأن من يسيرنا لا يحتقرنا.
ولن نختم هذه الكلمات بلغة العتاب، بل بلغة التحذير: إن الشعوب لا تثور حين يجوعون فقط، بل حين يشعرون بالاحتقار، وحين يُداس على كرامتهم بمزاج بارد، وحين يرون أن من يسير أمورهم لا يرى فيهم سوى أرقامًا في لوائح الانتخابات. إن استمرار هذا السلوك من طرف المسؤولين هو دعوة مفتوحة للانفصال الوجداني عن الدولة، عن مؤسساتها، عن رموزها. فلا تسألوا غدًا لمَ لا يُصدق المواطن حملاتكم، ولا يتفاعل مع برامجكم، ولا يحترم مسؤوليكم. لأنكم بكل بساطة، أنتم من صنع هذه الهوة، وحفر هذا الجدار، ورفع هذه الحواجز بين الوطن ومن يُفترض أن يخدمه.