من المسؤول عن ورطة دراجات 49 سي سي بين نارسا والمواطنين؟
حين نتأمل في قضية الدراجات النارية الصغيرة ذات محرك 49 سنتيمتر مكعب، نجد أنفسنا أمام واحدة من أكثر المفارقات التي تعكس تناقضات السياسات العمومية في بعض الدول، ومن بينها المغرب، حيث لم تكن القصة مجرد وسيلة نقل بسيطة، بل تحولت إلى مأزق قانوني واجتماعي واقتصادي يطرح أكثر من علامة استفهام. البداية تعود إلى لحظة استيراد هذه الدراجات بكميات كبيرة بتشجيع من الدولة نفسها، إذ فُتحت الأبواب أمام الشركات والتجار لإدخالها إلى السوق المحلية بحجة أنها دراجات آمنة نسبياً، صغيرة الحجم، منخفضة السرعة، ولا تتجاوز سرعتها النظرية خمسين كيلومتراً في الساعة، مما يجعلها مناسبة للطلبة والعمال وأصحاب الدخل المحدود، بل وحتى المراهقين الذين يحتاجون وسيلة تنقل عملية. هذا التوجه الرسمي كان بمثابة ضوء أخضر للتجار كي يملؤوا محلاتهم بهذه الدراجات، فانتشرت كالنار في الهشيم في المدن والقرى، وأصبحت رمزاً للتنقل الشعبي السريع.
عرض
غير أن المفارقة ظهرت لاحقاً حين بدأت السلطة الوصية على السلامة الطرقية، والمتمثلة في الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية "نارسا"، في تغيير خطابها بشكل مفاجئ. فقد أخرجت قوانين جديدة تمنع هذه الدراجات، أو على الأقل تشدد الخناق عليها بفرض الترقيم والتسجيل الإجباري وإلزام السائقين برخص سياقة من صنف خاص أو بعقوبات زجرية على من يستعملها دون التزام بالقواعد الجديدة. هنا انقلب المشهد رأساً على عقب، فالناس الذين وثقوا في الدولة واقتنوا هذه الدراجات بمدخراتهم وجدوا أنفسهم فجأة خارج القانون، والتجار الذين استثمروا في استيرادها وتخزينها رأوا محلاتهم مملوءة ببضاعة ممنوعة أو شبه ممنوعة، لا يعرفون كيف يتصرفون بها.
المبرر الرسمي الذي قُدم للناس كان أن هذه الدراجات ليست فعلاً "49 سي سي" كما رُوِّج لها، بل إنها عند إخضاعها للاختبارات التقنية بواسطة أجهزة قياس السرعة تبيّن أنها تتجاوز الحد المسموح به، حيث تصل سرعتها إلى 57 كيلومتراً في الساعة أو أكثر. هذا الاكتشاف قلب الموازين لأن الفرق بين 49 و57 ليس مجرد أرقام صغيرة، بل يعني من الناحية القانونية أن هذه الدراجات تدخل في خانة أخرى تتطلب رخصة سياقة وترقيم وتأمين كامل مثل باقي الدراجات النارية الكبيرة. وبذلك صار ما كان يبدو تساهلاً أو استثناءً في البداية خطراً قانونياً وأمنياً يهدد سلامة الطرق، على حد تعبير السلطات.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: من يتحمل المسؤولية في كل هذا الخلل؟ هل المواطن البسيط الذي اشترى دراجة صغيرة بثمن معقول بعد أن رآها معروضة في المحلات بشكل قانوني وعلني؟ أم التاجر الذي استوردها بعقود رسمية وأدى رسومها الجمركية وأدخلها من الموانئ بعلم الدولة ومؤسساتها؟ أم الدولة نفسها التي فتحت الباب ثم أغلقت القفل فجأة بعد أن أدخل الناس رؤوسهم في القفص؟ إذا نظرنا بموضوعية نجد أن المسؤولية الأولى تقع على الدولة، لأنها هي الجهة التي تملك آليات المراقبة والفحص عند الاستيراد، وكان من المفترض أن تخضع هذه الدراجات لاختبارات دقيقة قبل السماح بدخولها إلى السوق، لا بعد أن يشتريها المواطنون ويستعملونها لسنوات. أما أن تُكتشف "المفاجأة" لاحقاً فهذا يعني وجود خلل إداري ورقابي عميق، وربما حتى تواطؤات بين بعض المسؤولين والمستوردين.
من جهة أخرى، تطرح قضية الضحايا سؤالاً مريراً: كيف يمكن تعويض الآلاف من المواطنين الذين اشتروا هذه الدراجات وأصبحوا فجأة في وضع غير قانوني؟ هل يعقل أن يُطلب من عامل بسيط أو طالب فقير أن يتخلى عن دراجته التي اشتراها بمدخرات عام كامل، فقط لأن الدولة قررت فجأة أنها غير مطابقة؟ وكيف يتم التعامل مع التجار الذين لديهم مخازن مملوءة ببضائع ممنوعة، هل يتم تعويضهم أم تركهم يغرقون في الإفلاس؟ هذه الأسئلة ما زالت دون أجوبة شافية، وكل ما يُقدم غالباً هو خطاب عام عن "السلامة الطرقية" و"مصلحة المواطن" من دون تحمل مسؤولية واضحة تجاه من دفعوا الثمن.
أما عن سبب منع هذا الحد من السرعة، فهو يرتبط بالقوانين الدولية التي تُصنف الدراجات النارية حسب قوة محركاتها وسرعتها القصوى. فالدراجات التي لا تتجاوز سرعتها 49 كيلومتراً في الساعة تُعتبر من فئة الدراجات الخفيفة التي لا تستلزم رخصة قيادة في كثير من البلدان، باعتبارها أقل خطراً وأقرب إلى الدراجات الهوائية المزودة بمحرك مساعد. لكن حين تتجاوز هذه السرعة، ولو بعدة كيلومترات، فإنها تُدرج في فئة أخرى أكثر خطورة، حيث تحتاج إلى تدريب خاص وتأمين إضافي وترقيم واضح للحد من استخدامها العشوائي. هذا التصنيف ليس اعتباطياً، بل يعتمد على دراسات سابقة عن نسب الحوادث والخطورة المرتبطة بسرعة المركبات. بيد أن المشكلة ليست في المبدأ بقدر ما هي في التطبيق، فكيف تسمح دولة ما بدخول دراجات لا تحترم هذا الشرط، ثم تلوم المواطن لاحقاً؟
الأكثر خطورة أن هذه القضية فتحت الباب أمام جدل واسع حول مصداقية السياسات العمومية. كثير من الناس صاروا ينظرون بعين الريبة إلى أي مشروع أو مبادرة جديدة، متسائلين إن كانت ستبقى ثابتة أم ستتغير بين ليلة وضحاها. فالمسألة ليست دراجة نارية فقط، بل هي مقياس للثقة بين المواطن والدولة. حين يُشجع المواطن على شراء سلعة بعينها ثم يُعاقب بسببها بعد سنوات، فإن الرسالة غير المباشرة التي يتلقاها هي أن مصيره غير مضمون وأن السياسات يمكن أن تنقلب ضده في أي لحظة.
وإذا تعمقنا أكثر نجد أن ما حدث مع دراجات 49 سي سي يختزل أزمة أوسع في العلاقة بين السوق والقانون. الدولة منحت الشرعية لاستيرادها في البداية لأن ذلك يدر أرباحاً جمركية وضرائب ويشجع التجارة الداخلية، لكنها حين لاحظت الفوضى على الطرقات وحجم الحوادث بدأت تتراجع لتظهر بمظهر الحريص على حياة المواطنين، لكنها بذلك ألقت بالمسؤولية على أكتاف المستعملين والباعة بدل أن تتحمل هي وزر أخطائها الرقابية. وهكذا أصبح المواطن ضحية مرتين: مرة حين دفع ثمن دراجة "قانونية"، ومرة حين صار متهماً بخرق القانون نفسه.
المفارقة الأشد أن السرعة المحددة بـ49 كيلومتراً لم تكن سوى عتبة رمزية، لأن الفارق العملي بين 49 و57 لا يغير كثيراً من الواقع، فالدراجات في المدن تسير غالباً بسرعات أقل بسبب الازدحام، لكن القانون صارم ولا يعترف بالمجاز، ما جعل عشرات الآلاف من الدراجات تنتقل من خانة "قانونية" إلى خانة "مجرّمة" بين ليلة وضحاها. ومن هنا يبرز سؤال العدالة: إذا كانت الدولة نفسها أقرت هذا الخطأ، أليس من الواجب أن تتحمل هي تكاليف التعويض أو أن تجد حلاً انتقالياً يحفظ حقوق المستهلكين والتجار بدل الاكتفاء بالزجر والعقاب؟
خاتمة
القضية إذن ليست مجرد مسألة تقنية مرتبطة بجهاز قياس سرعة كشف رقماً مختلفاً، بل هي قصة ثقة مكسورة بين المواطن والدولة، وقصة قرارات مرتجلة تُتخذ دون دراسة آثارها الاجتماعية والاقتصادية على الفئات الأضعف. وما لم تعترف الدولة بمسؤوليتها في هذه الورطة وتجد حلولاً واقعية للتعويض والتنظيم، فإن آثار هذا الملف ستظل عالقة في الذاكرة الجماعية كرمز للتسرع والارتجال الذي يدفع المواطن ثمنه من جيبه ومن مستقبله.