شبكات الإمارات السرية لتجنيد الكولومبيين في نزاعات اليمن والسودان
محمد بن زايد، الرجل الذي خرج من عباءة إمارة أبوظبي ليصبح لاعبًا سياسيًا وعسكريًا يتجاوز حدود الخليج إلى إفريقيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية، هو اليوم واحد من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في المنطقة والعالم، ليس لأنه بنى نموذجًا ناجحًا في التنمية أو فتح أبوابًا جديدة للتعاون بين الشعوب، بل لأنه اختار أن يكون مهندسًا لحروب بالوكالة، وممولًا لانقلابات، وراعيًا لشبكات تجنيد المرتزقة في مسارح صراع لا تمت لبلاده بصلة، وكأنه يريد أن يثبت أن النفوذ يمكن شراؤه كما تُشترى العقارات الفاخرة أو اليخوت. منذ بدايات العقد الثاني من الألفية، بدأ اسمه يرتبط بمشاريع تدخلية في اليمن وليبيا والصومال والقرن الإفريقي، وكان قاسمها المشترك هو استخدام المال والسلاح والمرتزقة لتغيير موازين القوى لصالحه أو لصالح حلفائه. في اليمن، كانت البداية مع ما سمي بعاصفة الحزم عام 2015، حين دخلت الإمارات ضمن التحالف بقيادة السعودية، لكن سرعان ما اتضح أن أهدافها تختلف جذريًا عن شعار "إعادة الشرعية" الذي رفعه التحالف، فبينما كانت الرياض تركز على قتال الحوثيين في الشمال، كان محمد بن زايد يوجه قواته نحو الجنوب والموانئ والجزر الإستراتيجية، وخاصة عدن والمخا وسقطرى وباب المندب، ولم يكتف بالقوات الإماراتية النظامية، بل جلب آلاف المرتزقة من كولومبيا ونيبال والسودان وإريتريا، ودربهم وزج بهم في المعارك الأكثر دموية، في خطة واضحة لتقليل خسائر جنوده المواطنين واستخدام الأجانب كوقود للحرب. وقد كشفت تقارير أمريكية وأوروبية عن تعاقد الإمارات مع شركات أمنية خاصة مثل "ريفلكس ريسبونس" التي أسسها المرتزق الأمريكي إريك برنس، مؤسس بلاك ووتر، لتجنيد وتسليح مقاتلين من أمريكا اللاتينية، معظمهم من كولومبيا، ونقلهم إلى اليمن برواتب مغرية، رغم أن هؤلاء لا يعرفون شيئًا عن طبيعة النزاع أو الثقافة المحلية، وكانوا يخوضون معارك شرسة دفاعًا عن أهداف اقتصادية وجيوسياسية لا تخصهم. وفي ليبيا، كان التدخل أكثر سرية في البداية، لكنه لم يلبث أن صار مكشوفًا، فمحمد بن زايد دعم الجنرال خليفة حفتر بالسلاح والمال وحتى بالطائرات المسيرة، مخالفًا قرارات مجلس الأمن التي تحظر توريد السلاح إلى ليبيا، كما استعان بمرتزقة من السودان وتشاد وروسيا عبر شركة فاغنر، ونقل بعضهم عبر مطارات في الشرق الليبي تحت إشراف إماراتي مباشر، في مسعى للسيطرة على منابع النفط وتأمين نفوذ طويل الأمد في شمال إفريقيا. أما في الصومال، فقد حاول ابن زايد أن يكرر اللعبة عبر السيطرة على موانئ استراتيجية مثل بربرة وبوصاصو، ودعم فصائل محلية بالسلاح، واستخدم كذلك عناصر أمنية أجنبية لتأمين هذه المصالح، لكن انكشاف جزء من هذه العمليات أدى إلى توتر كبير مع الحكومة الصومالية التي طردت البعثة العسكرية الإماراتية عام 2018. وفي السودان، المشهد أكثر وضوحًا هذه المرة، إذ تشير تقارير متعددة إلى أن الإمارات تدعم قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، بالسلاح والمال وحتى الإمدادات اللوجستية، في حربها ضد الجيش السوداني، وهناك شهادات موثوقة تتحدث عن وجود مرتزقة أجانب يقاتلون إلى جانب الدعم السريع، بعضهم من دول إفريقية فقيرة، والبعض الآخر من أمريكا اللاتينية، وعلى رأسهم كولومبيون جرى تجنيدهم عبر شبكات وسيطة. هذه الشبكات تعتمد على الإغراء المالي، وتستغل ظروف الفقر والبطالة، فتقدم وعودًا برواتب شهرية تفوق عشرة أضعاف ما قد يكسبه الشاب في بلده، دون أن تكترث لحقيقة أن هؤلاء قد يلقون حتفهم في حرب ليست حربهم. وهنا تحديدًا دخل الرئيس الكولومبي الحالي على الخط، بعد أن تزايدت التقارير الصحفية والتحقيقات الاستقصائية التي تكشف تورط مواطنين كولومبيين في القتال في السودان واليمن وليبيا، مقابل أجور تدفعها أطراف إقليمية، وأعلن أنه يدرس سن قانون يجرم مشاركة الكولومبيين كمرتزقة في نزاعات خارجية، وهو موقف قد يشكل سابقة في أمريكا اللاتينية، ويحد من قدرة الإمارات على استقطاب هؤلاء المقاتلين المتمرسين. واللافت أن هذه ليست المرة الأولى التي تجد فيها الإمارات نفسها موضع اتهام بتجنيد مرتزقة، فقد سبقت هذه الملفات فضائح أخرى في اليمن حين كشفت منظمات حقوقية عن تورط قوات مدعومة إماراتيًا في انتهاكات جسيمة، بينها اغتيالات سياسية استهدفت دعاة ونشطاء معارضين لسياساتها، وهي عمليات نُفذت بدقة عالية توحي بمشاركة عناصر مدربة على حروب المدن، ومن المعروف أن بعضهم جاء من كولومبيا ودول أخرى عبر عقود أمنية غامضة. إن قراءة هذا النمط المتكرر من السلوك تجعل من الصعب تصديق الرواية الإماراتية التي تبرر تدخلاتها بأنها من أجل "مكافحة الإرهاب" أو "استقرار المنطقة"، فالحقيقة التي تتكشف مع كل تحقيق هي أن محمد بن زايد يسعى لتوسيع نفوذه الإقليمي والدولي، ولو على حساب دماء الآخرين، وأنه يرى في المرتزقة وسيلة رخيصة لتحقيق أهدافه دون أن يدفع الثمن السياسي والعسكري داخليًا. وبينما يظل المجتمع الدولي عاجزًا أو متواطئًا، تأتي خطوة الرئيس الكولومبي لتشكل بصيص أمل في محاسبة من يتاجرون بالبشر لأغراض القتل المأجور، لكنها تبقى خطوة محدودة ما لم تتبعها تشريعات مماثلة في دول أخرى، وما لم يتحرك القانون الدولي لاعتبار تجنيد المرتزقة وتمويلهم جريمة حرب مكتملة الأركان. قد يقول البعض إن ابن زايد مجرد انعكاس لزمن لا قيمة فيه للإنسان، حيث تُباع الحروب وتشترى مثل أي سلعة، لكن ما يميزه عن غيره من أمراء الحروب هو أنه يحاول إلباس هذه الممارسات ثوب الشرعية عبر تحالفات سياسية وإعلامية ضخمة، وأنه يستخدم اقتصاد بلاده كخزان لا ينضب لشراء النفوذ، حتى لو كان ذلك يعني أن تتحول الإمارات إلى مقر عالمي لتجارة المرتزقة. وإذا كان العالم اليوم يعرف جيدًا أدوار شركات مثل بلاك ووتر وفاغنر في النزاعات، فإن على المجتمع الدولي أن يعترف أيضًا بأن هناك دولًا، لا شركات فقط، تمارس هذه التجارة على نطاق واسع، والإمارات على رأس القائمة. في النهاية، السؤال الجوهري هو كم من الخراب يجب أن يحدث قبل أن يُنظر إلى محمد بن زايد ومن على شاكلته كمجرمي حرب، لا كـ"قادة إصلاحيين" كما تحاول بعض الدوائر الغربية تصويرهم؟ وكم من الدماء يجب أن تُسفك قبل أن تتحرك المحاكم الدولية لإغلاق أسواق الموت التي يديرونها؟ وحتى ذلك الحين، سيظل شيطان الخليج يجوب القارات، ينثر المال ويجمع الجنود المأجورين كما يجمع التاجر بضائعه، لا يهمه من يسقط ومن يبقى، المهم أن يربح هو جولة أخرى في لعبة النفوذ القذرة التي جعلت من الخراب سمة عصرنا.
ولفهم حجم الشبكة التي نسجها محمد بن زايد لتجنيد المرتزقة، لا بد من التوقف عند واحدة من أكثر حلقاتها غموضًا وخطورة، وهي شركة "ريفلكس ريسبونس" المعروفة اختصارًا بـ R2، التي أسسها إريك برنس، العقل المدبر لشركة بلاك ووتر سيئة السمعة، بعد أن واجهت شركته الأصلية فضائح مدوية في العراق وأفغانستان. هذه الشركة، التي اتخذت من أبوظبي مقرًا لها، لم تكن مجرد مكتب استشارات أمنية، بل كانت مشروعًا ضخمًا لتأسيس جيش سري من المرتزقة يخدم أجندة الإمارات في الخارج. لقد وفرت "ريفلكس ريسبونس" غطاءً قانونيًا لشراء المقاتلين من كولومبيا وتشيلي وجنوب إفريقيا وحتى من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ثم تدريبهم على الأراضي الإماراتية في قواعد خاصة، قبل إرسالهم إلى جبهات مثل اليمن وليبيا. وتكمن خطورة الأمر في أن هؤلاء المرتزقة لم يعملوا فقط في خطوط المواجهة، بل شاركوا في عمليات نوعية كالاغتيالات الموجهة ضد خصوم سياسيين أو قادة ميدانيين معارضين لسياسات الإمارات، وهي عمليات وثقتها تحقيقات صحفية أمريكية وأوروبية، وأكدتها شهادات مرتزقة سابقين كشفوا أنهم كانوا يتلقون أوامر مباشرة من ضباط إماراتيين. وفي السياق الكولومبي تحديدًا، لعبت الشركة دور الوسيط بين الجنود السابقين الذين أنهوا خدمتهم في الجيش الكولومبي بعد حربه الطويلة ضد المتمردين، وبين حكومة أبوظبي التي وجدت فيهم ضالتها لما يمتلكونه من خبرة قتالية عالية وانضباط عسكري. وقد استُخدم هؤلاء بدايةً في اليمن، حيث تم تكليفهم بحماية المنشآت الحيوية وموانئ النفط، ثم جرى نقل بعضهم إلى مهام هجومية في مناطق مثل تعز والحديدة، وهي مواقع شهدت معارك شرسة أُزهقت فيها أرواح الآلاف من المدنيين. ولم يتوقف الأمر عند اليمن، إذ تشير تقارير استخباراتية إلى أن جزءًا من هؤلاء الكولومبيين، بعد انتهاء عقودهم الأولى، تم إعادة توظيفهم في مهام أخرى شملت حراسة شخصيات نافذة في الإمارات، والمشاركة في تدريبات لقوات في دول إفريقية حليفة لأبوظبي، وهو ما يظهر أن الشبكة الإماراتية لا تقتصر على تجنيد المرتزقة لحرب واحدة، بل تعتمد عليهم كمورد دائم يمكن إعادة تدويره بين النزاعات حسب الحاجة. الأخطر أن هذا النموذج في إدارة المرتزقة بدأ يُستنسخ في السودان، حيث يتردد أن الإمارات استفادت من خبرة برنس وشركته في إدارة عمليات نقل المقاتلين إلى مناطق النزاع، مستغلة شبكات النقل الجوي والشحن البحري التي تسيطر عليها، لتأمين وصول المرتزقة إلى الأراضي السودانية عبر مسارات ملتوية تمر أحيانًا بدول ثالثة لإخفاء مصدر الدعم. ووفق شهادات ميدانية، فإن بعض هؤلاء الكولومبيين الذين يقاتلون اليوم في السودان سبق لهم أن خدموا في اليمن، ما يعني أن الإمارات تدير ما يشبه "قوات مرتزقة متنقلة" يمكن إعادة استخدامها في أي نزاع يخدم مصالحها، دون أي اعتبار للقانون الدولي أو للدمار الإنساني الذي تتركه وراءها. هذه الحقائق، إذا ما جُمعت في ملف واحد، تكفي لإدانة أي زعيم أمام محكمة الجنايات الدولية، لكنها في عالم السياسة الواقعية تمر أحيانًا بلا عقاب، لأن المال الإماراتي قادر على شراء الصمت أو تغليفه بخطاب سياسي مضلل يتحدث عن الاستقرار والتنمية، بينما الحقيقة أن كل عقد مرتزقة جديد هو خطوة إضافية نحو خراب جديد في بلد آخر.