أبعاد وتداعيات ملف التهرب الضريبي لرئيس مجلس النواب على ثقة المغاربة في المؤسسات
منذ بداية عام 2025، طفت على سطح النقاش السياسي والإعلامي في المغرب قضية أثارت جدلًا واسعًا، تتعلق بشخصية وازنة في البرلمان المغربي، ويتعلق الأمر برشيد الطالبي العلمي، أحد أبرز قيادات حزب التجمع الوطني للأحرار، ورئيس مجلس النواب الحالي. بدأت القصة تتخذ طابعًا رسميًا حين كشفت تقارير عن تورطه في قضية تهرب ضريبي ضخمة تعود جذورها إلى أكثر من عقدين من الزمن، لكنها لم تُفعل قانونيًا إلا مؤخرًا. المعمل الذي يملكه في مدينة تطوان، والذي يشتغل في قطاع النسيج، كان يُدار منذ سنوات دون التصريح بالعمال لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ما تسبب في تراكم ديون ضخمة على الشركة وصلت إلى حوالي 1.3 مليار درهم، وهو ما يمثل رقمًا ضخمًا يستعصي على التبرير في السياق العادي لمعامل القطاع الخاص.
في البداية، لم يكن الأمر واضحًا لدى الرأي العام، بل كان مجرد تسريبات وتحركات قانونية محدودة. غير أن تنفيذ الحجز على الراتب البرلماني للطالبي العلمي كشف عن بُعد قضائي فعلي للقضية. إذ تبين أن المحكمة كانت قد أصدرت منذ سنوات حكمًا يتعلق بتهرب ضريبي، لكن لم يُنفذ آنذاك. وكان من ضمن بنود الحكم الصادر سنة 2016 حكم بالحبس ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، إلى جانب غرامات مالية تفوق مئتي ألف درهم، غير أن هذه الأحكام بقيت طي النسيان لسنوات. لكن مع تشديد المراقبة المالية في السنوات الأخيرة، وتفعيل مسطرة التحصيل من طرف الخزينة العامة، أُعيد إحياء الملف بقوة، ووصل الأمر إلى اتخاذ إجراءات تنفيذية على الأرض، تمثلت في الحجز على رواتب المعني بالأمر.
رد فعل رشيد الطالبي العلمي لم يتأخر، إذ خرج إعلاميًا لينفي التهم الموجهة إليه، معتبرا أن خصومه السياسيين يحيكون ضده حملة إعلامية ممنهجة، وأنه لا يخشى شيئًا طالما أن القضاء وحده هو الفيصل، وهو مستعد للامتثال لكل ما يقرره القانون. هذا الموقف لم يُقنع عددًا من الفاعلين السياسيين، خاصة من المعارضة، حيث طالبت بعض الأحزاب، مثل الاستقلال والأصالة والمعاصرة، بتشكيل لجنة تقصي الحقائق داخل البرلمان لمتابعة هذه القضية، خاصة أنها لا تتعلق بشخص فقط، بل تمس مصداقية المؤسسة التشريعية برمتها. بل الأكثر من ذلك، أن الحملة الأخيرة أظهرت أن هناك أكثر من عشرة نواب برلمانيين يعيشون أوضاعًا مشابهة، حيث تم الحجز على رواتبهم كذلك بسبب ديون ضريبية أو إخلالات مالية في تدبير ممتلكاتهم الخاصة، ما زاد من تأجيج النقاش حول النزاهة والمحاسبة داخل البرلمان المغربي.
ومن زاوية موازية، كان مجلس النواب قد أطلق قبل أشهر عملية مراجعة داخلية حول حضور النواب للجلسات التشريعية، واتخذ رشيد الطالبي العلمي قرارات تتعلق بتجريد بعض النواب من مقاعدهم بسبب تغيبهم لأكثر من عام دون مبرر قانوني. هذه القرارات، رغم أنها لاقت ترحيبًا في بعض الأوساط، إلا أن توقيتها فُهم من طرف بعض المحللين على أنه محاولة لصرف الأنظار عن الضغوط التي يتعرض لها رئيس المجلس نفسه. وبرز في خضم هذا الجدل كذلك مشروع رقمي تم تمويله قبل سنوات بميزانية ناهزت 250 مليون سنتيم لإنشاء منصة إلكترونية للمجلس، وهو المشروع الذي أثار تساؤلات حول جدواه وتكلفته ومن استفاد من صفقة إنجازه.
في هذا السياق، تتقاطع الكثير من الأسئلة حول المسؤولية والمساءلة. فالقضية لم تعد حكرًا على البعد القانوني، بل أصبحت تمس البنية الأخلاقية والسياسية للبرلمان المغربي، خاصة في ظل ضعف الثقة المتنامي من طرف المواطنين في المؤسسات المنتخبة. كيف يُعقل أن رئيس البرلمان، الذي يُفترض أن يكون قدوة في احترام القانون، يُتابع في قضايا ضريبية بهذا الحجم؟ وكيف يمكن إقناع المواطن بأن القانون يُطبق على الجميع، إذا ما استمرت مثل هذه القضايا في السقوط في النسيان أو التبرير السياسي؟
وإن كانت المعارضة قد طالبت بالتحقيق والشفافية، فإن الحكومة من جهتها لم تصدر موقفًا واضحًا وحازمًا، بل تعاملت مع الموضوع بتحفظ ملحوظ، ما جعل القضية تتأرجح بين التجاذبات السياسية من جهة، وتعقيدات الإجراءات القضائية من جهة ثانية. وبالرغم من الحجز على راتب الطالبي العلمي، إلا أنه لم يُسجّل أي إجراء يمنعه من مزاولة مهامه كرئيس لمجلس النواب أو كقيادي في حزب الأحرار، وهو ما زاد من تعقيد الصورة لدى الرأي العام.
خلاصة القول إن قضية رشيد الطالبي العلمي، سواء اعتُبرت ملفًا قانونيًا أو سياسيًا، تفتح الباب أمام مراجعة عميقة لواقع المحاسبة في المغرب، وتضع المؤسسة البرلمانية أمام امتحان حقيقي للشفافية. فالمواطن العادي، حين يرى أن مسؤولين كبارًا يواجهون تهمًا واضحة دون أن يفقدوا مناصبهم أو يتوقفوا عن ممارسة السلطة، قد يفقد الإيمان بأن الدولة جادة في ربط المسؤولية بالمحاسبة. وحتى تُستعاد الثقة، لا يكفي انتظار القضاء، بل يجب أن يكون للمؤسسات السياسية موقف واضح، مبني على الأخلاق السياسية قبل التبريرات القانونية. فقد آن الأوان، كما يطالب كثيرون، لإرساء ثقافة لا تتسامح مع أي خلل يمس المال العام أو شفافية المسؤولية، مهما كان موقع المعني بها.