الإعاقة في المغرب: كرامة مؤجلة وحقوق تنتظر الإنصاف
مقدمة
إن قضية الأشخاص ذوي الإعاقة في المغرب ليست مجرد ملف اجتماعي أو هامشي يمكن التعامل معه عبر بعض المبادرات الرمزية أو الخطابات المطمئنة، بل هي قضية إنسانية ووطنية تمس كرامة المواطن وحقه في العيش المتكافئ، وهي في الوقت نفسه مرآة تعكس مدى صدق الدولة والمجتمع في احترام شعارات المساواة والعدالة الاجتماعية التي ترفع في المناسبات. فالإنسان الذي فقد بصره أو أصيب بإعاقة جسدية أو ولد بإعاقة ذهنية ليس شخصا خارج السياق، بل هو جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي، يملك الحق الكامل في أن يحيا حياة كريمة، وأن يستفيد من نفس الخدمات التي يتمتع بها غيره، بل من المفترض أن يحظى بمعاملة تفضيلية تعوضه عن الفوارق الطبيعية التي تحول دون اندماجه التام. لكن عندما نقترب من الواقع المغربي، نجد أن المسافة بين النصوص القانونية والاتفاقيات الدولية التي وقع عليها المغرب وبين التطبيق الفعلي على الأرض ما زالت طويلة ومرهقة.
عرض
لقد التزم المغرب في دستور 2011 بحماية حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة، وجعل من إدماجهم في الحياة العامة مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، كما صادق على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وهي اتفاقية تفرض ضمان تكافؤ الفرص، وإزالة كل أشكال التمييز، وتوفير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ونقل وشغل. لكن ما جدوى التوقيع إذا لم يترجم ذلك إلى تغيير حقيقي في حياة هؤلاء الناس؟ إن المواطن الكفيف في الدار البيضاء أو الرباط مثلا قد يجد نفسه مضطرا للمخاطرة بحياته كل يوم وهو يحاول عبور شارع لا يتوفر على ممرات مهيأة أو إشارات صوتية تساعده، بينما في عواصم أخرى مثل باريس أو مدريد أو حتى تونس بدأنا نرى تحولات واضحة في البنية التحتية لتسهيل اندماج هذه الفئة. المعاق جسديا الذي يتحرك على كرسي متحرك قد يُمنع عمليا من دخول مؤسسات عمومية أو محطات قطار فقط لأن سلما صغيرا يفصله عن الداخل، بينما كان يكفي أن يضاف منحدر بسيط أو مصعد لكي يتحقق الولوج الآمن. أما المعاق ذهنيا فمعاناته أعقد، إذ يظل سجينا داخل بيته أو مؤسسات خيرية محدودة الإمكانيات، لغياب مدارس وأطر متخصصة قادرة على تطوير قدراته وإعداده للاندماج في سوق الشغل أو الحياة الاجتماعية.
وفي قطاع النقل، الذي يعتبر بوابة أساسية للحرية، تظل معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة شاهدة على التهميش. فوسائل النقل العمومي في معظم المدن المغربية لا تراعي حاجياتهم، وغالبا ما تكون الحافلات مزدحمة وغير مجهزة، والقطارات تفتقر إلى ممرات ومقاعد مناسبة، وحتى مشاريع حديثة مثل الترامواي في الدار البيضاء أو الرباط رغم بعض الجهود المبذولة، إلا أنها لم تصل بعد إلى مستوى يجعل المعاق مطمئنا وهو يستعملها باستقلالية. أما في القرى والمناطق الجبلية فالوضع أكثر قتامة، حيث لا تتوفر أصلا وسائل نقل عمومية منتظمة، فيجد الشخص المعاق نفسه سجينا لحدود بيته أو مضطرا للاعتماد على غيره في أبسط التنقلات. إن حرمانه من التنقل ليس مجرد عائق عملي بل هو عائق وجودي، لأنه يحرمه من التعليم والعمل والعلاج وكل حقوقه الأخرى التي ترتبط بقدرة الإنسان على الحركة والوصول.
أما الإعانات المادية والمعنوية، فهي حق أساسي لهذه الفئة، لكن واقعها في المغرب يطرح علامات استفهام كبيرة. فالمبالغ التي تصرفها بعض البرامج الحكومية أو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية غالبا ما تكون هزيلة لا تغطي حتى جزءا بسيطا من تكاليف الحياة. الشخص المعاق يحتاج إلى أجهزة خاصة مثل الكراسي المتحركة أو العكازات أو الأطراف الصناعية، وهذه قد تكلف مبالغ ضخمة مقارنة بموارد أسر فقيرة تعيش بالكاد. كما أن متابعة طبية أو دواء واحد قد يبتلع أي دعم مالي تقدمه الدولة. الأسوأ أن المساطر الإدارية للحصول على هذه الإعانات معقدة ومليئة بالبيروقراطية، فتضيع حقوق كثيرين لأنهم لا يملكون القدرة على تتبعها أو لغياب من يوجههم. أما الدعم المعنوي فلا يقل أهمية، لأن المجتمع المغربي لا يزال في كثير من الأحيان ينظر إلى المعاق نظرة شفقة أو حتى تهميش، وكأن الإعاقة عيب أو عبء، بدل أن ينظر إليه باعتباره مواطنا يملك طاقات وإمكانيات إذا أتيحت له الظروف.
في مجال الصحة تتضاعف الأزمة، لأن المنظومة الصحية في المغرب تعاني أصلا من خصاص كبير. الشخص المعاق يحتاج إلى خدمات طبية متخصصة ودائمة: عمليات جراحية دقيقة، حصص علاج طبيعي، أجهزة تقويم، دعم نفسي، متابعة دورية، وكل هذا نادر أو مكلف جدا. في المدن الكبرى قد يجد فرصة بعد طول انتظار، لكن في المناطق النائية يظل الأمر شبه مستحيل. ورغم وجود تغطية صحية، إلا أنها لا تشمل غالبا الأجهزة التعويضية التي تعتبر ضرورية، مما يجبر الأسرة على تكاليف تثقل كاهلها. إن غياب هذه الرعاية الصحية المتكاملة يجعل حق المعاق في الصحة مجرد حبر على ورق، ويزيد من هشاشته الاجتماعية.
ولا تكتمل حقوق الإنسان دون التعليم والشغل، فهما ما يضمنان الاستقلال المادي والمعنوي. لكن تعليم الأشخاص ذوي الإعاقة في المغرب يواجه عقبات هائلة. فالمكفوفون لا تتوفر لهم بشكل كافٍ كتب بلغة برايل أو أجهزة إلكترونية مساعدة، وأقسام الإدماج ما زالت قليلة ومحصورة في بعض المدارس فقط. المعاقون جسديا قد يواجهون عراقيل في الولوج إلى المدرسة بسبب غياب البنية التحتية الملائمة. أما المعاقون ذهنيا فإشكاليتهم أعقد لأنهم يحتاجون إلى مدارس خاصة أو مراكز تكوين تتيح لهم اكتساب مهارات حياتية، وهذه المراكز قليلة وغالبا ما تديرها جمعيات بموارد محدودة. وفي سوق الشغل، رغم أن القانون يخصص نسبة من المناصب للأشخاص في وضعية إعاقة، إلا أن التطبيق ضعيف جدا، والمباريات غالبا لا تراعي خصوصياتهم، بينما القطاع الخاص يظل منغلقا على تشغيلهم بدعوى ضعف الإنتاجية أو الكلفة الإضافية. النتيجة أن نسبة بطالتهم مرتفعة جدا، مما يجعلهم يعتمدون على أسرهم التي تعاني أصلا من صعوبات اقتصادية، فيتضاعف الإقصاء والتهميش.
ومع ذلك لا يمكن إنكار بعض المبادرات الإيجابية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة. هناك جمعيات ناضلت بقوة وأقنعت السلطات بتمويل مشاريع صغيرة لذوي الإعاقة، مما مكن بعضهم من فتح ورشات خياطة أو حرف بسيطة. وهناك مؤسسات حاولت إدماج المكفوفين في قطاع التعليم أو الصحافة عبر تزويدهم بأجهزة خاصة. كما أن بعض الجماعات المحلية وفرت سيارات إسعاف أو وسائل نقل مهيأة جزئيا. لكن هذه الجهود تظل متناثرة وغير كافية أمام حجم التحديات، كما أنها تفتقر إلى سياسة وطنية متكاملة توحد الرؤية وتضمن الاستدامة.
إن جوهر القضية أن الأشخاص ذوي الإعاقة في المغرب لهم كامل الحق في الاستفادة من النقل المهيأ، والدعم المادي والمعنوي الكافي، والرعاية الصحية المتخصصة، والتعليم المندمج، وفرص الشغل اللائقة. هذا الحق لا يجب أن يبقى شعارا أو موضوعا خطابيا، بل ينبغي أن يترجم إلى قوانين ملزمة وميزانيات واضحة وآليات تتبع صارمة. فالمجتمع الذي يترك أبناءه المعاقين يواجهون مصيرهم وحيدين، مجتمع يفرط في إنسانيته، ويزرع بذور الإقصاء في قلبه.
وخلاصة القول، إن المغرب مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التعامل مع ملف الإعاقة كأولوية وطنية لا تحتمل التسويف. المطلوب ليس فقط إدماج بعض الحالات أو دعم بعض الجمعيات، بل إحداث ثورة في السياسات العمومية تجعل من حق المعاق جزءا من صميم التنمية. فالدولة مطالبة بتخصيص ميزانيات حقيقية لتأهيل النقل والمرافق العمومية، وتبسيط المساطر للحصول على الإعانات، وتوسيع التغطية الصحية لتشمل الأجهزة التعويضية والعلاج الطبيعي، وإحداث مدارس ومراكز تكوين متخصصة، وفرض تشغيل نسبة من ذوي الإعاقة في القطاعين العام والخاص مع مراقبة التطبيق. أما المجتمع المدني والإعلام والأسرة، فعليهم مسؤولية تغيير العقليات ونشر ثقافة احترام الحق بدل ثقافة الشفقة. إن الأشخاص ذوي الإعاقة ليسوا عبئا ولا هامشا، بل هم طاقات مبدعة قادرة على المساهمة في بناء الوطن إذا فتحت أمامهم الأبواب.
خاتمة
إن امتحان الإعاقة هو امتحان حقيقي لمدى إنسانية الدولة والمجتمع، فإذا فشلنا في صيانة حقوق هذه الفئة فلن يكون لأي حديث عن التنمية أو العدالة الاجتماعية معنى. فمغرب الغد الذي يحلم بالريادة والحداثة لن يتحقق إلا إذا كان مغربا شاملا يضم كل أبنائه بلا استثناء، حيث يجد المكفوف مكانه في الجامعة، والمعاق جسديا مكانه في الوظيفة أو المقاولة، والمعاق ذهنيا مكانه في مدرسة أو ورشة تعلمه الاعتماد على نفسه. هذه هي الصورة التي يجب أن نرسمها: مغرب لا يُقصي أحدا، ولا يُهمّش أحدا، بل يرفع الجميع إلى مستوى الكرامة والحرية.