متى تعود الهيبة إلى الجامعات المغربية؟

عبث الترفيه في ساحات العلم: الجامعة بين الرسالة الأكاديمية والانحدار القيمي


 في مغرب اليوم، نعيش مفارقات حادة يصعب على العقل السليم استيعابها بسهولة، إذ صرنا نشهد في كل مناسبة تجليات غريبة لانحدار المعايير وتآكل المرجعيات، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمؤسسات التعليمية العليا، تلك التي كان يُفترض أن تكون منارات للعلم والتفوق والتنوير، فإذا بها تتحول شيئاً فشيئاً إلى مساحات عبثية يُخلط فيها الجِد بالهزل، ويُستبدل فيها العلم بالعرض، والفكر بالرقص، والأخلاق بالتفاهة. حين نتحدث عن الجامعات، فإن أول ما يخطر في البال هو صورة الطالب الباحث، والأستاذ المحاضر، والمختبر العلمي، والمكتبة المتخمة بالمعرفة، والندوات الفكرية، والمشاريع المجتمعية، والروح النقدية التي تتغذى من الحرية الأكاديمية والانضباط الأخلاقي والمسؤولية الوطنية. لكن أن ينقلب كل ذلك إلى "نشاط فني" لا يحمل من الفن سوى الاسم، حيث يتم استقدام الشيخات وتُقام السهرات في فضاء الجامعة وتُوزع الابتسامات على وقع الدفوف والبندير، فذلك أمر يستدعي وقفة طويلة وتأملاً عميقاً في حجم الانحراف الذي بلغه تدبير الشأن الجامعي، والتساهل المريع مع قيم القدوة والهيبة والاحترام التي من المفترض أن يتمثلها رؤساء الجامعات قبل غيرهم. ما وقع في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، قبل مدة ليست ببعيدة، كان صادماً لكثير من المغاربة، ليس فقط لأن الحدث غريب عن الثقافة الجامعية، ولكن أيضاً لأن الجهة المنظمة له كانت مؤسسة أكاديمية رسمية، وليست نادياً ثقافياً حراً أو جمعية مدنية عابرة، وهو ما جعل الغضب الشعبي كبيراً والتفاعل الرسمي سريعاً، حيث تم عزل رئيس الجامعة من منصبه بعد أن وُجهت إليه انتقادات لاذعة وصلت إلى قبة البرلمان، وأُثير النقاش حول حدود الأنشطة داخل الجامعة، ومعايير التدبير، ومكانة القيم التعليمية في تصور الفاعلين الأكاديميين. ولكن ها نحن الآن نُفاجأ من جديد بمشهد يكاد يكون نسخة مكررة، وهذه المرة من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، والتي كررت السيناريو ذاته وكأنها تتحدى كل الضوابط والقيم والاعتبارات، بل وكأن قرار العزل السابق لم يكن سوى سحابة صيف عابرة لم تترك أثراً في نفوس من يتحملون مسؤولية تدبير الشأن الجامعي. هذا التكرار يطرح أكثر من سؤال، ويضع أكثر من علامة استفهام حول الخلفيات الحقيقية لمثل هذه "الأنشطة"، وحول المقاييس المعتمدة في اختيار ما يُقام داخل الحرم الجامعي، وحول ما إذا كانت هناك إرادة فعلية لرد الاعتبار للجامعة كمؤسسة علمية أو أن الأمور تُدار بقدر كبير من الاستخفاف واللامبالاة والعبث الممنهج. فهل يُعقل أن يتم استغلال فضاءات الجامعة، التي بُنيت بأموال دافعي الضرائب، والتي يُفترض أن تكون فضاءات للتعليم والتكوين والبحث العلمي، في أنشطة لا تمت بأي صلة للرسالة الأكاديمية، بل وتتناقض معها في الجوهر؟ وهل أصبح تكريس الرداءة والسطحية هدفاً ضمنياً لبعض القائمين على الشأن الجامعي؟ وإذا كان رئيس جامعة ابن طفيل قد أُقيل بسبب تنظيم سهرة مماثلة، فهل سيتم اتخاذ نفس القرار مع رئيس جامعة الحسن الثاني؟ أم أن هناك من سيتمتع بالحصانة والإعفاء والتمييز؟ أم أن العزل لا يتم إلا حين يشتد الغضب الشعبي والإعلامي والسياسي إلى درجة لا تُحتمل، فيكون القرار حينها مجرد رد فعل لإطفاء نار الاحتجاج، لا قناعة حقيقية بضرورة احترام قدسية المؤسسات التعليمية؟ إن الجامعة ليست مجرد جدران ومقاعد ومدرجات، بل هي صورة لهيبة الدولة، ومرآة لثقافة المجتمع، ومختبر لتكوين النخب التي ستقود البلاد في المستقبل، فحين يُسمح بتحويلها إلى مسرح للتهريج، فإننا لا نُهين فقط المؤسسة في بعدها الإداري، بل نُقوض القيم الرمزية التي تقوم عليها فكرة الجامعة أصلاً، ونُمرر رسائل مدمرة للطلاب والطالبات بأن النجاح لا يُبنى على الكفاءة والاجتهاد، وإنما على اللهو والاستعراض والتملق والولاءات. وإذا كان من الطبيعي أن تُقام في الجامعات أنشطة ثقافية وفنية، فإن المنطق والعقل والذوق يقتضي أن تكون هذه الأنشطة ذات طابع تربوي أو تحفيزي أو فكري، لا أن تكون مجرد سهرات شعبية لا تختلف كثيراً عن حفلات الأعراس والمواسم، خصوصاً حين تتم بدعوى "الانفتاح الثقافي" أو "تشجيع التراث"، في حين أن الكل يعلم أن مثل هذه الأنشطة لا تخدم التراث بقدر ما تُعيد إنتاج صور نمطية تُسهم في تعميق التمييع وضرب الهوية القيمية للجامعة. المؤسف أكثر أن مثل هذه "المبادرات" لا تتم بمجهودات فردية معزولة، بل يتم التخطيط لها من قبل إدارات جامعية بكامل طاقمها، وتُسند لها ميزانيات وتُوضع لها برامج وتُطبع لها ملصقات وتُروج لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنها إنجاز يُعتز به، أو "فتح ثقافي" يستحق الإشادة. وهذا ما يُدلل على أن الخلل عميق وأن الأزمة لم تعد مجرد زلة أو اجتهاداً خاطئاً، بل هي عنوان واضح على مرحلة جديدة من التحلل المؤسساتي، حيث تتراجع فيها منظومة القيم ويتم تطبيع الجامعة مع مظاهر الابتذال، تحت مسميات مضللة من قبيل "التجديد"، "الانفتاح"، "التنوع الثقافي"، في حين أن المقصود فعلياً هو تمييع الوعي وتشويه دور الجامعة وإضعاف حس النقد داخلها. في هذا السياق، يصبح من المشروع أن نتساءل عن موقع وزارة التعليم العالي من كل ما يجري، وهل هناك رؤية واضحة تحكم تسيير الجامعات أم أن الأمر متروك لاجتهادات الرؤساء وميولاتهم الشخصية؟ وهل هناك لجن مراقبة تقوم بتتبع نوعية الأنشطة التي تُقام داخل المؤسسات الجامعية؟ وهل من المعقول أن تبقى مثل هذه الانزلاقات بدون محاسبة، بينما يُحاسب الطالب على أبسط خطأ إداري أو تأخير في الأداء أو مخالفة بسيطة؟ ثم أين النقابات الطلابية، والهيئات الحقوقية، والمجتمع المدني، من كل هذا؟ أم أن الجميع صار في موقع المتفرج العاجز عن الفعل؟ وما معنى أن نُطالب الطالب بالانضباط إذا كان الرئيس نفسه يخرق ضوابط المؤسسة؟ وما معنى أن نُحاضر في الأخلاق إذا كانت الجامعة تُطبع مع العري والمجون باسم التراث الشعبي؟ هذه المفارقات تجرنا إلى التفكير في النموذج المجتمعي الذي يتم الترويج له من خلال الجامعة، فحين تُفرغ الجامعة من مضمونها العلمي، وتُحوّل إلى فضاء للاستهلاك والتسلية والفرجة، فإننا نُعد جيلاً لا يمتلك أدوات التحليل أو الفهم أو البناء، بقدر ما يمتلك قابلية للانسياق وراء السطحيات، وتلك هي الكارثة التي لا تُقاس بتداعياتها الآنية، بل بما ستُنتجه من آثار على المدى البعيد في مختلف مستويات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. إن السؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه اليوم ليس هو ما إذا كان الرئيس سيُعزل أم لا، بل هو ما إذا كان لنا مشروع وطني واضح المعالم للجامعة المغربية، وما إذا كنا نملك الإرادة السياسية والمؤسساتية لوضع حد لهذا العبث المستشري، وإعادة الاعتبار للمؤسسة الجامعية بوصفها القلب النابض لأي نهضة حضارية حقيقية. أما أن نترك الأمور تمضي بهذه الطريقة، مع الاكتفاء ببعض ردود الأفعال الموسمية، فإننا نكون بذلك نؤسس لثقافة الإفلات من المسؤولية، ونُطبع مع الانحطاط بشكل رسمي، ونُفرغ الجامعة من رسالتها التربوية. في النهاية، لا بد من القول إن ما يجري داخل بعض الجامعات المغربية لا يمكن النظر إليه باعتباره حوادث معزولة، بل هو مرآة لوضعية عامة تتطلب مراجعة شاملة، تبدأ من أعلى مستويات القرار وتنتهي عند أبسط تفاصيل الحياة الجامعية، لأن الرهان ليس فقط على جودة التعليم، بل على الحفاظ على هوية الجامعة المغربية كفضاء للعلم، لا كمسرح للاستعراض، وكمنصة للتفكير، لا كمكان للتسلية الرخيصة. إن الصمت عن هذه المهازل جريمة أخلاقية لا تقل خطورة عن المساهمة المباشرة فيها، ولذلك فإن مسؤولية النخب الفكرية والأكاديمية والإعلامية والسياسية هي اليوم أكبر من أي وقت مضى، لأن معركة القيم لا تُكسب بالبيانات أو الخطب، بل بالمواقف الحازمة والقرارات الشجاعة والتصورات الواضحة، وكل تهاون في هذا الباب يعني أننا نُسلم مفاتيح المستقبل للرداءة، ونُقايض العلم بالرقص، والكرامة بالتصفيق.
تعليقات