مأساة النساء الحوامل أمام أبواب المستشفيات
مقدمة
في المغرب، حين نتحدث عن الولادة، نتحدث عن لحظة مفصلية في حياة أي أسرة، لحظة ينتظرها النساء بشغف وأمل، لحظة تحمل الفرح والقلق في آن واحد، ولحظة تتطلب أقصى درجات الرعاية الطبية والإنسانية. إلا أن الواقع الميداني في السنوات الأخيرة كشف عن وجه آخر للولادة في بلادنا، وجه مليء بالمعاناة، وجه حيث تجد بعض النساء أنفسهن أمام أبواب المستشفيات بلا رحمة، يُرفضن من قبل الأطباء أو الممرضين، ويجدن أنفسهن مضطرات لإنجاب أطفالهن في الشوارع أو أمام بوابات المستشفيات، في مشهد مؤلم يصدم الضمير ويطرح السؤال الكبير: إلى أين تسير الصحة في المغرب بعد الخوصصة؟
عرض
تبدأ القصة غالبًا مع امرأة حامل تقترب من موعد وضع الجنين، لكنها تواجه معضلة لاختيار المستشفى المناسب، وهو اختيار يفترض أن يكون سؤالًا عن الكفاءة والرعاية، وليس عن القدرة المالية أو العلاقات. ما يحدث في كثير من الحالات هو رفض مباشر أو غير مباشر من قبل الممرضين أو الأطباء، لأسباب مختلفة قد تكون قانونية أو إدارية، لكنها غالبًا ما تنتهي بآثار مأساوية. هناك من يرفض لأنها وصلت متأخرة بعض الشيء، وهناك من يرفض لأنها لا تحمل بطاقة تأمين صحي، وهناك من يُترك تنتظر لساعات حتى تتفاقم حالتها. المشهد الذي يلتقطه المواطن المغربي أمام مستشفى أو عيادة عامة هو مشهد صادم: امرأة تتألم وهي تحاول الحصول على أبسط حقوقها الإنسانية، أطفال يولدون وسط صرخات القلق والخوف، ومسؤولون لا يظهرون إلا في تصريحات إعلامية تبعدهم عن الواقع.
حالات واقعية للولادة أمام المستشفيات
حالة فاس (2019):في نوفمبر 2019، تم تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر امرأة حامل بتوأم تضع مولودها أمام المستشفى الجامعي الحسن الثاني بفاس بعد رفض استقبالها. الزوج أفاد بأنهما قدما من مدينة صفرو، إلا أنه تم طردهما من المستشفى بحجة أن الولادة يمكن أن تتم بشكل طبيعي في صفرو. هذا الحادث أثار استنكارًا واسعًا من قبل المواطنين والجمعيات الحقوقية، الذين اعتبروا أن هذا التصرف يتنافى مع أبسط مبادئ الإنسانية.
حالة العرائش (2020):
في يناير 2020، توفيت امرأة حامل في مستشفى العرائش بعد رفض استقبالها. وفقًا لشهادات عائلتها، تم توجيهها إلى مستشفى آخر، لكنها فارقت الحياة قبل الوصول إليه. هذا الحادث سلط الضوء على نقص التنسيق بين المستشفيات والمراكز الصحية، مما يعرض حياة المرضى للخطر.
حالة مكناس (2022):
في مارس 2022، نشرت صحيفة "المساء" تقريرًا حول اختفاء مادة "الجبس" من مستشفى محمد الخامس بمكناس، مما أثر على علاج المرضى المصابين بالكسور. هذا النقص في المواد الأساسية يعكس تدهور الوضع الصحي في بعض المستشفيات العمومية.
تتضاعف مأساة الولادة في هذه الظروف بسبب ما يمكن تسميته بعواقب "الخوصصة الجزئية" للقطاع الصحي. في العقدين الأخيرين، شهد المغرب سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى إدخال عناصر السوق في القطاع الصحي، من خلال الشراكات مع القطاع الخاص وتشجيع المستشفيات الخاصة على تقديم خدمات مدفوعة، وهو توجه يفترض أن يرفع جودة الخدمات ويقلل الضغط على المستشفيات العمومية. لكن الواقع جاء معكوسًا: حيث ارتفعت تكاليف الخدمات، وتراجعت الأولويات الإنسانية، وأصبح الوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة مرتبطًا بالقدرة الشرائية أكثر من الحاجة الطبية الفعلية. هذا التحول لم يأتِ مع زيادة كافية في الموارد البشرية أو المعدات في المستشفيات العمومية، مما زاد من حالات الإهمال والرفض، خصوصًا في أقسام الولادة.
الأطباء والممرضون الذين يُتهمون بالرفض أو الإهمال ليسوا دائمًا السبب المباشر، فالضغط النفسي والمهني عليهم هائل، والأجور غالبًا غير محفزة، مما يجعل بعضهم يفضل تجنب الحالات المعقدة أو الطارئة دون ضمانات مالية أو دعم إداري. لكن هذا لا يبرر، بأي شكل، ترك النساء وأطفالهن في مواجهة الخطر وحدهم، فالأخلاقيات الطبية يجب أن تكون فوق كل اعتبار. في المدن الكبرى، تُرى النساء وقد وصلن مستشفيات عمومية مثل ابن رشد أو فاس أو مراكش ورفضن تحت حجج مختلفة، بينما في المناطق القروية تزداد مأساة الوضع، إذ لا توجد مستشفيات مجهزة، والولادة أمام المستشفى أو حتى في الطريق تصبح واقعًا مأساويًا متكررًا.
إن الأثر النفسي والاجتماعي لهذه التجربة لا يقل مأساوية عن المخاطر الطبية. فالأمهات اللواتي يُجبرن على الولادة في العراء أو أمام مستشفى يواجهن صدمة نفسية عميقة، وقد يتعرضن لاضطرابات لاحقة مثل الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة، في حين يُحرم الأطفال حديثو الولادة من الرعاية الفورية التي يمكن أن تنقذ حياتهم أو تمنع المضاعفات. بعض النساء يسردن قصصًا عن صعوبة الحصول على سرير أو طاقم طبي متفرغ، وعن شعورهن بالمهانة والرفض، وهو شعور يغذي استياءً واسعًا في المجتمع ويقود إلى فقدان الثقة في المؤسسات الصحية.
الجانب الإنساني من القصة لا يقل مأساوية عن الجانب الطبي، فالأمهات اللواتي يُجبرن على الولادة في العراء أو أمام مستشفى يواجهن صدمة نفسية عميقة. هناك شهود عيان يسردون حالات حيث كانت النساء يصرخن بلا ملجأ، وأطفالهن يُولدون وسط فوضى وعدم جاهزية الفرق الطبية، بينما بعض العاملين الصحيين يقتصرون على التفرج أو تأجيل المساعدة لحين اكتمال الإجراءات الورقية، ما يطرح تساؤلاً كبيرًا حول قيمة حياة الإنسان في هذا النظام الصحي الجديد. الخوصصة التي يُفترض أن تُحسن الخدمات أصبحت في كثير من الحالات سببًا إضافيًا للمعاناة، فتسليط الضوء على الربح والكفاءة المالية على حساب الإنسانية، جعل من النساء والفئات الضعيفة ضحايا متكررين.
من بين الآثار الأخرى لهذه الأزمة تزايد اللجوء إلى الولادة المنزلية غير الآمنة أو بمساعدة شبه طبية، وهو خيار يحمل مخاطر كبيرة، لكنه أصبح بالنسبة للبعض الخيار الوحيد لتجنب الإهمال أو الرفض في المستشفيات. هذه الظاهرة، بدورها، تزيد من العبء على النظام الصحي لاحقًا، إذ تُسجل حالات وفاة ومضاعفات تتطلب تدخلات عاجلة كانت يمكن تفاديها لو تم التعامل مع الوضع بطريقة إنسانية ومهنية من البداية.
تاريخيًا، كان المغرب يمتلك شبكة مستشفيات عمومية قوية، مع أقسام ولادة مجهزة بكوادر مدربة، لكن سنوات من السياسات الاقتصادية التي ركزت على إدخال القطاع الخاص وتخفيض دعم الدولة للخدمات الصحية العمومية أدت إلى تآكل هذه الشبكة. التحولات الاقتصادية والسياسية أدت إلى تراجع جودة الخدمات في المستشفيات الحكومية، وازدياد الاعتماد على المستشفيات الخاصة، ما خلق فجوة اجتماعية واضحة بين المواطنين الذين يستطيعون دفع مبالغ كبيرة للحصول على الرعاية، وأولئك الذين يضطرون للانتظار أو مواجهة الرفض.
يمكن القول إن المشكلة ليست في الأطباء أو الممرضين وحدهم، ولا في المستشفيات، بل في منظومة صحية متعثرة، تحولت فيها الصحة من حق أساسي إلى سلعة، حيث تُقاس الكفاءة بالربح والنجاح الإداري أكثر من القدرة على إنقاذ حياة إنسان. الخوصصة، التي وُصفت بأنها استراتيجية لتحسين الأداء، لم تترافق مع إصلاح حقيقي في توظيف الموارد البشرية، وتحسين أجور الأطباء والممرضين، ولا مع مراقبة صارمة للمعايير الإنسانية، ما جعل المواطن في قلب أزمة مزدوجة: ضعف الخدمات العمومية وغلاء الخدمات الخاصة.
إن معالجة هذه الأزمة تتطلب رؤية شاملة، تبدأ بإعادة تقييم السياسات العامة للصحة، وضمان الوصول المتساوي لجميع المواطنين، خصوصًا الفئات الهشة. ويجب تعزيز التدريب المهني للأطباء والممرضين، وتوفير بيئة عمل آمنة ومحفزة، بالإضافة إلى تحسين الرقابة على جميع المؤسسات الصحية، سواء كانت عمومية أو خاصة، لضمان احترام المعايير الإنسانية والطبية. كما يتعين على الدولة أن توسع التغطية الصحية لتشمل جميع النساء الحوامل، وتوفر وسائل نقل طارئة للوصول إلى المستشفيات في الوقت المناسب.
في نهاية المطاف، الولادة أمام المستشفيات في المغرب ليست مجرد حالة طارئة أو حادثًا معزولًا، بل مرآة لمشكلات أكبر في النظام الصحي، انعكاس لفشل السياسات التي حولت الصحة إلى سلعة، ولعدم وجود التوازن بين الربح والإنسانية. على الدولة والمجتمع أن يتخذوا إجراءات عاجلة لإصلاح هذا الواقع، ليس فقط من أجل تحسين الخدمات الصحية، بل من أجل حماية حق النساء في الولادة الآمنة، وحق الأطفال في الحياة، وحق المواطن في أن يجد الرحمة والرعاية حين يكون في أشد الحاجة إليها. فالخوصصة قد تكون مفيدة من منظور اقتصادي، لكنها تظل فاشلة إن لم تصاحبها رؤية إنسانية واضحة تضع الحياة فوق كل اعتبار، وتجعل من كل مستشفى مكانًا للرحمة والكرامة، وليس مجرد بوابة للربح والإهمال. وفي انتظار ذلك، ستبقى صور النساء اللواتي يلدن أمام أبواب المستشفيات علامة حية على الحاجة الماسة لإعادة التفكير في صحة المغرب ومستقبل أبنائه.
إن هذا الواقع يتطلب أيضًا وعيًا مجتمعيًا بمخاطر الاستهانة بحق الرعاية الصحية، إذ يجب على المواطن أن يكون فاعلًا في الضغط على السلطات لتحسين الوضع، وأن تكون هناك متابعة إعلامية مستمرة للانتهاكات في المستشفيات، مع تقديم الدعم القانوني للنساء اللواتي تعرضن للرفض أو الإهمال. كما يمكن أن تساهم منظمات المجتمع المدني والجمعيات النسائية في تقديم المساعدة للحوامل، سواء من خلال التوعية أو توفير النقل والطوارئ، إلى أن يتم إصلاح النظام الصحي بشكل كامل.
خاتمة
وأخيرًا، يجب أن ندرك أن كل حالة ولادة أمام المستشفى هي جرس إنذار يذكرنا بأن صحة الإنسان وكرامته يجب أن تكون دائمًا أولوية، وأن أي سياسة صحية تضع الربح فوق الحياة ستؤدي إلى المزيد من المآسي. المغرب بحاجة إلى نظام صحي يوازن بين الحداثة والخوصصة وبين الإنسانية والعدالة، نظام يضمن لكل امرأة ولادة آمنة، ولكل طفل بداية حياة كريمة، ولكل مواطن الثقة في أن مؤسسات الدولة موجودة بالفعل لخدمته وحمايته في أحلك اللحظات، وليس لمصالح مالية أو إدارية.