قصة محمد آدم عمر، المساعد الجامعي الذي دوّخ اليمن بجرائمه المروعة
السلام عليكم
مقدمة
كانت شمس صنعاء في ذلك اليوم حادة كحد السكين، تصبّ أشعتها على مباني الجامعة العريقة حيث تتزاحم الطالبات في الممرات المؤدية إلى قاعات المحاضرات، غير مدركات أن بين جدران هذه المؤسسة التي وُجدت لتعليمهن، يختبئ وحش بشري سيكتب اسمه في سجل أبشع الجرائم التي عرفتها البلاد. في أواخر التسعينيات، لم يكن أحد يتوقع أن كلية الطب بجامعة صنعاء، المكان الذي يفترض أن يكون ملاذًا للعلم والحياة، ستتحول إلى مسرح لجريمة مروعة هزّت اليمن والعالم العربي. بطل هذه المأساة كان رجلًا غريب الأطوار اسمه محمد آدم عمر، سوداني الجنسية، جاء إلى اليمن في رحلة عمل بدت طبيعية في ظاهرها، لكنها كانت تخفي نوايا مظلمة. عُيّن مساعدًا في مشرحة كلية الطب، ذلك المكان البارد الذي اعتاد استقبال جثث الموتى لأغراض الدراسة والتشريح، ولم يكن أحد يظن أن من يعمل بين الموتى يمكن أن يكون أخطر عليهم من المرض والموت نفسه.
بدأت القصة تخرج إلى العلن حين لاحظ بعض الطلاب اختفاء زميلات لهم بشكل غامض. كانت حالات الاختفاء متفرقة في البداية، ولم يربط أحد بينها، إذ كانت الظروف السياسية والاجتماعية في اليمن وقتها تعج بالفوضى، وكثيرًا ما تختفي الأخبار وسط الزحام. لكن مع مرور الوقت، بدأ الخيط يتضح. في مايو 1999، وبينما كان عمال الصيانة يقومون بأعمال روتينية داخل الحرم الجامعي، عثروا على جثة طالبة مدفونة بطريقة بدائية، الأمر الذي أثار الرعب والريبة. لم تمض أيام حتى تكررت الحادثة، ومع التحقيق، تبيّن أن معظم الضحايا من طالبات الطب أو الفتيات اللواتي لهن صلة بالكلية.
كانت طريقة محمد آدم في الإيقاع بضحاياه بارعة في الخداع، فهو يعرف أن الطالبات، خاصة في أيام الامتحانات، يحتجن إلى دراسة الأعضاء البشرية والنماذج التشريحية. وكان يعرض عليهن الدخول إلى المشرحة للحصول على ما يلزمهن من عينات مقابل مبالغ زهيدة أو حتى مجانًا. ولأن منصبه كمساعد مشرحة منحه سلطة غير رسمية، لم يشك أحد في نواياه. وعندما تدخل الفتاة إلى ذلك المكان المعزول، تبدأ رحلته الإجرامية. تشير التحقيقات إلى أن آدم كان يستغل وجوده منفردًا مع الضحية في المشرحة، فيخدرها أو يفاجئها بالاعتداء، ثم ينهي حياتها ببرود قاتل. بعد ذلك، كان يتخلص من الجثة بطريقة تقشعر لها الأبدان؛ إذ يقوم بتقطيع أوصالها، ويذيب أجزاء من الجسم في مواد كيميائية قوية، بينما يحتفظ بالعظام أو بعض الأعضاء في أوعية، كأنها أدوات دراسة. هذه التفاصيل وحدها كانت كفيلة بأن تجعل القضية مادة لروايات الرعب، لكنها كانت مأساة حقيقية عاشتها عائلات الضحايا.
في البداية، حين ألقي القبض على محمد آدم، بدا وكأنه قرر الاعتراف بكل شيء دفعة واحدة. قال في أقواله إنه قتل ست عشرة فتاة، منهن إحدى عشرة طالبة طب، وروى تفاصيل عمليات القتل كأنه يسرد أحداث يوم عادي. تحدث عن ضحية عراقية اسمها زينب، وأخرى يمنية تدعى حُسن، وكيف كانت لحظة قتل كل منهما بالنسبة له مجرد إجراء ضمن عمله، لا فعلًا بشريًا مروعًا. لكن المفاجأة جاءت لاحقًا حين بدأ يتراجع عن اعترافاته شيئًا فشيئًا، حتى حصر عدد ضحاياه في طالبتين فقط، مدعيًا أن الشرطة أجبرته على الاعتراف بجرائم لم يرتكبها. هذا التراجع أربك مسار القضية، خاصة أن بعض الأسماء التي ذكرها وُجدت صاحباتها على قيد الحياة، وأخريات لم يكن لهن وجود في سجلات الجامعة من الأساس.
هذا الغموض ألقى بظلاله على التحقيقات، وأثار الشكوك في أن القصة ربما تخفي شبكة أكبر للاتجار بالأعضاء أو تسترًا على مسؤولين في الجامعة، لكن تلك الفرضيات لم تثبت رسميًا. رغم ذلك، لم يخف كثير من الطلاب وأولياء الأمور شعورهم بأن الجامعة سمحت بحدوث هذه الجرائم بسبب الإهمال والرقابة الضعيفة، خصوصًا أن المشرحة كانت تحت سيطرة شبه كاملة من شخص واحد بلا إشراف حقيقي. نقابة الطلاب رفعت دعوى ضد إدارة الجامعة، متهمة إياها بالتقصير في حماية الطالبات، وهي خطوة نادرة في سياق اجتماعي محافظ كاليمن، لكنها لم تغير الكثير في النهاية.
عندما جاء وقت المحاكمة، كان المشهد محاطًا بتوتر وغضب شعبي عارم. جلس محمد آدم في قفص الاتهام بملامح باردة، وكأنه غير معني بمصيره، فيما كان أهالي الضحايا يراقبون كل كلمة تُقال. صدر الحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص بعد إدانته بقتل الطالبتين حُسن وزينب، مع جلده 80 جلدة بتهمة شرب الخمر. وحدد موعد التنفيذ ليكون أمام كلية الطب نفسها، في مشهد رمزي أرادت السلطات من خلاله توجيه رسالة قاسية لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم.
في صباح يوم 20 يونيو 2001، تجمع الآلاف أمام مبنى الكلية، بعضهم جاء بدافع الفضول، وآخرون من أقارب الضحايا أو طلاب الجامعة الذين أرادوا أن يروا نهاية هذا الفصل المظلم. أُخرج محمد آدم مكبلًا، ونُفذ فيه حكم الجلد أولًا، وسط صيحات الناس ودعواتهم بالقصاص، ثم وضع أمام فرقة الإعدام. أطلقت عليه ثلاث رصاصات أولية، لكنه ظل حيًا للحظات، ما اضطر الجنود إلى إطلاق رصاصتين إضافيتين أنهتا حياته. كان المشهد قاسيًا حتى على من جاؤوا طلبًا للانتقام، لكنه بالنسبة لأسر الضحايا كان نهاية حتمية، وإن لم تُشفِ تمامًا جرحهم العميق.
رغم إغلاق القضية رسميًا بإعدامه، بقيت أسئلة كثيرة بلا إجابات. كيف أمكن لرجل واحد أن يرتكب كل هذه الجرائم في قلب مؤسسة تعليمية دون أن يثير الشبهات لسنوات؟ وهل كان يعمل بمفرده فعلًا، أم أن هناك أطرافًا أخرى شاركته أو تسترت عليه؟ وما حقيقة شبكة الاتجار بالأعضاء التي ألمح إليها في بعض اعترافاته ثم اختفى ذكرها؟ هذه الأسئلة جعلت القضية مادة للجدل حتى اليوم، وموضوعًا مفضلًا للصحف والبرامج الوثائقية التي تتناول الجرائم الغامضة.
بعد هذه الفاجعة، حاولت جامعة صنعاء تدارك الأمر ولو شكليًا، فأعفت بعض المسؤولين من مناصبهم، لكنها أبقت عليهم كأعضاء هيئة تدريس، وأطلقت اسمي الطالبتين حُسن وزينب على قاعتين قرب المشرحة تكريمًا لهما. كانت هذه الخطوة رمزية أكثر مما هي إصلاحية، إذ لم تغيّر حقيقة أن الفشل في الرقابة والإدارة كان أحد الأسباب التي مكنت الجاني من استغلال منصبه لسنوات.
إن قصة سفاح الطالبات في اليمن ليست مجرد حادثة قتل متسلسلة، بل هي مرآة عاكسة لمزيج معقد من الإهمال المؤسسي، وضعف الرقابة الأمنية، والثقة العمياء التي يمنحها المجتمع أحيانًا لمن لا يستحقها. هي تذكير بأن الجريمة لا تحدث في فراغ، بل تحتاج إلى بيئة تسمح لها بالنمو بصمت حتى تصبح كارثة لا يمكن تجاهلها. وبرغم أن الإعدام أنهى حياة محمد آدم، فإنه لم ينهِ الأسئلة ولا الشكوك التي ما زالت تدور حول ما جرى في أروقة كلية الطب بجامعة صنعاء أواخر التسعينيات. وفي النهاية، تبقى هذه القصة درسًا مريرًا في أن الخطر قد يختبئ في أكثر الأماكن التي نظنها أمانًا، وأن واجب الحذر لا يسقط حتى في مؤسسات العلم التي نعتبرها حصونًا للعقل والحياة.
و السلام عليكم و رحمة الله.