حلم على عجلتين

صمود ياسر في مواجهة القدر


مقدمة
في زقاق ضيق بحي شعبي في الدار البيضاء، حيث تتداخل أصوات أبواق السيارات مع صياح الأطفال وروائح الطبخ المنبعثة من النوافذ الصغيرة، كان يعيش ياسر، شاب في العشرين من عمره. كانت عيناه السوداوان تحملان نظرة عميقة، مزيجًا من الأمل والتعب، ووجهه النحيف محفور بخطوط السنين التي لم تكن رحيمة به. لم يكن ياسر مجرد شاب عادي؛ كان العمود الفقري لعائلة مكونة من أمه، خديجة، وثلاث أخوات صغيرات: فاطمة (14 عامًا)، زينب (12 عامًا)، ومريم الصغيرة التي لم تتجاوز التاسعة. كان يومًا ما تلميذًا موهوبًا، يحلم بأن يصبح مهندسًا يبني جسورًا تربط بين المدن والبشر، لكن الحياة، بقسوتها المعتادة، كانت لها خطط أخرى.عرضقبل خمس سنوات، خطف الموت والده، الحاج مصطفى، في حادث سير مأساوي. كان الأب سائق شاحنة، رجلًا بسيطًا يعمل ليل نهار ليوفر لعائلته حياة كريمة. كان يعود إلى البيت في المساء، يحمل أكياس الخضروات وبعض الحلوى لأخوات ياسر، يجلس معهم حول مائدة متواضعة، ويروي قصصًا عن المدن التي زارها. كان يحب أن يمزح مع ياسر، يقول له: "يا ولدي، إنت غادي تبني العمارات الكبار، وأنا غادي نسالي الفلوس باش نسافر معاك لباريس!" لكن تلك الليلة المشؤومة، عندما وصل خبر وفاته، تحطمت أحلام ياسر كزجاج هش. كان في الخامسة عشرة من عمره، لكنه أدرك أن عليه أن يكون الرجل الذي يعتمد عليه الجميع.
ترك ياسر المدرسة، تاركًا خلفه كتبه ودفاتره التي كان يكتب فيها أحلامه. بدأ يبحث عن عمل يومي في أسواق الدار البيضاء المزدحمة. كان يعمل في ورشات البناء، يحمل أكياس الإسمنت الثقيلة تحت شمس حارقة، أو يساعد في نقل صناديق الخضروات والفواكه في سوق "الجملة". كان يومًا يجد عملًا فيأتي ببضع دراهم تكفي لشراء الخبز والدواء لأمه، التي بدأت تعاني من مرض مزمن في المفاصل جعلها تتألم باستمرار. وفي أيام أخرى، يعود خالي الوفاض، فيجلس في زاوية البيت الصغير، يتظاهر بالقوة أمام أخواته الصغيرات، بينما قلبه يعتصر ألمًا. كانت أمه، السيدة خديجة، امرأة قوية الروح رغم ضعف جسدها، تكرر دائمًا: "يا ياسر، ربي مع الصابرين، وأنت رجل البيت الآن."
في أعماق ياسر، كان هناك حلم صغير يتغذى على الأمل. كان يحلم بشراء دراجة نارية، دراجة بسيطة من نوع 50cc، كان يراها كمفتاح لحياة أفضل. بها، سيتمكن من العمل في وسط المدينة، حيث الفرص أكثر، والأجر أعلى. كان يتخيل نفسه يقودها، يشق طرقات الدار البيضاء المزدحمة، ينقل الطلبات بين المطاعم والمحلات، يجمع المال ليعالج أمه، ويشتري لأخواته كتبًا وملابس جديدة. كان يرى الدراجة في منامه، يشعر بريحها وهي تداعب وجهه، وكأنها تحمله بعيدًا عن همومه. كان يقول لنفسه: "هادي غادي تكون بداية الخير، يا ياسر."
لأربع سنوات طويلة، كان ياسر يجمع الدرهم تلو الدرهم. كان يقاوم إغراءات الحياة البسيطة: كوب قهوة في المقهى مع أصدقائه، أو شراء زوج جديد من الأحذية بدلًا من حذائه الممزق الذي كان يرتديه منذ سنتين. كل درهم كان يذهب إلى صندوق صغير يخفيه تحت سريره، صندوق خشبي قديم كان يخص والده. في بعض الليالي، كان يفتح الصندوق، يعد النقود، ويبتسم لنفسه، وهو يقول: "قريبًا، يا ياسر، قريبًا غادي تكون الدراجة ديالك."
في صباح مشمس من صيف 2024، وقف ياسر أمام الدراجة التي طالما حلم بها. كانت دراجة سوداء لامعة، بسيطة لكنها بالنسبة له كانت كنزًا. دفع كل ما ادّخره، أربع سنوات من التعب والصبر، وعاد إلى البيت يقودها بحذر، وكأنه يحمل حلمه بين يديه. أخواته الصغيرات خرجن إلى الزقاق، يصرخن من الفرح، يطلبن منه أن يأخذهن في جولة. فاطمة، الأكبر سنًا، كانت تقفز وهي تصرخ: "ياسر، إنت بطلنا!" زينب كانت ترسم الدراجة في خيالها، ومريم الصغيرة كانت تمسك بحافة الدراجة وكأنها لعبتها الجديدة. أمه، التي كانت تجلس على كرسي بجانب الباب، رفعت يديها إلى السماء، داعية: "ربي يبارك لك يا ولدي، هذي دراجة الخير."
بدأ ياسر العمل في المدينة. كان يستيقظ قبل الفجر، يرتدي خوذته المستعملة، ويقود دراجته إلى وسط الدار البيضاء. كان ينقل الطلبات من المطاعم إلى الزبائن، يتحرك بسرعة بين الشوارع المزدحمة، يتفادى السيارات والمارة بمهارة. كانت الدراجة بالنسبة له أكثر من وسيلة نقل؛ كانت رمزًا للأمل، للصمود، ولقدرته على تغيير مصير عائلته. تحسنت أحوال البيت تدريجيًا. أصبح بإمكانه شراء الدواء لأمه بانتظام، اشترى لفاطمة كتبًا مدرسية جديدة، ولزينب ألوانًا للرسم، ولمريم دمية صغيرة كانت تحلم بها. لأول مرة منذ سنوات، شعر ياسر أن هناك ضوءًا في نهاية النفق.
لكن الحياة، كما هي عادتها، لا تترك الأحلام تكتمل بسهولة. في شتاء 2025، بدأت حالة أمه تسوء أكثر. أصبحت طريحة الفراش، تتألم بصمت، وياسر يشعر بالعجز وهو يراها تضعف يومًا بعد يوم. كان يخطط لجمع المال ليأخذها إلى طبيب مختص في المدينة، ربما إلى مستشفى خاص يمكنه أن يقدم لها العلاج المناسب. كل صباح، كان يقود دراجته، يعمل لساعات طويلة، يحسب كل درهم، وهو يفكر في أمه التي تنتظره في البيت.
في صباح يوم شتوي بارد، كان ياسر في طريقه إلى العمل، قلبه مثقل بالهم. كان يفكر في أمه، في أخواته، في المستقبل الذي يبدو غامضًا. فجأة، توقفت دراجته على جانب الطريق، وأحاطت به سيارة الشرطة. نزل الشرطي، رجل في الأربعين من عمره، بنظرة جدية. "الأوراق"، قال بصوت حازم. قدم ياسر أوراقه بثقة، كل شيء كان سليمًا: رخصة القيادة، أوراق الدراجة، كلها قانونية. لكن الشرطي بدأ بفحص الدراجة بدقة، مستخدمًا جهازًا لقياس السرعة. بعد لحظات، هز رأسه وقال: "الدراجة 57cc، وليست 50cc كما هو مسجل. هذا مخالف."
شعر ياسر وكأن الأرض تنهار تحت قدميه. حاول أن يشرح: "سيدي، اشتريتها من تاجر معتمد، قالوا إنها قانونية! أنا أعمل بها لأعيل أمي المريضة وأخواتي!" لكن الشرطي، بنبرة باردة، رد: "القانون قانون. الدولة أصدرت قرارًا بمراقبة الدراجات من هذا النوع، وهذه الدراجة محجوزة." أشار إلى زميله، وفي دقائق، كانت الدراجة محمولة على شاحنة الشرطة.وقف ياسر على الرصيف، ينظر إلى الدراجة وهي تبتعد، وكأنها تأخذ معها كل ما بناه على مدى سنوات. كان قلبه يعتصر ألمًا، ليس فقط بسبب خسارة الدراجة، بل لأنها كانت أكثر من مجرد آلة. كانت حلمه، أمله، وجسره نحو حياة أفضل. تذكر الليالي التي قضاها يعد النقود، الأيام التي تحمل فيها الجوع والتعب ليوفر درهمًا إضافيًا. تذكر ابتسامة أمه عندما رأت الدراجة لأول مرة، وضحكات أخواته وهن يركضن خلفها في الزقاق.
عاد ياسر إلى البيت سيراً على الأقدام، خطواته ثقيلة، وعيناه مغرورقتان بالدموع. كان الطريق طويلًا، والرياح الباردة تضرب وجهه، لكنه لم يشعر بها. كل ما كان يفكر فيه هو أمه، التي تنتظره في الفراش، وأخواته اللواتي يعتمدن عليه. عندما وصل إلى البيت، وجد فاطمة تنتظره عند الباب، عيناها مليئتان بالقلق. "ياسر، وين الدراجة؟" سألت بنبرة خائفة. لم يجب، بل دخل إلى غرفة أمه، جلس بجانبها، وأمسك يدها. "ما تخافيش، أمي، غادي نساليو هاد النهار، وغادي نلقاو الحل."في الأيام التالية، حاول ياسر استعادة دراجته. ذهب إلى مركز الشرطة، وقدم شكاوى، وحاول التفاوض، لكن القوانين كانت صارمة. كان القرار الجديد قد صدر للتو، ولم يكن هناك مجال للاستثناءات. شعر ياسر بالظلم يعتصر قلبه. كيف يمكن للدولة أن تسمح ببيع دراجة كهذه ثم تحجزها بعد سنوات؟ كيف يمكن لقرار إداري أن يحطم حلم شاب قضى سنوات يجمع ثمنه؟
لكنه لم يستسلم. عاد إلى العمل اليومي، يحمل الطوب مرة أخرى، ينقل الصناديق في الأسواق، يقاوم اليأس الذي بدأ يتسلل إلى قلبه. كان يفكر في أخواته الصغيرات، في فاطمة التي تحلم بأن تصبح معلمة، في زينب التي تحب الرسم، وفي مريم التي لا تزال تحلم باللعب كطفلة عادية. كان يفكر في أمه، التي تحتاج إلى علاج لا يستطيع تحمله الآن. كل هذا كان يدفعه للاستمرار، رغم الألم.في إحدى الليالي، بينما كان ياسر جالسًا في غرفته الصغيرة، فتح الصندوق القديم تحت سريره. لم يكن هناك سوى بضع دراهم متبقية. أغلق الصندوق، ونظر إلى السقف، وتذكر كلام أمه: "الصبر مفتاح الفرج." أغمض عينيه، وتعهد لنفسه أن يبدأ من جديد، أن يجمع المال مرة أخرى، أن يشتري دراجة أخرى، أو ربما يجد طريقة أخرى ليحقق أحلامه.
خاتمة
كانت قصة ياسر، مثل قصص كثيرين في المغرب، قصة صمود في وجه الظروف القاسية. كانت قصة شاب لم يستسلم، رغم أن الحياة حاولت مرارًا أن تكسره. في قلبه، كان يعلم أن الطريق طويل، لكنه كان يؤمن أن الأمل، مهما صغر، قادر على إضاءة الظلام.
تعليقات