ليالي المتشردين في المغرب: صراع مع البرد والجوع والعزلة تحت سماء مفتوحة

الليل في حياة المتشردين بين قسوة الفصول وفتات الرحمة


 المقدمة
أخي القارئ، حين نتحدث عن المتشردين في المغرب قد يبدو الأمر مجرد حكاية عابرة عن أشخاص يعيشون خارج إيقاع المجتمع، لكن إن اقتربت من ليلهم ستدرك أن الموضوع أبعد بكثير من مشهد عابر لرجل ينام على الرصيف أو لامرأة تحمل كيسًا في زاوية محطة. الليل هنا ليس مجرد وقت يمر، بل امتحان يومي للوجود، اختبار للنجاة، ونافذة تفضح حقيقة علاقتنا نحن كبشر مع أضعف حلقات مجتمعنا. في النهار قد تبدو الأرصفة أقل ظلمة وتتاح فرص القهوة والحديث مع مارّين، لكن مع غروب الشمس تتغير القوانين غير المعلنة: يزداد الخوف أو يتبدد قليلًا الاتحاد المؤقت بين من يحتاج ومن يساعد، وتبرز مهارة البقاء في أشكالها الخام. المتشردون في المغرب ليسوا كتلة واحدة متجانسة؛ هم خليط من قادمين من وسط المدن والقرى، من مدن الأطلس والصحراء، شباب وكهول ونساء، مدخنون ورافضون لأي مادة، مصابون بأمراض جسدية ونفسية، فارون من عنف أسري أو إدمان أو إفلاس أو فقد عمل أو فقد بيت. لكن كلهم يلتقون تحت سماء واحدة في لحظات الليل، حيث يتبدل اللعب وتصبح النجاة أولوية.

العرض

في الشتاء، ومع قدوم البرد الذي يخترق العظام، تظهر المعاناة بأبشع وجوهها؛ في المدن الساحلية يجلب المطر البلل والبرودة، وفي جبال الأطلس قد يتساقط الثلج ويجعل العثور على مأوى مسألة حياة أو موت. للمتشردين حيلهم: إيواء أنفسهم تحت جسور الطريق، داخل محلات مهجورة، في مداخل العمارات، أو بأماكن أقرب إلى المحطات والأحياء التي تسمح ببقائهم شبه مجهولين. كثيرون يتجمعون في مجموعات صغيرة ليتقاسموا حرارة جسدية وقنينة شاي ورباطة جأش، فتتحول الجلسة إلى طقس يومي يخفف الشعور بالوحشة. لكن ليس كل مكان يرحب بهم: في بعض الأحياء تهاجمهم الشرطة البلدية أو العصابات أو حتى جيران يغضبهم فقدان الأمن أو الخوف على ممتلكاتهم، فينتهي بهم الأمر إلى الانتقال الليلي المستمر، لا مكان للاستقرار إلا في النوم القصير المتقطع. وفي الليالي الممطرة، حين تلمع أرصفة المدن كالمرآة وتعكس المصابيح الضوئية ضبابًا رطبًا، يتحول السؤال من "أين أنام؟" إلى "كيف أحمى جسدي من المرض؟"؛ الرطوبة تفتح أبواب الأمراض التنفسية والتهابات الجلد وتضاعف مخاطر الصدمات. لذلك يُنظر إلى الشتاء كقاضية تقضي من يحتملونه ومن لا يحتملونه.

في المقابل، الصيف له قوميته؛ في مكان مثل الجنوب المغربي حيث ترتفع الحرارة إلى مستويات خانقة، تصبح حرارة الليل أقل رحمة لأنها لا تنقطع، والبحث عن نسيم يجعل البعض ينقلون نومهم إلى الساحات المفتوحة أو أسطح المباني، معرضين أنفسهم للحشرات والسرقات الليلية. في الليالي الحارة يزداد لجوء البعض إلى شرب المياه القليلة أو المشروبات السكرية التي تباع في الشوارع، أو إلى أماكن التهوية العامة التي قد تكون مكاتب مفتوحة أو ساحات مسجد بعد صلاة العشاء، حيث تجد بعضهم يستريح لساعات قبل أن يتفرق. الربيع والخريف يحملان تذبذبًا؛ في الربيع قد تتوفر فرص عمل مؤقتة في الزراعة تُخفف من وطأة التشرد مؤقتًا، أما في الخريف فتهب رياح قوية تحمل معها برودة مبكرة أو أمطار متقطعة؛ تلك الرياح تطرد بعض النائمين من أماكنهم وتجبرهم على البحث من جديد عن ملجأ أكثر أمانًا.

لكن الليل ليس مجرد جوّ عام؛ له رائحة وأصوات مُحددة في كل مدينة وقرية: رائحة الخبز الطازج من أفران المساء عند بعض الأزقة، صوت الأذان الذي يقطّع الليل ويمنح بعضهم وقت تسبيح وسكينة، همسات المارة الذين يسرعون لأن لديهم بيوتا ودعوات بالسلامة. يتداخل حينًا صوت محطات القطار والحافلات، حيث يحتشد عدد من المتشردين قرب الأرصفة، يستمعون لصفير القطارات كإيقاع حياة أخرى لا يمت لهم. في هذه اللحظات الليلية تُكشف معايير إنسانيتنا: هناك من يمرّ ويسلم بتحيّة قصيرة، وهناك من يمرّ ولا يرى، وهناك من يقدّم بطانية أو طعامًا بسيطًا، بينما تبادر مؤسسات وجمعيات بتشغيل مراكز إيواء مؤقتة أو نقاط توزيع للوجبات الساخنة. لكن هذه المبادرات، رغم أهميتها، لا تغير الواقع الجذري الذي يجعل بعض الناس لا يذهبون إلى الملاجئ الرسمية: أسباب نفسية (الخوف من الازدحام، قواعد صارمة، فقدان الحرية الشخصية)، أسباب اجتماعية (الخوف من التعرض للسرقة داخل المأوى، غياب خصوصية النساء)، أو أسباب قانونية وإدارية (نقص وثائق تثبت الهوية أو عدم قدرة على إثبات انتماء جهوي). لذلك يبقى الكثيرون متمسكين بالشارع كمساحة للرغبة في البقاء مستقلين رغم الخطر.

الحديث عن المتشردين ليلاً لا يخلو من الحديث عن أمنهم الجسدي؛ في الليل تزداد وقائع العنف: اعتداءات من آخرين متشردين بسبب الموارد النادرة، سرقات، تحرشات، واعتداءات جنسية تستهدف خصوصًا النساء اللواتي يجدن أنفسهن في موقف دفاعي دائم. كما يتفاقم خطر تعاطي المخدرات والكحول ليلاً لدى البعض كآلية للهروب من الواقع أو لتخفيف الألم، وهذا بدوره يعرّضهم لمزيد من الاستغلال الصحي والاجتماعي والاقتصادي. وفي المقابل، هناك قصص هدوء لا تكاد تُروى: امرأة مسنة من سكان الحي تطعم ليلاً من تبقى بلا مأوى، شاب يتقاسمه مع آخر بطانية لليلة، متطوعون يجوبون الشوارع ليلاً يقدمون حصص طعام صغيرة ويتركوا أرقام خط ساخن للمعونات، أو أشخاص يعطون ملابس دافئة قبل أن يختفيوا في سواد الليل. إن الليل يُظهر الوجوه الحقيقية للتضامن البشري.

من منظور صحي، النوم في الشارع يعرض الناس لأمراض عديدة: التهابات الجهاز التنفسي، تقرحات الجلد، إصابات ناتجة عن السقوط أو العراك، ومشاكل مزمنة لا يتم علاجها لأن الوصول إلى مرافق الرعاية الصحية محدود ليلاً أو مكلف. النساء الحوامل وكبار السن والأطفال في حالة التشرد يواجهون مخاطر مضاعفة؛ الولادة خارج المستشفيات أو التعرض للبرد القارس يمكن أن تكون مميتة. هناك أيضًا تأثيرات نفسية؛ الليل الطويل الذي يفتقد فيه الإنسان الخصوصية والأمان يترك ندوبا نفسية: قلق مستمر، كوابيس، اكتئاب، شعور بالعار والإقصاء. وتراكم هذه العوامل يثبط القدرة على إعادة الاندماج في المجتمع.

لا بد من الإشارة إلى أن التشرد ليس دائمًا نتيجة ضعف شخصي؛ هو في كثير من الأحيان نتيجة فشل منظومات: فقدان شبكات الأمان الاجتماعي، ضعف فرص العمل اللائق، مشكلات الإسكان، إقصاء اجتماعي، غياب الدعم النفسي والتأهيلي، ونقص السياسات الوقائية والعلاجية المهيكلة. في المغرب، كما في غيره، تعمل جمعيات محلية ووطنية على توفير خدمات ليلية محدودة: نقاط توزيع للوجبات، وحدات طبية متنقلة، مراكز إيواء ليلية موسمية في الشتاء، وبرامج إعادة الإدماج. لكن الحاجة تتجاوز التغطية المؤقتة: مطلوب تصميم سياسات تستهدف الفصول المختلفة، فاستجابة الشتاء تختلف عن استجابة الصيف.

من منظور عملي، ما الذي قد يجعل الليل أقل وحشية على المتشردين؟ أولاً، توفير ملاجئ ليلية مؤمنة ومصممة لتلبية احتياجات خاصة: أقسام منفصلة للنساء، أماكن للحيوانات الأليفة (إذ يرفض كثيرون التخلي عن رفيقهم الحيواني)، ساعات عمل مرنة تستجيب للذين يعملون ليلًا أو نهارًا، وتوفير خدمات صحية فورية وقابلة للتوسيع. ثانياً، وجود وحدات إرشادية متنقلة تعمل ليلاً — فرق تطوعية محترفة تضم أطباء، أخصائيين نفسيين، ومشرفي خدمات اجتماعية — لتقليل مخاطر الأمراض والعنف. ثالثًا، استراتيجيات إسكان منخفضة العتبة "السكن اولا" التي توفر سكنًا دائمًا مع خدمات مصاحبة بدل الاعتماد فقط على الملاجئ المؤقتة؛ التجارب الدولية أظهرت أن السكن الدائم يقلل الحاجة للبقاء في الشارع ويخفف تكلفة الخدمات الاجتماعية طويلة الأمد. رابعًا، حملات توعية مجتمعية تقلل وصمة العار تجاه المتشردين وتفتح المجال أمام مبادرات محلية مسؤولة؛ إذ أن الامتنان المجتمعي للمتطوعين والمساهمة الموجهة (وبشكل منظم) يمكن أن تبني شبكة أمان تُشعر المتشردين بأن لهم مكانًا في النسيج الاجتماعي.

الخاتمة

وفي النهاية، لا يمكن اختزال الليل إلى مجرد لحظات من الظلام؛ إنه مرآة تعكس كيف نرى بعضنا كأفراد ومجتمع. أن ترى إنسانًا ينام في الشارع ليلاً وتتعامل معه كسيطرة أمنية أو عبء فقط، فهذا يقطع الطريق أمام أي حل إنساني حقيقي. أما أن تتعامل معه كهمّ إنساني يفرض عليك التفكير بالسياسات، بالبنية التحتية، بالرحمة المكتملة بالأفعال وليس بالكلمات، فهنا تبدأ التغييرات الصغيرة التي قد تمنع مآسي الشتاء وتخفف عطاءات الصيف وتمنح ليلًا واحدًا على الأقل من الاستقرار. الليل يعلمنا أشياء بليغة: أن الدفء يصبح ثروة، وأن الأمان يصبح رفاة، وأن كل بطانية تقدمها أو كل مأوى توفره لا يغير مجرد ليلة بل يعطي فرصة لبداية مختلفة. لذا، إن أردنا أن نكون مجتمعًا إنسانيًا يجب أن نهتم بلياليه، بأن نُعيد للشارع بعضًا من كرامة أولئك الذين يعيشون فيه، وأن نبني سياسات تراعي فصول السنة وتتعامل مع الليل كما هو — ساحة تحدٍ وإنسانية معلقة بين احتمال النجاة وفقدها.

تعليقات