مقدمة
منذ أن انخرطت الدولة في فرض خطب الجمعة الموحدة على الأئمة، حيث تُوزع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية نصوص الخطبة أسبوعيًا، بات الخطاب الديني موصولاً مباشرة بموقع الدولة، فتبدو المنابر وكأنها محطات بث حكومية أكثر منها مساحات روحية. هذا الهيكل الرسمي دفع البعض إلى القول إن الإمام صار موظفًا يتلو ما يُملى عليه، يتلو نصًا مكتوبًا بحس سياسي، ربما ديكتاتوري، لا يسمح بأي خروج "من غرد خارج السرب يُطرد" رغم أن الأجرة الرمزية، التي لا تتعدى غالبًا 300 أو 400 درهم، لا تُذكر بالنسبة للجهد المبذول. والشيء المؤسف أن الإمام الذي يُصرّ على قراءة نصوص تلامس قضايا المسلمين، ويعبر عن رأي مجتمعه، قد يجد نفسه مهددًا بالطرد أو الإيقاف، أو مجرد الشعور بأنه يُمارَس عليه ضغط غير معلن، حتى وهو واقف على المنبر.
ثم جاءت قضية أو موضوعة تتعلق ب"منع الدعاء لأهل غزة" في مناسبات دينية، البعض نقل أن المصلين والأئمة ممنوعون حتى من الدعاء لأهل غزة، مما أثار غضبًا واسعًا في الفضاء العام. أما عن حذف آيات تُذْكر بني إسرائيل من المناهج التعليمية أو من خطب الجمعة في المناسبات كالعيد، فثمة ارتباطٌ غامض يُشاع أنه ناتج عن "اتفاقية إبراهيم" أو Abraham Accords، التي أُبرمت مع إسرائيل منتصف ديسمبر 2020، وسمحت بعلاقات دبلوماسية رسمية وظلت في سياق محط انتقاد شعبي حاد، خاصة من أنصار القضية الفلسطينية داخل البلاد.
ثم جاءت قضية أو موضوعة تتعلق ب"منع الدعاء لأهل غزة" في مناسبات دينية، البعض نقل أن المصلين والأئمة ممنوعون حتى من الدعاء لأهل غزة، مما أثار غضبًا واسعًا في الفضاء العام. أما عن حذف آيات تُذْكر بني إسرائيل من المناهج التعليمية أو من خطب الجمعة في المناسبات كالعيد، فثمة ارتباطٌ غامض يُشاع أنه ناتج عن "اتفاقية إبراهيم" أو Abraham Accords، التي أُبرمت مع إسرائيل منتصف ديسمبر 2020، وسمحت بعلاقات دبلوماسية رسمية وظلت في سياق محط انتقاد شعبي حاد، خاصة من أنصار القضية الفلسطينية داخل البلاد.
العرض
لكن من الأفضل تدقيق هذه النقاط: هل فرضًا تم حذف الآيات التعليمية؟ وهل فعلاً ثمة توجيه رسمي بمنع الدعاء؟ المصادر المتوفرة تشير إلى أن الوثيقة التي تُنسب إلى وزارة الأوقاف والتي تحظر التطرق لقضية فلسطين أو الدعاء لأهل غزة كانت مزوّرة. وزارة الأوقاف أعلنت أن هذه الوثيقة مزيفة وتم إعدادها من طرف جهة غير مغربية . وبأن النقاش حول منع الدعاء أو الحديث عن فلسطين داخل المساجد ليس حالة مسندة رسميًا، رغم أن البرلمانية نبيلة منيب صرّحت بأن "لا إمام يتحدث عن القضية الفلسطينية، اليوم لا أحد يطالب بالجهد و الجهاد لأجل إخواننا في فلسطين" لكن الوزارة نفت الحظر، وأكدت أن التنديد بالظلم مقبول، لكن الدعوة إلى "الجهاد" ممنوعة بسبب تفسيراتها المتعددة والمعقدة.
إذًا ثمة ازدواجية: رسميًا الدولة تقول إن الحديث عن الظلم والسعي للعدل جائز، لكن أي خطاب يتعدى على حدود "التحذير" قد يُفهم على أنه سياسي أو تحريضي، فيُمنع. هذا الموقف يضع الأئمة في سرب ليس هو سربهم، ويسلبهم القدرة على مناصرة شعب يتعرض للقصف من منابرهم. وتأثير ذلك عمّق حالة الإحباط لدى الشباب حتى داخل المساجد، الذين باتوا يتجنبون المساجد في أيام الجهاد لمفارقة الصوت المطبق بالصمت.
ثم أتى توقيع "اتفاقية إبراهيم" في ديسمبر 2020، حيث اعترفت المملكة بإسرائيل مقابل دعم أمريكي لمطالبها بشأن الصحراء الغربية، مع فتح الرحلات الجوية والمكاتب الدبلوماسية وتدريس الثقافة اليهودية في المناهج . لكن هذا اللقاء ليس مجرد ورقة تفاهم، بل نقل المعيار: منبر المسجد صار في دائرة النظر السياسي، وخطاب تطبيع ضمني بات يُلزم بعدم التسبب في ضغط دبلوماسي أو محلي على هذه الاتفاقيات.
لكن الضغوط الشعبية لم تتوقف؛ مظاهرات حاشدة انطلقت في الرباط وعدة مدن للتعبير عن الغضب تجاه التقارب مع إسرائيل، ضمت طيفًا واسعًا من الإسلاميين واليساريين والطلاب والعمال، وطالبوا بقطع العلاقات. وفي بعض الحالات وصلت المظاهرات إلى الموانئ، لمنع رسو سفن محملة بأجزاء عسكرية قد تُوجه إلى إسرائيل، مما يثير إدراكًا عميقًا للعلاقة بين السياسة الدولية والسياسة المحلية، هذا الغضب الشعبي أثار حرجًا للدولة، وضغطًا للحفاظ على التوازن بين السياسة الرسمية والمقاومة الشعبية.
كما تم الحكم على ناشطين مثل عبد الرحمن زنقاد بالسجن خمس سنوات بسبب تدوينة تنتقد تطبيع المغرب مع إسرائيل، بتهمة إهانة مؤسسة دستورية والتحريض. هذا الحكم شجبته جماعات حقوقية واعتُبر انتهاكًا لحرية التعبير، وقد ضمن هذا السياق حملة تضييق على الأصوات التي تنبّه للسياسة الخارجية من داخل المجتمع المدني.
رغم ذلك، تدعم الدولة علنًا القضية الفلسطينية: في أكتوبر 2023 التقى وزير الخارجية بحركة فتح، وجدد دعمًا ثابتًا، وأمر الملك بإرسال مساعدات إنسانية طائرتان محملتان بالغذاء والدواء إلى غزة
أما عن تأثير "اتفاقية إبراهيم" رغم ما رُوج له فقد رآها بعض المحللين أداة استراتيجية أوسع، لأجل كبح نفوذ إيران في الساحل والصحراء، وولدت فرصًا اقتصادية وتقنية كالزراعة والذكاء الاصطناعي بين المغرب وإسرائيل، مع توزيع اقتصادي يظهر منجز السياسة الخارجية المغربية . لكن رغم ذلك، فإن الأوساط الشعبية ترى التطبيع كخيانة للقدس، والضربة هناك أثرت في التوازن الداخلي، وأعادت تأكيد أن الخطاب الديني لا يمكن أن يُفصل عن الحالة السياسية للشعب.
أُضف إلى ذلك أن الحركات المعارضة، مثل حركة "غدًا المغرب" Tomorrow’s Morocco Movement، تنشط ضد التطبيع، وتجمع أحزابًا ونشطاء ومنظمات مجتمع مدني، ويُركّز تحركهم على نسيج الهوية الكفيلة بحماية القضية الفلسطينية مقابل علاقات رسمية قد نخشى أن تدير ظهرها لها.
في السياق الدولي أيضًا، اتفاقيات إبراهيم نجت من رجة غزة، لكنها تواجه مستقبلاً مشوبًا بعدم اليقين، فالتواصل الشعبي تراجع، وحُصر التأثير في المؤسسات الحكومية، بينما علا صوت المعارضة الشعبية، وهذا يوضح أن التحالفات السياسية لا يمكن أن تتجاهل الرأي العام الداخلي، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا دينية وعاطفية مثل فلسطين والقدس
إذًا ثمة ازدواجية: رسميًا الدولة تقول إن الحديث عن الظلم والسعي للعدل جائز، لكن أي خطاب يتعدى على حدود "التحذير" قد يُفهم على أنه سياسي أو تحريضي، فيُمنع. هذا الموقف يضع الأئمة في سرب ليس هو سربهم، ويسلبهم القدرة على مناصرة شعب يتعرض للقصف من منابرهم. وتأثير ذلك عمّق حالة الإحباط لدى الشباب حتى داخل المساجد، الذين باتوا يتجنبون المساجد في أيام الجهاد لمفارقة الصوت المطبق بالصمت.
ثم أتى توقيع "اتفاقية إبراهيم" في ديسمبر 2020، حيث اعترفت المملكة بإسرائيل مقابل دعم أمريكي لمطالبها بشأن الصحراء الغربية، مع فتح الرحلات الجوية والمكاتب الدبلوماسية وتدريس الثقافة اليهودية في المناهج . لكن هذا اللقاء ليس مجرد ورقة تفاهم، بل نقل المعيار: منبر المسجد صار في دائرة النظر السياسي، وخطاب تطبيع ضمني بات يُلزم بعدم التسبب في ضغط دبلوماسي أو محلي على هذه الاتفاقيات.
لكن الضغوط الشعبية لم تتوقف؛ مظاهرات حاشدة انطلقت في الرباط وعدة مدن للتعبير عن الغضب تجاه التقارب مع إسرائيل، ضمت طيفًا واسعًا من الإسلاميين واليساريين والطلاب والعمال، وطالبوا بقطع العلاقات. وفي بعض الحالات وصلت المظاهرات إلى الموانئ، لمنع رسو سفن محملة بأجزاء عسكرية قد تُوجه إلى إسرائيل، مما يثير إدراكًا عميقًا للعلاقة بين السياسة الدولية والسياسة المحلية، هذا الغضب الشعبي أثار حرجًا للدولة، وضغطًا للحفاظ على التوازن بين السياسة الرسمية والمقاومة الشعبية.
كما تم الحكم على ناشطين مثل عبد الرحمن زنقاد بالسجن خمس سنوات بسبب تدوينة تنتقد تطبيع المغرب مع إسرائيل، بتهمة إهانة مؤسسة دستورية والتحريض. هذا الحكم شجبته جماعات حقوقية واعتُبر انتهاكًا لحرية التعبير، وقد ضمن هذا السياق حملة تضييق على الأصوات التي تنبّه للسياسة الخارجية من داخل المجتمع المدني.
رغم ذلك، تدعم الدولة علنًا القضية الفلسطينية: في أكتوبر 2023 التقى وزير الخارجية بحركة فتح، وجدد دعمًا ثابتًا، وأمر الملك بإرسال مساعدات إنسانية طائرتان محملتان بالغذاء والدواء إلى غزة
أما عن تأثير "اتفاقية إبراهيم" رغم ما رُوج له فقد رآها بعض المحللين أداة استراتيجية أوسع، لأجل كبح نفوذ إيران في الساحل والصحراء، وولدت فرصًا اقتصادية وتقنية كالزراعة والذكاء الاصطناعي بين المغرب وإسرائيل، مع توزيع اقتصادي يظهر منجز السياسة الخارجية المغربية . لكن رغم ذلك، فإن الأوساط الشعبية ترى التطبيع كخيانة للقدس، والضربة هناك أثرت في التوازن الداخلي، وأعادت تأكيد أن الخطاب الديني لا يمكن أن يُفصل عن الحالة السياسية للشعب.
أُضف إلى ذلك أن الحركات المعارضة، مثل حركة "غدًا المغرب" Tomorrow’s Morocco Movement، تنشط ضد التطبيع، وتجمع أحزابًا ونشطاء ومنظمات مجتمع مدني، ويُركّز تحركهم على نسيج الهوية الكفيلة بحماية القضية الفلسطينية مقابل علاقات رسمية قد نخشى أن تدير ظهرها لها.
في السياق الدولي أيضًا، اتفاقيات إبراهيم نجت من رجة غزة، لكنها تواجه مستقبلاً مشوبًا بعدم اليقين، فالتواصل الشعبي تراجع، وحُصر التأثير في المؤسسات الحكومية، بينما علا صوت المعارضة الشعبية، وهذا يوضح أن التحالفات السياسية لا يمكن أن تتجاهل الرأي العام الداخلي، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا دينية وعاطفية مثل فلسطين والقدس
خاتمة
إذا وضعنا هذا كله في خانة واحدة:
المشهد المغربي اليوم يشهد تشابكًا في العلاقة بين الدولة والمذهب الرسمي؛ ففي أحد جوانبه، تُفرض خطب الجمعة من وزارة الأوقاف لتقنين الخطاب وحفظ الاستقرار، مما يمنع الأئمة من "خروج عن النص" رغم جرأة المعاناة الفلسطينية والمطالب الشعبية، حتى الدعاء لأهل غزة يثير حساسية المؤسسات، بينما في الجانب الآخر، تخوض الدولة رسمًا حقلًا سياسيًا مدعومًا أمريكيًا، يُسمّى "اتفاق إبراهيم"، ويفتح علاقات مع إسرائيل، مقابل اعتراف أمريكي بمطالب الصحراء الغربية، وفتحت الأفق الفني والثقافي والاقتصادي، لكن الشعبية في المغرب كانت وما زالت نبضًا يخالف التوجه الرسمي، وتظهر تنظيمات ونشطاء وشباب غاضب في الشوارع والموانئ والمعامل والمؤسسات، يتحدون التضييق، ويوصلون صوت القضية رغم الرقابة، رغم التحذير، رغم الجائزة الزهيدة للأئمة، رغم اسطوانة النصّ الرسمي، وفي الداخل والخارج، بين الخطاب الديني والسياسة الدولية، بين الحظر والمظلومية، يقف المواطن المغربي في قلب التحدي، يحمل هم القضية، يريد أن يُسمَع، وأن تأخذ كلمته مكانًا في المسجد والمدرسة والشارع، وليس أن يكون فقط طيفًا في مقاومة.
المشهد المغربي اليوم يشهد تشابكًا في العلاقة بين الدولة والمذهب الرسمي؛ ففي أحد جوانبه، تُفرض خطب الجمعة من وزارة الأوقاف لتقنين الخطاب وحفظ الاستقرار، مما يمنع الأئمة من "خروج عن النص" رغم جرأة المعاناة الفلسطينية والمطالب الشعبية، حتى الدعاء لأهل غزة يثير حساسية المؤسسات، بينما في الجانب الآخر، تخوض الدولة رسمًا حقلًا سياسيًا مدعومًا أمريكيًا، يُسمّى "اتفاق إبراهيم"، ويفتح علاقات مع إسرائيل، مقابل اعتراف أمريكي بمطالب الصحراء الغربية، وفتحت الأفق الفني والثقافي والاقتصادي، لكن الشعبية في المغرب كانت وما زالت نبضًا يخالف التوجه الرسمي، وتظهر تنظيمات ونشطاء وشباب غاضب في الشوارع والموانئ والمعامل والمؤسسات، يتحدون التضييق، ويوصلون صوت القضية رغم الرقابة، رغم التحذير، رغم الجائزة الزهيدة للأئمة، رغم اسطوانة النصّ الرسمي، وفي الداخل والخارج، بين الخطاب الديني والسياسة الدولية، بين الحظر والمظلومية، يقف المواطن المغربي في قلب التحدي، يحمل هم القضية، يريد أن يُسمَع، وأن تأخذ كلمته مكانًا في المسجد والمدرسة والشارع، وليس أن يكون فقط طيفًا في مقاومة.