الاغتيال الغامض لهشام المندري: قصة صراع أسرار وسياسة انتهت برصاصة

مقتل هشام المندري: بين مزاعم الأسرار الخطيرة وتشابك خيوط الجريمة


قُتل هشام المندري في ظروف غامضة مساء يوم 4 أغسطس 2004، حيث عُثر على جثته في مرأب للسيارات بمدينة ميخاس الإسبانية قرب مالقا، برصاصة في الرأس، وهي النهاية التي صدمت كثيرين ممن عرفوا هذا الاسم المثير للجدل داخل المغرب وخارجه. هشام المنظري لم يكن معارضًا عاديًا، بل كان شخصية تثير الانتباه منذ ظهوره العلني في نهاية التسعينات، حين ادعى أن له صلة غير رسمية بالعاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، وصرّح بأنه يمتلك أسرارًا من شأنها أن تزلزل المغرب وربما دولًا أخرى. اسمه ظهر بشكل قوي في يونيو 1999 عندما نُشر بيان باسمه في صحيفة واشنطن بوست الأميركية، كان يتوعد فيه بكشف معلومات غاية في الحساسية، قال إنها تتعلق بمسؤولين مغاربة كبار وبشخصيات دولية. ورغم أن الكثيرين تعاملوا مع تلك المزاعم بشيء من التوجس وربما التشكيك، فإن المندري أصرّ على أنه يملك وثائق وشهادات تؤكد ما يقوله، حتى إنه ادعى أن بحوزته فيديوهات سُجلت داخل القصر الملكي المغربي، وأنه يتعاون مع محام أميركي لتأمين نشرها أو بيعها في مزاد مغلق بحال تعرّضه لأي خطر، وهو ما حدث فعلاً بعد اغتياله الغامض. في مساء ذلك اليوم، خرج المندري من منزله متجهًا إلى مرأب سيارته، ولم يعرف أحد ما الذي حدث تحديدًا في اللحظات الأخيرة من حياته، سوى أنه تم العثور عليه مصابًا برصاصة واحدة في الرأس، بينما لم يكن هناك شهود مباشرون ولا كاميرات مراقبة توثق تفاصيل الجريمة. الشرطة الإسبانية فتحت تحقيقًا واسعًا، وبدأت النظر في مختلف الفرضيات، من ضمنها احتمال وجود تصفية حسابات سياسية، لكن سرعان ما بدأت التحقيقات تشير إلى خيوط مختلفة، من بينها علاقة المندري بأشخاص من عالم تزوير الأموال وغسيلها. بعد عدة أشهر من التحقيق، وفي فبراير 2006، أعلنت السلطات الإسبانية أنها أوقفت رجلًا مغربيًا يُدعى حميد بومهادي، كان يشتبه في تورطه المباشر في الجريمة. المعلومات الأولية كانت تفيد بأن الجريمة قد تكون مرتبطة بنزاع حول عمليات تزوير دولارات وعملات أجنبية، خصوصًا أن المنظري كان قد تورط في قضايا مالية في السابق. ومع ذلك، لم تستبعد الشرطة الإسبانية تمامًا الدافع السياسي، خصوصًا بسبب شهرة المندري وتصريحاته المثيرة. لكن الملف سرعان ما تعقد، إذ تم إطلاق سراح بومهادي مؤقتًا في عام 2007، بعد أن رأت المحكمة الإسبانية أن الأدلة ضده غير كافية، بل وأشارت إلى أن هناك عناصر قد تكون فُرضت على مجرى التحقيق لتوجيهه بعيدًا عن احتمالات أخرى. في موازاة ذلك، كانت هناك وسائل إعلام مغربية ودولية تشير إلى فرضية مفادها أن المنظري قد يكون اغتيل بسبب قربه من أسرار دولة خطيرة، لا سيما بعدما أكد مرارًا أنه كان في صلب منظومة معلوماتية داخل القصر، وأنه يحتفظ بتسجيلات وأرشيفات وثائقية عن كبار المسؤولين. أحد المقالات الإسبانية الصادرة حينها ذكر أن السلاح الذي استُخدم في اغتياله كان من طراز روسي نادر يُستخدم عادة في جمهوريات القوقاز، ما زاد من تعقيد القضية، خصوصًا عندما أُثير احتمال أن يكون السلاح مُهرّبًا خصيصًا لتوجيه التحقيق في اتجاه خاطئ أو تحميل التهمة لجهة أجنبية. بعد اغتياله، انتشرت شائعات كثيرة، وتداولت المنتديات ومواقع المعارضة روايات متعددة حول كيفية مقتله، ومن يقف وراء ذلك. وبرز في الساحة شقيقه يوسف المنظري، الذي تبنّى خطابًا متطرفًا في توجيه الاتهامات، مؤكدًا أن شقيقه قُتل بسبب محاولته فضح من سماهم "عصابة السلطة" داخل المغرب. بل إن يوسف ظهر في مقاطع فيديو وصحف إلكترونية يدّعي فيها أنه تلقى تهديدات من المخابرات المغربية، وأنه يملك نسخة من الوثائق التي خبأها هشام. لكنه لم يكن يملك سوى ما سماه "الرواية البديلة"، دون إثباتات حقيقية. واستمر في الترويج لتلك الرواية لأكثر من عشر سنوات، إلى أن تدخل القضاء المغربي سنة 2025 ليُسقط الستار عن هذا الجانب من القصة. ففي يوليو من تلك السنة، أصدرت محكمة مغربية حكمًا بالسجن خمس سنوات على يوسف المندري بعد أن ثبت انتحاله صفة ضابط استخبارات، وتورطه في إنتاج وثائق مزيفة ونشرها في وسائل إعلام أجنبية، إضافة إلى استغلال قصة مقتل شقيقه للتشهير بمؤسسات الدولة بغرض التربح المالي والإعلامي. المحكمة قالت إن يوسف المنظري اختلق سيناريو متكامل لاغتيال "مفبرك" بناء على وقائع مختلقة بالكامل، وبأنه قدم نفسه لوسائل إعلام باعتباره رجل مخابرات سابق ومطلعًا على كواليس الدولة، بينما هو في الحقيقة كان يعيش في الخارج ويعاني من ضائقة مالية ويحاول استثمار اسم شقيقه الراحل لأغراض دعائية وتجارية. ورغم صدور هذا الحكم، إلا أن الغموض لم يُرفع تمامًا عن جريمة القتل نفسها، فالحقيقة القضائية شيء، والحقيقة المطلقة شيء آخر. وقد عبّر صحافيون إسبان عن اعتقادهم بأن التحقيق لم يصل إلى كل خيوطه، بل إن بعضهم أشار إلى تدخلات محتملة أوقفت مسار الكشف الكامل عن ملابسات الجريمة. ومن الأمور اللافتة أن هشام المندري قبل مقتله بأشهر قليلة كان قد بدأ يراسل وسائل إعلام أجنبية من بينها صحف فرنسية وبريطانية، عارضًا عليهم شراء ملفات قال إنها تحتوي على معلومات مخابراتية حساسة تتعلق بشخصيات في السلطة، ليس فقط في المغرب، بل في بلدان عربية أخرى أيضًا. كما أشيع أنه كان يفاوض أطرافًا في أميركا اللاتينية حول بيع تلك الوثائق. ولم تتأكد أي جهة صحافية من صحة تلك المزاعم، لكن بعض المحامين الذين تعاملوا معه أشاروا إلى أنه كان في وضع نفسي متأزم وأنه يشعر بأنه مراقب ومهدد. ومن جانب آخر، فإن من أبرز الجوانب التي أعادت القضية إلى الواجهة لاحقًا هو ما تم تسريبه من ملف لدى محامٍ أميركي كان يتكفل بحماية وثائق خاصة بالمندري. وقد أشيع عام 2005 أن هذا المحامي عرض تلك الوثائق للبيع في مزاد خاص داخل الولايات المتحدة، دون أن يتم الكشف عن مشتريها أو محتواها. وهذا ما زاد من غموض الملف، وفتح المجال لسيناريوهات متضاربة، أبرزها أن المندري ربما تم استدراجه إلى فخ محكم عبر وعد بصفقة مالية مقابل تسليم الأرشيف، ليتم بعدها تصفيته على الفور دون ترك أثر. ولم تعلن أي جهة رسمية مغربية أو أجنبية مسؤوليتها عن الحادث، كما لم يتمكن القضاء الإسباني من توجيه تهمة مؤكدة لأي طرف، ما جعل الملف يُصنّف ضمن القضايا غير المحسومة حتى اليوم. وبينما حاول البعض إقحام المخابرات المغربية في العملية، فإن ذلك لم يثبت بأي دليل قانوني، بل العكس، فقد أدان القضاء المغربي لاحقًا من حاولوا الترويج لتلك النظرية باعتبارها كاذبة ومدفوعة بأهداف شخصية. ومع كل هذه التفاصيل، يبقى اغتيال هشام المندري قصة تتداخل فيها السياسة بالجريمة، وتبقى الحقيقة ضائعة بين شهادات متناقضة وسيناريوهات مفترضة وتحقيقات لم تكتمل، ويبقى اسم هشام المندري محفورًا في ذاكرة المغاربة، ليس لأنه كان معارضًا فقط، بل لأنه اختار المواجهة المباشرة مع السلطة، وأثار ضجة إعلامية قلما أحدثها شخص في موقعه، ثم مات في ظروف لا تزال تطرح أسئلة أكثر مما تقدمه من أجوبة. 

تعليقات