أشرطة الكاسيت: رسائل المهاجرين المغاربة في زمن الغربة

حين كان الصوت جسرًا بين المهاجرين وأهلهم

رسالة مهاجر ايام زمان
 المقدمة
في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، كانت الهجرة بالنسبة إلى مئات الآلاف من المغاربة حلمًا صعبًا وواقعًا أكثر صعوبة. خرج الكثيرون إلى أوروبا، وخاصة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، بحثًا عن لقمة العيش، في زمن لم تكن فيه وسائل الاتصال متاحة كما هي اليوم. فالهواتف كانت باهظة الثمن، والاتصال بين بلدين مختلفين يحتاج إلى إجراءات معقدة، فضلاً عن التكلفة الباهظة التي لم تكن في متناول اليد. في هذا السياق، برزت وسيلة بديلة وغريبة نوعًا ما للتواصل: الأشرطة الصوتية.
كان المهاجر المغربي يحمل مسجّلاً صغيرًا (كاسيت)، يجلس في غرفته المتواضعة أو في مسكن جماعي مع رفاقه، ثم يبدأ في تسجيل رسالة مطولة لزوجته أو والدته أو حتى أصدقائه في المغرب. وبعد أيام، يرسل الشريط مع أحد العائدين إلى المغرب أو عبر البريد، لتجلس الأسرة في البيت متجمّعة حول مسجّل الكاسيت، تستمع بلهفة لكل كلمة، كأنها تنهل من نبع طال انتظاره.
هذه الأشرطة لم تكن مجرد أصوات عابرة، بل كانت تنقل المشاعر والدموع والضحكات، وتروي حكايات الاغتراب، الغربة، الأمل والحنين. كانت الشريط بمثابة جسر إنساني يربط بين عالمين، ويخفف من قسوة الغربة ووحشة الفراق.
العرض
1. خلفية عن ظروف المهاجرين في الثمانينات والتسعينات
الهجرة المغربية إلى أوروبا بدأت بشكل منظم منذ ستينات القرن العشرين عبر اتفاقيات العمالة مع فرنسا وبلجيكا وألمانيا. لكن في الثمانينات والتسعينات، ازدادت أعداد المهاجرين بشكل ملحوظ، وامتدت الهجرة إلى إيطاليا وإسبانيا. كان المهاجرون يعملون في مجالات شاقة مثل البناء، الفلاحة، والمصانع، برواتب متواضعة وظروف معيشية صعبة.
لم يكن التواصل سهلاً؛ الهاتف في تلك الفترة في المغرب كان رفاهية، وغالبًا يوجد في بيت واحد من بين عشرات البيوت في القرية. وحتى إن وُجد، فإن الاتصال الدولي مكلف ويستغرق وقتًا للربط. أمام هذه الصعوبات، لجأ المهاجرون إلى طرق بديلة، أبرزها الرسائل المكتوبة، ثم لاحقًا الأشرطة الصوتية التي أحدثت نقلة نوعية.
2. ولادة فكرة الأشرطة الصوتية
مع انتشار أجهزة التسجيل المحمولة (الكاسيت) في تلك الفترة، وجد المهاجرون وسيلة عملية للتواصل. لم تعد الكلمات المكتوبة تكفي للتعبير عن الشوق والمعاناة، فجاء الصوت ليحمل نبرات الحنين وضحكات الأطفال الذين ينادون آباءهم من بعيد.
كان المهاجر يسجّل شريطًا يمتد نصف ساعة أو أكثر، يتحدّث فيه عن يومياته، عمله، أصدقائه، أحوال الطقس، وصحته. وغالبًا ما يترك في نهايته مساحة لأصدقائه أو رفاق الغربة ليسجلوا رسائل قصيرة إلى ذويهم في نفس القرية أو المدينة.
3. لحظة الاستماع: فرحة في قلب البيت المغربي
عند وصول الشريط إلى المغرب، تبدأ طقوس الاستماع. تُخرج الأسرة جهاز الكاسيت من خزانة الملابس، يوضع الشريط في المسجل، ويجلس الجميع حوله كما لو كانوا أمام نافذة تطل على عالم آخر.
الزوجة تستمع بلهفة لصوت زوجها، تضحك حين يمزح، وتبكي حين يذكر شوقه إليها.
الأم تردد الأدعية وتهمس: "الله يردّك لينا سالم".
الأطفال يصرخون فرحًا: "بابا! بابا!" وهم لا يملكون إلا صوتًا يتخيلونه جسدًا حاضرًا.
هذه اللحظة كانت تختزل معنى العائلة في أوج الغربة، وتجعل الأشرطة أكثر من مجرد وسيلة اتصال؛ بل تجربة جماعية محفوفة بالحب والدموع.
4. أثر الأشرطة على العلاقات الأسرية
كان للشريط تأثير بالغ في صيانة الروابط الأسرية. فالرسالة المكتوبة، رغم صدقها، تبقى جامدة، بينما الصوت يعيد رسم ملامح صاحبه. بعض الزوجات قلن إن سماع صوت أزواجهن منحهن قوة على تحمل الغياب. وبعض الأطفال كبروا وهم لا يعرفون وجه والدهم جيدًا، لكن أصواته المحفوظة في الأشرطة ظلت ترافقهم.
كما شكّلت الأشرطة نوعًا من الأرشيف العائلي، حيث احتفظت العائلات بها سنوات طويلة، لتعيد الاستماع إليها حتى بعد عودة المهاجر من غربته، وكأنها توثيق حيّ لتلك المرحلة الصعبة.
5. الصعوبات والطرائف
لم تكن الأشرطة تخلو من مشكلات. فقد يتعرض الشريط للتلف في الطريق، أو يُنسى في حقيبة أحد العائدين. أحيانًا، يُسجّل المهاجر فوق رسالة قديمة دون قصد، مما يتسبب في ضياع جزء منها.
كما ظهرت طرائف: بعض المهاجرين كانوا يرسلون أشرطة غنائية ممزوجة برسائل صوتية، أو يطلبون من صديقهم العازف أن يرافق كلماتهم بلحن بسيط. وأحيانًا، كانت الأشرطة تصل إلى أكثر من أسرة واحدة، حيث يتقاسمها أهل القرية للاستماع تباعًا.
6. المقارنة مع زمن اليوم
اليوم، تبدو هذه القصة وكأنها من عالم آخر. بضغطة زر على تطبيق مثل واتساب، يمكن للمهاجر أن يرسل رسالة صوتية أو فيديو مباشر لعائلته في أي لحظة. لكن، رغم سهولة الاتصال اليوم، يبقى للأشرطة صوت دافئ لا يعوّضه أي فيديو عالي الجودة.
الأشرطة كانت بطيئة، لكنها محمّلة بالحنين، تجسد قيمة الانتظار، وتجعل الكلمة أثمن. كانت زمنًا لا مكان فيه للاستعجال، بل لصدق المشاعر وصفاء التواصل.
الخاتمة
قصة الأشرطة الصوتية بين المهاجرين المغاربة في الثمانينات والتسعينات ليست مجرد حكاية تقنية قديمة، بل هي وثيقة إنسانية تختزل صراع الغربة والحنين، وصبر عائلات صمدت أمام الفراق القاسي. لقد مثّلت تلك الأشرطة جسورًا من المحبة بين ضفتين، وذكّرت الجميع أن قوة الصوت أحيانًا تتجاوز أي صورة أو كلمة مكتوبة.
اليوم، ونحن نعيش زمن السرعة والاتصالات الفورية، نستحضر تلك التجربة لنفهم أن التواصل لم يكن يومًا مجرد وسيلة، بل قيمة عاطفية وروحية. لقد كانت الأشرطة صوت القلب الذي لا يعرف حدودًا، ورسالة حب صادقة تُحمل عبر مسافات بعيدة، لكنها تصل دومًا إلى القلب.

تعليقات