حين يتحول القرب إلى جفاء: الأقراص المهلوسة وعقوق الوالدين في المجتمع المغربي
مقدمة
عقوق الوالدين ليس خطيئة عابرة يمكن تجاوزها بسهولة، بل هو انكسار عميق في منظومة الأخلاق والدين والإنسانية، لأنه يمس الجذور الأولى للعلاقة بين الإنسان وأصله، بين الابن ومن كانوا سببًا في وجوده، بين جيل ضحّى وبذل وجهد، وجيل لم يستطع أن يحفظ الجميل ولا أن يرد الدين ولو بالكلمة الطيبة. في العالم الإسلامي، لطالما كان بر الوالدين قيمة راسخة لا يجرؤ أحد على المساس بها، إذ ارتبطت بالتدين الصادق وبالهوية الجماعية للمسلمين، فكم من أمثال وأشعار وحكايات كانت تُروى في الأسواق والمجالس لتأكيد هذه القدسية، وكم من نصوص دينية جعلت العقوق من الكبائر التي لا يغفرها الله إلا بالتوبة النصوح. ومع ذلك، فإن الواقع المعاصر يكشف عن أزمة متفاقمة، حيث تزايدت مظاهر العقوق، وبدأت تتخذ صورًا صادمة تصل أحيانًا إلى العنف والإهمال والطرد، وكأن العلاقة بين الآباء والأبناء فقدت روحها الأصلية.
عقوق الوالدين ليس خطيئة عابرة يمكن تجاوزها بسهولة، بل هو انكسار عميق في منظومة الأخلاق والدين والإنسانية، لأنه يمس الجذور الأولى للعلاقة بين الإنسان وأصله، بين الابن ومن كانوا سببًا في وجوده، بين جيل ضحّى وبذل وجهد، وجيل لم يستطع أن يحفظ الجميل ولا أن يرد الدين ولو بالكلمة الطيبة. في العالم الإسلامي، لطالما كان بر الوالدين قيمة راسخة لا يجرؤ أحد على المساس بها، إذ ارتبطت بالتدين الصادق وبالهوية الجماعية للمسلمين، فكم من أمثال وأشعار وحكايات كانت تُروى في الأسواق والمجالس لتأكيد هذه القدسية، وكم من نصوص دينية جعلت العقوق من الكبائر التي لا يغفرها الله إلا بالتوبة النصوح. ومع ذلك، فإن الواقع المعاصر يكشف عن أزمة متفاقمة، حيث تزايدت مظاهر العقوق، وبدأت تتخذ صورًا صادمة تصل أحيانًا إلى العنف والإهمال والطرد، وكأن العلاقة بين الآباء والأبناء فقدت روحها الأصلية.
عرض
في المغرب، حيث كانت صورة "الوالدين" دومًا مقرونة بالقداسة والرحمة، تبدلت الأحوال في العقود الأخيرة، فصار الحديث عن آباء متسولين أو أمهات مهمشات أو مسنين يعيشون العزلة في دور العجزة أمرًا مألوفًا. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة لمزيج من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى آفة مدمرة تفشت في الأحياء والقرى على حد سواء: الأقراص المهلوسة أو ما يعرف شعبيًا بـ"القرقوبي". هذه السموم لا تفتك فقط بعقول الشباب وأجسادهم، بل تدمّر الرابط العاطفي بينهم وبين والديهم، فتجعلهم يتجردون من كل مشاعر الرحمة والاحترام، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى ارتكاب جرائم قتل في حق الآباء أو الأمهات، وهو ما يعد انهيارًا أخلاقيًا غير مسبوق.
الأقراص المهلوسة تعمل على تشويه الوعي وإلغاء الحدود بين المسموح والممنوع، بين ما هو مقدس وما هو عادي. فالشاب الذي يتعاطاها يجد نفسه في عالم آخر، يتصرف بلا وعي وبلا ضمير، ويصبح عنيفًا وعدوانيًا تجاه أقرب الناس إليه. كم من أم مغربية روت بحسرة كيف ضربها ابنها وهو يطالبها بالمال لشراء القرقوبي، وكم من أب مسن قصّ بدموع قصة طرده من بيته لأن ابنه المدمن لم يعد يطيق نصائحه وتحذيراته. بل إن الجرائد المغربية في السنوات الأخيرة امتلأت بأخبار مأساوية عن شباب قتلوا أمهاتهم أو آباءهم تحت تأثير الأقراص، في حوادث هزت الرأي العام وكشفت أن العقوق لم يعد مجرد إهمال أو جفاء عاطفي، بل صار جريمة مكتملة الأركان.
ومع ذلك، فإن تحميل المسؤولية كاملة للمهلوسات وحدها قد يكون تبسيطًا مخلًا. فالأقراص هي عامل مدمّر لكنها تجد بيئة خصبة لتعمل فيها، بيئة يسودها الفقر والبطالة وغياب الأفق لدى الشباب، إضافة إلى تفكك الأسر التي لم تعد قادرة على أداء دورها التربوي بسبب ضغط الحياة اليومية. حين يجد الشاب نفسه بلا أمل، بلا عمل، وبلا سند نفسي، يكون عرضة للإدمان، وحين يدخل دوامة الإدمان يجرّ معه عائلته إلى جحيم لا يطاق. الوالدان هنا يتحولان إلى ضحيتين مرتين: مرة لأن ابنهما انحرف، ومرة أخرى لأنه بات مصدر خوفهما وألمهِما.
الدين الإسلامي لم يترك الأمر غامضًا، فقد جاء بالوصية المتكررة ببر الوالدين، وقرن ذلك بعبادة الله، حتى لا يبقى مجال للتهاون. لكن الفجوة بين التعاليم والواقع تتسع مع مرور الوقت. في الماضي كان الأبناء يتسابقون لخدمة الوالدين، وكان عقوق أحدهم فضيحة تهز القبيلة أو الحي. أما اليوم فقد صارت قصص العقوق تتكرر في المدن الكبرى والقرى النائية، حتى فقد الناس دهشتهم أمامها. هذا التحول يطرح سؤالًا عميقًا حول ما إذا كان المجتمع فقد البوصلة التي تهديه، وكيف استطاعت السموم الكيميائية أن تنسف قيمًا دامت قرونًا.
من الجانب النفسي، تؤكد الدراسات أنّ المهلوسات تحدث اضطرابات خطيرة في الدماغ، فتضعف التحكم في الانفعالات وتزيد العدوانية وتلغي الشعور بالذنب. الشاب الذي كان يومًا محبًا لأمه وأبيه قد يتحول بعد التعاطي إلى وحش يصرخ في وجوههم ويعتدي عليهم بلا تردد. والصدمة الكبرى أن كثيرًا من هؤلاء المدمنين لا يتذكرون أفعالهم بعد زوال مفعول المخدر، فيعيش الوالدان بين نارين: نار الاعتداء ونار العاطفة التي تمنعهم من التخلي عن ابنهم. هذه المأساة تجعل من العقوق المعاصر أكثر قسوة مما عرفه التاريخ، لأنه ليس مجرد قرار متعمد بالتمرد، بل حالة فقدان كامل للإنسانية تحت تأثير السموم.
وليس غريبًا أن نرى في الشوارع المغربية شبابًا هائمين على وجوههم، يتحدثون مع أنفسهم أو يفتعلون مشاكل مع المارة، وقد عُرف أن أغلبهم ضحايا القرقوبي. هؤلاء حين يعودون إلى بيوتهم، يعودون كقنابل موقوتة، لا يدري الأب أو الأم متى تنفجر. وحين تنفجر، فإن أول الضحايا غالبًا يكونان هما. كم من مرة تداهمنا الأخبار عن أب مسن يصرخ طلبًا للنجدة لأن ابنه المدمن يحاول قتله، أو عن أم تختبئ عند الجيران خوفًا من بطش ابنها. هذه الصور المرعبة لم تكن مألوفة في المغرب قبل عقود قليلة، وهو ما يدل على أن المهلوسات غيّرت ملامح العلاقات العائلية في العمق.
لكن المشكلة لا تتوقف عند حدود البيت. فحين ينتشر العقوق ويتحول إلى ظاهرة، يصبح المجتمع كله مهددًا. الأسرة هي المدرسة الأولى للأخلاق، فإذا فشلت في حماية قيمها، فإن الانحراف يتسرب إلى الشارع والمدرسة والعمل. والشاب الذي يعتدي على والديه لن يتورع عن الاعتداء على جاره أو سرقة مارة أو ارتكاب جريمة في الحي. لذلك، فإن عقوق الوالدين في ظل انتشار المهلوسات ليس قضية أسرية فحسب، بل قضية أمنية وأخلاقية واجتماعية تمس الجميع.
الحل لا يمكن أن يكون وعظًا فقط، بل يحتاج إلى رؤية شاملة تتضمن محاور عدة: أولها التربية الدينية والأخلاقية التي يجب أن تعاد صياغتها بطريقة عصرية قادرة على إقناع الشباب وتحصينهم ضد الإغراءات. ثانيها، محاربة شبكات تهريب وتوزيع الأقراص المهلوسة بقوة القانون، لأن هذه الشبكات تستثمر في تدمير الأجيال. ثالثها، توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأسر التي تعاني من وجود ابن مدمن، حتى لا تترك فريسة الخوف والعزلة. رابعها، خلق بدائل اقتصادية وفرص عمل للشباب حتى لا يجدوا أنفسهم يهربون من الفراغ إلى المخدرات.
وربما الأهم من كل ذلك هو إعادة الاعتبار لقيمة الوالدين في الوعي الجماعي. يجب أن تُروى القصص الإيجابية عن الأبناء البررة، وأن تُعرض في المدارس ووسائل الإعلام، حتى يشعر الشباب أن بر الوالدين ليس مجرد واجب ثقيل بل قيمة تمنح حياتهم معنى. كما يجب أن يُكشف الجانب المأساوي للعقوق الناتج عن الإدمان، عبر شهادات حية من أسر عاشت هذا الجحيم، لتكون عبرة لغيرها.
خاتمة
في النهاية، فإن عقوق الوالدين في العالم الإسلامي، وفي المغرب بشكل خاص، صار مرآة لخلل عميق في علاقتنا بقيمنا. الأقراص المهلوسة زادت الطين بلة وجعلت الأمر أكثر وحشية، لكن جذور المشكلة تمتد إلى الفقر والتفكك وغياب التوجيه. وإذا لم نتدارك الوضع، فإننا قد نجد أنفسنا أمام أجيال كاملة فقدت بوصلة الرحمة وفقدت احترامها لأقدس علاقة إنسانية، العلاقة بين الابن ووالديه. وما لم نضع هذه القضية في صميم السياسات التربوية والاجتماعية والأمنية، فإن المستقبل قد يحمل صورًا أكثر قتامة مما نراه اليوم.
في النهاية، فإن عقوق الوالدين في العالم الإسلامي، وفي المغرب بشكل خاص، صار مرآة لخلل عميق في علاقتنا بقيمنا. الأقراص المهلوسة زادت الطين بلة وجعلت الأمر أكثر وحشية، لكن جذور المشكلة تمتد إلى الفقر والتفكك وغياب التوجيه. وإذا لم نتدارك الوضع، فإننا قد نجد أنفسنا أمام أجيال كاملة فقدت بوصلة الرحمة وفقدت احترامها لأقدس علاقة إنسانية، العلاقة بين الابن ووالديه. وما لم نضع هذه القضية في صميم السياسات التربوية والاجتماعية والأمنية، فإن المستقبل قد يحمل صورًا أكثر قتامة مما نراه اليوم.