مشاريع المراحيض الذكية في المغرب: نموذج للتبذير بلا حسيب ولا رقيب في تدبير المال العام

مشاريع المراحيض بالمدن المغربية: كيف يهدر غياب الرقابة أموال المواطنين

 التبذير في المال العام هو أحد أكثر الظواهر التي تهدد استقرار المؤسسات وتضعف ثقة المواطنين في حكوماتهم. المال العام، الذي يُجمع من الضرائب والرسوم التي يدفعها المواطنون، هو ثروة مشتركة يجب أن تُدار بحكمة وشفافية لخدمة الصالح العام وتحقيق التنمية المستدامة. لكن عندما يتم صرف هذه الأموال بطريقة غير رشيدة، بدون حسيب أو رقيب، يتحول المال من أداة للنهوض بالمجتمع إلى عبء يفاقم من أزمات التنمية ويعزز الفساد والمحسوبية.
غياب الرقابة الفعالة على الأموال العامة يخلق بيئة خصبة للتبذير، حيث تُستخدم الميزانيات المخصصة للمشاريع العمومية في أمور غير ضرورية أو بمبالغ مبالغ فيها، أو تُهدر في مشاريع ذات جدوى منخفضة أو ذات جودة ضعيفة. هذا الأمر لا يقتصر فقط على سوء التخطيط أو ضعف الإدارة، بل في كثير من الأحيان يكون تعبيرًا عن فساد منظوم وغياب المسؤولية، حيث يتم التوقيع على عقود بمبالغ غير مبررة، ويتم منح صفقات للمقربين أو لأشخاص ذوي نفوذ دون مراعاة الشفافية أو الكفاءة.
من الأمثلة التي تشهد على ذلك في بعض المدن المغربية، ما يخص مشاريع مراحيض عامة تم تنفيذها بتكاليف مرتفعة جدا تفوق الواقع، مثل مشروع مراحيض ذكية في الرباط الذي بلغت تكلفة المرحاض الواحد فيه حوالي 1.8 مليون درهم، وهو مبلغ ضخم مقارنة بالاحتياجات الحقيقية لهذه المرافق. هذا النوع من المشاريع يثير الكثير من التساؤلات حول مدى استغلال المال العام بطريقة تحقق مصلحة حقيقية للمواطنين، أو أنها مجرد تكريس لمظاهر التبذير والرفاهية الزائدة دون فائدة ملموسة على أرض الواقع.
التبذير في المال العام يعكس ضعف أنظمة المراقبة والتدقيق، إذ لا توجد جهات مستقلة أو غير منحازة تقوم بالتحقق من مدى مطابقة النفقات للحاجيات الفعلية أو للمعايير المهنية. كثيرًا ما يتم الإعلان عن مشاريع ضخمة أو صفقات عامة، لكن دون وجود تقييم دقيق للأداء أو لنتائج هذه المشاريع بعد إنجازها، مما يفتح المجال للتلاعب في الأسعار أو التضخيم في التكاليف. غياب التدقيق المالي المستقل يجعل كل محاولة لمحاسبة المسؤولين عن هذه التجاوزات أمراً صعباً، ويساهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب.
أما من الناحية القانونية، فعدم وجود حسيب ورقيب يؤدي إلى تراجع الحوكمة الرشيدة في تدبير الشأن العام. لا يمكن أن تستقيم دولة أو مؤسسة بدون آليات واضحة للرقابة والمحاسبة تضمن عدم تحويل المال العام إلى أدوات للتكسب الشخصي أو للاستعراضات غير المجدية. في كثير من الأحيان، تُتخذ قرارات مالية كبيرة بناء على اعتبارات غير موضوعية، وفي غياب نقاش جاد أو شفافية، يصبح المال مجرد وسيلة للضغط السياسي أو لتحقيق مكاسب شخصية.
في مدن مغربية أخرى مثل الدار البيضاء وطنجة، تُلاحظ نفس الظاهرة رغم اختلاف التفاصيل. بعض المشاريع العمومية تنفذ بأثمان تفوق الحاجة أو تُدار بشكل لا يتناسب مع الموارد المتاحة. وهذا يتجلى مثلاً في المشاريع العقارية أو في الخدمات التي تقدمها البلديات، حيث تتضخم المصاريف دون مردودية حقيقية تُذكر. المشاكل لا تقتصر على جانب التكاليف فقط، بل تشمل أيضاً ضعف التخطيط وعدم وجود رؤية استراتيجية واضحة لمصلحة المواطنين.
من أهم العوامل التي تغذي التبذير غياب الشفافية في العمليات المالية، حيث لا يتم نشر تقارير مفصلة أو متابعة مستمرة لكيفية صرف الأموال. المواطن العادي لا يعرف مصير أمواله ولا يستطيع المشاركة في مراقبة المشاريع التي تستفيد منها من خلال واجهات ديمقراطية حقيقية. عندما يغيب الصوت الشعبي والمساءلة العامة، تصبح الفوضى المالية مسيطرة، ويزداد استغلال الأموال في مشاريع لا تخدم إلا مصالح ضيقة.
الفساد المالي يشكل حلقة متصلة مع التبذير، حيث إن توفر بيئة رديئة للرقابة يجعل من السهل على المسؤولين الفاسدين أن يستغلوا الثغرات القانونية والتنظيمية. بعض الفساد يظهر في منح صفقات غير شفافة أو في تغييرات غير مبررة في ميزانيات المشاريع، الأمر الذي يعزز الشعور بعدم العدالة في توزيع الموارد. هذا الوضع يؤثر سلبًا على التنمية المحلية ويزيد من شعور الإحباط لدى المواطنين الذين يرون أن أموالهم تُهدر دون أي جدوى.
من جهة أخرى، إن الاستهتار في إدارة المال العام لا يؤثر فقط على الوضع الاقتصادي، بل له تبعات اجتماعية وسياسية كبيرة. فالإحساس بأن الدولة لا تحسن تدبير مواردها يُضعف الثقة في المؤسسات ويقلل من الحماس للمشاركة في المشاريع التنموية أو دفع الضرائب. في النهاية، يكون المواطن هو الخاسر الأكبر، حيث تتراجع جودة الخدمات العامة، ويزداد الفقر والبطالة نتيجة ضعف الاستثمارات الموجهة للقطاعات الحيوية.
للحد من ظاهرة التبذير، لا بد من تعزيز آليات الرقابة والمحاسبة على جميع المستويات، من خلال إرساء مؤسسات رقابية مستقلة، ونشر التقارير المالية بطريقة شفافة وواضحة. كما يجب تعزيز دور المجتمع المدني ووسائل الإعلام في مراقبة الأداء الحكومي، وتمكين المواطنين من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم اليومية. الرقابة ليست فقط في المحاسبة بعد وقوع الأخطاء، بل تبدأ من مرحلة التخطيط والتنفيذ لضمان أن كل درهم يُصرف يخدم هدفًا واضحًا ومحددًا.
من المهم أيضًا تطوير نظام تشريعي يحمي المال العام بصرامة، مع فرض عقوبات رادعة على المتورطين في التبذير أو الفساد. ويجب أن تتوفر آليات لاسترداد الأموال المنهوبة وتقديم المسؤولين عنها للعدالة في أجواء من النزاهة والشفافية. هذا كله يساهم في بناء دولة مؤسسات قادرة على تحقيق التنمية العادلة والمستدامة.
في الختام، لا يمكن تحقيق التنمية الحقيقية إلا إذا تم استثمار المال العام بشكل مسؤول ومدروس، مع الالتزام بالشفافية والمحاسبة. التبذير بدون حسيب أو رقيب ليس فقط هدرًا للأموال، بل هو هدم للأسس التي يقوم عليها المجتمع والدولة. مسؤولية الجميع أن يطالبوا بمزيد من الصرامة في تدبير المال العام، لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
تعليقات