مارتشيكا ميد بين طموح التنمية وتضخم التكاليف: مشروع ضخم في مواجهة الواقع
مشروع مارتشيكا ميد في الناظور هو واحد من أضخم المشاريع التي أُطلقت في المغرب منذ بداية الألفية الثالثة، وتحديدًا سنة 2007، حيث أعطى الملك محمد السادس انطلاقته رسميًا وسط تغطية إعلامية كبيرة ووعود ضخمة بتغيير وجه المنطقة كليًا. الفكرة الأساسية كانت بسيطة على الورق لكنها طموحة بشكل كبير: تحويل بحيرة مارتشيكا، وهي بحيرة طبيعية ساحلية تمتد على أكثر من 115 كيلومتر مربع، إلى قطب سياحي وبيئي عالمي يجذب الاستثمارات الأجنبية ويخلق فرص شغل ضخمة ويدمج منطقة الناظور في مسار التنمية الوطنية الكبرى. هذا المشروع تم تقديمه كخطوة استراتيجية لتجاوز التهميش الذي عاشته المنطقة الشرقية لعقود. منذ البداية تم الترويج للمشروع على أنه سيكلف حوالي 26 مليار درهم، أي ما يعادل حوالي 2.6 مليار دولار، وهو رقم ضخم بالنظر إلى طبيعة المنطقة وسكانها وعدد المشاريع التنموية الأخرى التي كانت تتطلب تمويلًا آنذاك. المشروع لم يقتصر على إنشاء مرافق سياحية بل كان مزيجًا من سبعة محاور كبرى تشمل إنشاء كورنيشات راقية، موانئ ترفيهية، منتجعات فاخرة، فضاءات بيئية للتنزه، مسارات طبيعية، مجمعات سكنية فاخرة، قرى رياضية، وحتى إعادة تأهيل البنية التحتية البيئية للبحيرة ذاتها. المشروع خلق في البداية نوعًا من الحماس والأمل، حيث بدأت بعض الأشغال بالفعل مثل توسيع المدخل البحري للبحيرة، وإزالة كميات ضخمة من الأوحال والنفايات، وتهيئة كورنيش الناظور بشكل حديث، وكلها تحركات أعطت الانطباع بأن المشروع يسير على السكة الصحيحة. وكالة "تهيئة بحيرة مارتشيكا" أُنشئت خصيصًا لتدبير المشروع، وكانت خاضعة مباشرة للدولة، ثم تحولت فيما بعد إلى شركة مساهمة ذات طابع عمومي تحت اسم "مارتشيكا ميد"، وأوكلت لها مهام واسعة النطاق ليس فقط في التهيئة، ولكن أيضًا في التسويق العقاري والسياحي والتدخل البيئي. المشكلة بدأت في الظهور شيئًا فشيئًا بعد مرور السنوات الأولى، حين بدأت الوعود تصطدم بالواقع، فقد كان من المنتظر أن يتم الانتهاء من أولى مراحل المشروع في حدود سنة 2015، لكن معظم تلك المشاريع إما لم تبدأ أصلًا أو لم تكتمل، ومع ذلك استمرت أموال ضخمة في الصرف دون أن تقابلها إنجازات ملموسة. شُرع في بناء فنادق ومنتجعات لكن بعضها توقف أو لم يُستكمل، والبعض الآخر بُني ولم يشتغل يومًا. المارينا التي كان يُفترض أن تستقبل يخوتًا سياحية من الخارج لا تزال شبه فارغة، والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالمشروع بقيت محدودة وغير فعالة. الساكنة المحلية كانت تنتظر انتعاشًا اقتصاديًا ووظائف في قطاعات السياحة والبناء والخدمات، لكن الواقع أنهم لم يجنوا شيئًا تقريبًا، بل إن أغلب المشاريع التي شُيّدت في إطار مارتشيكا ميد كانت موجهة لطبقات ميسورة أو لمستثمرين أجانب، ولم تُراعِ الحاجيات الحقيقية لأبناء الناظور والمناطق المحيطة بها. وحتى وعود خلق 80 ألف منصب شغل، التي تم الترويج لها منذ بداية المشروع، تحوّلت إلى مجرد رقم دعائي لم يتحقق منه سوى القليل، ولم يُعلن عن أي حصيلة رسمية دقيقة بخصوص مناصب الشغل التي تحققت فعلًا. ورغم ضخامة المبلغ الذي صُرف، لم يتم نشر أي تقرير مالي واضح يشرح أوجه الصرف أو نسب الإنجاز، وهو ما زاد من الشكوك حول وجود اختلالات محتملة في تدبير الأموال. المفارقة العجيبة هي أن وكالة مارتشيكا ميد، بدلًا من أن تركز على استكمال الأشغال في الناظور، وسّعت أنشطتها نحو إفريقيا جنوب الصحراء، حيث وقعت اتفاقيات تعاون لإنجاز مشاريع في ساحل العاج ومدغشقر والكاميرون، وهو أمر أثار الكثير من الانتقادات، خاصة وأن المشروع الأصلي لا يزال في حالة توقف شبه تام في بعض مكوناته. هذا التوسع تم تبريره بكون الوكالة أصبحت فاعلًا إفريقيًا في التنمية الساحلية، لكن الواقع أن ساكنة الناظور لم ترَ أي نتائج ملموسة على الأرض، بل شهدت فقط تحول جزء كبير من البحيرة إلى ورش معلق منذ سنوات. ومع مرور الوقت، تحوّل المشروع إلى نقطة توتر بين المجتمع المدني والدولة، حيث بدأت تظهر أصوات تنتقد انعدام الشفافية والمحاسبة، وغياب أي إشراك فعلي للساكنة المحلية في صنع القرار. بعض الجمعيات البيئية عبّرت عن قلقها من التأثير السلبي لبعض الأشغال على التوازن البيئي للبحيرة، خاصة مع وجود عمليات ردم وجرف غير مدروسة، ومشاريع عقارية قد تُعرض النظام الإيكولوجي للخطر. وعلى المستوى الإعلامي، بدأت الصحافة المحلية تنقل تقارير وانتقادات متزايدة، تتحدث عن مشاريع مغلقة منذ بنائها، وملايين الدراهم التي صُرفت على تجهيزات مهجورة، ومسارات مشي لم تطأها قدم، وفضاءات خضراء نبت فيها الجفاف والإهمال. كما تم توجيه اتهامات إلى بعض الشركات التي استفادت من الصفقات دون إنجاز الأشغال المطلوبة بالشكل المناسب. من جهة أخرى، لا يمكن إنكار وجود بعض التحسينات في محيط البحيرة، مثل تنقية المياه في بعض الفترات، أو تهيئة الكورنيش الذي يُستعمل اليوم كمكان للتنزه من قبل السكان، لكن مثل هذه الإنجازات تُعد بسيطة مقارنة بالميزانية الضخمة التي أُنفقت والمشروع الضخم الذي وُعد به الناس. واليوم، وبعد مرور أكثر من 18 سنة على إعطاء الانطلاقة الرسمية للمشروع، تبدو الحصيلة مخيبة للآمال. فمارتشيكا ميد لم تحقق ما وُعد به، والمليارات التي تم ضخها لم تُترجم إلى تنمية حقيقية أو تغيير في حياة المواطنين، بل تحوّلت إلى مشروع طويل الأمد دون أفق زمني واضح لإنهائه، ودون محاسبة سياسية أو إدارية. لا وجود لتقارير مفصلة توضح ما تم صرفه فعلًا، ومن المسؤول عن تأخر الإنجاز، ولا توجد أي جهة رسمية قدمت تفسيرات موضوعية تُرضي الساكنة أو تُعيد لها الثقة. في نظر الكثيرين، أصبح المشروع مرآة لفشل السياسات التنموية المركزية التي تُفرض من الأعلى دون إشراك حقيقي للمواطنين، ويُنظر إليه كرمز للتفاوت بين الخطابات الرسمية والواقع الميداني. إنه مشروع كان يمكن أن يُشكل نموذجًا للنهضة، لكنه اليوم يُعد من الأمثلة البارزة على سوء التدبير، وغياب الرقابة، وتضييع الفرص. إنه درس مؤلم في كيف يمكن أن تتحول الطموحات الكبرى إلى سراب عندما يغيب التخطيط الواقعي، وتُهمل الكفاءة، وتُحتكر القرارات من طرف فئة قليلة دون مراقبة أو محاسبة.