تحقيق شامل حول مأذونيات وُهبت من طرف الديوان الملكي وتم تحويلها إلى مستفيدين غير شرعيين.

تحقيق شامل: التلاعب بمأذونيات النقل "لاكريما" في المغرب.. بين الأمل والفساد

مقدمة:

مأذونيات النقل، المعروفة اختصارًا بـ"لاكريما"، بدأت في المغرب كآلية تضامنية تهدف إلى مساعدة الفئات المعوزة، خصوصًا الأرامل، المعاقين، واليتامى، عبر تمكينهم من رخص استغلال سيارات الأجرة كمورد عيش كريم. إلا أن هذه الآلية النبيلة تحوّلت عبر السنوات إلى إحدى أكثر بؤر الفساد وضوحًا في البلاد، حيث تم السطو على العشرات من هذه المأذونيات من مستحقيها الأصليين، خصوصًا الضعفاء والمعاقين، لصالح نافذين ومسؤولين كبار.
هذا التحقيق يغوص في التفاصيل الدقيقة لهذا الملف، ويسلط الضوء على آليات التلاعب، الأسماء المتورطة، التواطؤ الإداري، والواقع الذي يعيشه أصحاب الحقوق المهضومة.
انطلقت سياسة منح مأذونيات النقل في المغرب كمبادرة ملكية ذات طابع اجتماعي، يوقعها الديوان الملكي بناء على طلبات أو توصيات، وغالبًا ما يتم تخصيصها لذوي الاحتياجات الخاصة، أرامل شهداء الجيش، المعوزين وغيرهم من الفئات الهشة. ومع الوقت، توسّعت قائمة المستفيدين لتشمل أسماء من عالم الفن، الرياضة، وحتى السياسة، ما أفرغها من بعدها الاجتماعي.
من بين أبرز الحوادث التي تكشف فداحة التلاعب، حادثة المعاقين بأسفي الذين منحتهم الأميرة لالة مريم مأذونية نقل سنة 2001. المعاقان، أحدهما مصاب بإعاقة عقلية والآخر بشلل تام، سُلّمت لهما رخصة رسمية بدافع إنساني. لكن، وبكل وقاحة، تم السطو عليها من قبل أطراف إدارية محلية.
والدهما، الذي تحدث لوسائل إعلام وطنية، سرد كيف طُرد من مكاتب العمالة حين طالب بحقه، بل رُفض تسليمه نسخة من الوثيقة رغم أن اسم ابنيه مسجل لدى الولاية. هذه الحادثة المؤلمة ليست معزولة، بل مجرد نموذج لنهب منظم يطال هبات ملكية نُصبت لأجل المعاقين والضعفاء.
في أبريل 2022، فجّر البرلماني عزّ الدين زكري فضيحة من العيار الثقيل، إذ كشف أن شخصًا واحدًا بمراكش يستحوذ على 200 مأذونية نقل. المثير في الأمر أن هذا الشخص يتلقى شهريًا دعما حكوميا للوقود يتجاوز 320,000 درهم، رغم أنه لا يقود أية سيارة أجرة بنفسه، بل يؤجرها لعشرات السائقين.
وقد تساءل الرأي العام: كيف سُمِح لهذا الشخص بجمع هذا الكم من الرخص، بينما يعاني الآلاف من السائقين الحقيقيين من البطالة؟ أين الرقابة؟ وأين الدولة من هذا العبث؟
في مدينة المضيق، الواقعة شمال المغرب، ظهرت شبكات سمسرة محترفة، يُطلق عليها محليًا بـ"أصحاب الحلاوة"، تتوسط لدى الديوان الملكي أو رجال السلطة في الرباط، مقابل عمولات ضخمة تتراوح بين 5 إلى 30 مليون سنتيم.
بعض السماسرة يوهمون المواطنين بلقاءات مباشرة مع الملك محمد السادس أو وعد بمنح مأذونية، شرط دفع مبالغ مالية ضخمة. في الغالب، يكون الضحية من الفقراء الباحثين عن قشة للنجاة، ليجدوا أنفسهم بعد أشهر ضحية نصب واحتيال ممنهج.
كشفت وثائق مسربة من الخميسات أن بعض أصحاب المأذونيات يعمدون إلى توقيع عقد كراء رسمي مع سائق، ثم يوقعون عقدًا موازيًا مع سائق آخر، دون علم الأول، مما يخلق نزاعات قانونية وتواطؤًا مع مسؤولي العمالة.
النتيجة؟ يُطرد السائق الأول دون تعويض، فيما يُهدَّد بعدم التجديد أو يُفرض عليه إتاوات شهرية مرتفعة. في بعض الحالات، تدخلت جمعيات حقوقية، لكن أغلب القضايا انتهت دون محاسبة تذكر.
العمالات، باعتبارها الجهة التنفيذية المكلفة بتفعيل المأذونيات، متورطة في جزء كبير من هذا الفساد. في حالات عديدة، تم رفض تسليم مأذونيات مصادق عليها من الديوان الملكي بدعوى أن "الرخصة غير متوفرة حاليًا"، ليتم لاحقًا اكتشاف أنها سُلّمت لشخص آخر.
في حالات أخرى، يُستقبل المستفيدون الحقيقيون ببرود أو رفض، في حين يُسهَّل حصول أشخاص ذوي نفوذ على رخصهم في ظرف أيام.
السائق المهني، الذي يفترض أن يكون المستفيد الرئيسي من مأذونية النقل، يعيش اليوم بين مطرقة الإيجار المرتفع وسندان الطرد التعسفي. هؤلاء يطالبون بإلغاء نظام المأذونيات نهائيًا، وتعويضه بنظام امتياز أو شركات مواطِنة.
في تصريحات عديدة، قال السائقون إنهم يعملون لصالح مالك المأذونية فقط، حيث يدفعون ما بين 200 و400 درهم يوميًا، دون أي حماية اجتماعية، ودون الاستفادة من دعم الوقود أو تأمين صحي.
في السنوات الأخيرة، بدأ الحديث عن إصلاح شامل لقطاع سيارات الأجرة. بعض المقترحات تضمنت:
* تحويل الرخص إلى امتيازات قانونية عبر عقود محددة المدة.
* إلغاء دعم المحروقات لصالح الدعم المباشر للسائق.
* تقنين العقود وإلزام المالك بتسجيلها لدى الجهات المعنية.
* رقمنة القطاع عبر تطبيقات مراقبة شفافة.
توصيات التحقيق:
* إعادة المأذونيات إلى مستحقيها الحقيقيين، خصوصًا المعاقين والضعفاء.
* محاسبة كل مسؤول إداري أو منتخب شارك في تزوير أو عرقلة استفادة قانونية.
* نشر قاعدة بيانات وطنية شفافة للمستفيدين من المأذونيات.
* سن قانون يُنهي نظام الريع ويُحدث شركات نقل مواطِنة.
خاتمة:
ملف مأذونيات النقل "لاكريما" يكشف وجها مظلمًا من الفساد المؤسساتي في المغرب، حيث تُنتهك حقوق فئات هشة من المجتمع لصالح قلة محظوظة ونافذة. لا يكفي أن ننظر إليه كظاهرة فساد تقليدي، بل يجب اعتباره أحد أبرز الملفات الأخلاقية التي تحتاج لثورة إصلاح حقيقية.
يبقى الأمل في أن يتحرك القضاء، وتستيقظ المؤسسات، لاستعادة حقوق من وُعدوا بحياة كريمة، فخُدعوا وسُلبوا، تحت صمت رسمي طويل.
1. خلفية تاريخية لنظام "لاكريما
2. مأساة المعاقين والضعفاء: هبات ملكية تُنهب جهارًا
3. قضية 200 مأذونية بمراكش: مافيا منظمة داخل الإدارة
4. المضيق: سماسرة "الحلاوة" ومزادات لاكريما
5. الخميسات: عقد إيجار مزدوج وابتزاز السائقين
6. دور السلطات والعمالات: تواطؤ صريح أو صمت مريب
7. لماذا يرفض السائقون النظام الحالي؟
8. محاولات الإصلاح.. هل آن أوان التغيير؟
إلا أن هذه المقترحات تواجه مقاومة شديدة من لوبيات لا تزال تستفيد من الفوضى.


تعليقات