في حضن االعرائش ذكريات أبت أن تفارق ذهني مهما طال الزمان
غادرت مدينة شفشاون عند الرابعة صباحًا متجهًا إلى مدينة تطوان. وكان الليل يتمخّض عن مولد يوم جميل. جلستُ وحدي قرب نافذة الحافلة، فبدأ الظلام يزول وبدأ النور ينتشر بخطى عليلة، ويكشف أسرار الخالق المتجلية في طبيعة المكان وروعة جماله، إذا تمعّنت في الصورة أعلاه مثل شيخ نائم على تلة ينظر إلى السماء، فتشمل عظمة الله ما بين الأرض والسماء.
من زار هذا المكان لابد أن يتأثر بكل شيء وهبه الله لهذه المنطقة: طبيعتها، خيراتها، ناسها وكرمهم لعابر السبيل. تمنيت لو ظلت الحافلة تسير دون توقف، لكنها مسألة زمن، والزمن لن يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وصلت الحافلة إلى مدينة تطوان في الصباح.
هذه هي مدينة تطوان. قد لا تميز بين المدينتين من خلال الصور، إلا أن البحر يميز تطوان ويزيدها جمالًا واستقطابًا للسياح من كل ربوع العالم. نزلتُ من الحافلة وبدأت أكتشف المكان. وجدت بائعي السلع المهرّبة من إسبانيا، فسألتُ أحدهم فأرشدني إلى مكان سأتجه إليه فيما بعد، وفي نفس اليوم. ثم قال لي: "عد إلى هنا عند منتصف النهار".
حين عدت، كان المكان ممتلئًا بالزوار والمشترين. فحمل صحنًا وبدأ يلفّ به على كل البائعين، وجمع لي 22 درهمًا، وأعطاني ثلاث لترات من الشامبوان. شكرته وودّعته، ثم اشتريت تذكرة إلى مدينة العرائش. ركبت الحافلة من جديد، فسارت تطوي الأرض عبر الزمن، فيختفي كل ما تركته ورائي، لكني في نفس الوقت كنت أدخل في عالم جديد عليّ، حتى وصلنا إلى مدينة العرائش عند المغرب.
أردتُ المبيت في أحد المساجد، لكن المؤذن رفض. فتركته وغادرت قاصدًا هامش المدينة، حيث كان هناك مشروع بناء مدرسة آنذاك، وكان في المكان بيوت قد تكون للعمال. رأيت ضوءًا خافتًا من بعيد، فقصدته ولا أعلم إلى أين يقودني مصيري. ناديت من بعيد: "يا سيدي يا محمد!"، ففتح الباب وفي الحال عرف قصدي، فأدخلني وأعطاني نقودًا وقال لي: "اذهب إلى هناك، ستجد دكانًا، اشترِ منه خبزتين وأربع بيضات، وارجع إلى هنا".
اشتريت ما أمرني به، ثم عدت. دخلت، وكان هناك رجلان يعملان في البناء، ولم يكونا من سكان المنطقة. بدأنا الحديث، وكان أحدهم يطبخ لي البيض في زيت الزيتون. عرفوا من أكون، وعرفت أنهم من مدينة الناس الطيبين الكرماء، أرض وُلد فيها رجال قلَّ مثيلهم، أرض الكفاح والنضال: إنها مدينة الحسيمة.
بِتّ مع أبناء الحسيمة الليلة الأولى بالعرائش. وفي الصباح الباكر، ذهبا إلى العمل، أما أنا فتركت متاعي في البيت وذهبت أبحث عن عمل. كل مكان طلبت فيه شغلًا ردّوني خائبًا، وقالوا لي: "أنت لازلت صغيرًا، لا تقدر على شيء".
وعند منتصف النهار، ذهبت إلى البحر، وبقيت هناك بعض الوقت لأستريح من كثرة السير. شعرت بالجوع والعطش، وسِرتُ هائمًا أتدبّر أمورًا في رأسي: كيف سأحصل على الأكل والماء؟ وبينما أنا أمشي، شممت رائحة عزيزة على المغاربة كلهم، ألا وهي رائحة الخبز الساخن في الفرن. كان لا يزال بعيدًا، لكني شممته لأن سيدة مرت من قربي وكانت تحمل الخبز.
فقلت في نفسي: "عليّ اتباع الطريق التي جاءت منها هذه السيدة". مرّت سيدة أخرى ورجل أيضًا، وإذا بي أجد نفسي أمام باب الفرن، لكني تراجعت بعيدًا شيئًا ما، وبقيت أنظر إلى الناس، وأُميّز بين من يمكنني أن أطلب منه كسرة خبز، ومن يجب أن أتجنّبه...
فمرّ بجانبي طفل في عمر العشر سنوات، فطلبت منه بصوت خافت أن يعطيني خبزًا. فنظر إليّ وأومأ برأسه بلا. احمرّ وجهي، ونظرتُ حولي، ولم يكن أحد يراني سوى الله، وسيدة كانت تراقبني منذ وصلت. في تلك اللحظة رأيتها تنظر إليّ، فنادتني قائلة: "تعالَ يا ولدي".
كانت سيدة في الرابعة والثلاثين، وسيمة وحنونة، متزوجة، وكان زوجها في العمل. فلما وصلت إلى الباب، قبّلتني في وجهي، وكأنها كانت متأثرة بما رأته. أدخلتني غرفة الطعام، وجاءت بصحن كسكس مغربي وقالت: "هذا كنت قد تركته لزوجي، لكن لا عليك، سأحضر له غيره".
كنت خائفًا أن جاء زوجها، هل سيضربني؟ أم سيقتلني؟ وبينما أنا أتهيأ لبدء الأكل، بسم الله، الملعقة الأولى... سمعت المفاتيح في الباب. ثم دخل الرجل، وكنت أنظر إليه وهو ينظر إليّ من بعيد، وكانت الملعقة الأولى واقفة ما بين الصحن وفمي. لم تصل من الخوف.
لكنه دخل الغرفة، وجاء ليسلّم علي. مددت يدي، فشدّني ليعانقني، وضمني إلى صدره لوهلة. ثم جلس وهو مبتسم، وقال لزوجته: "آتيني بملعقة، أشرك الطعام مع هذا الرجل الصغير". أكلنا، ثم أتت السيدة بالشاي، وقالت لي: "هل تريده باردًا؟"
قلت: "شيئًا ما".
فأخذت تبرده، وأنا أنظر إليها وتذكرت أمي، لأنها هي أيضًا تفعل نفس الشيء معنا.
شربنا الشاي، وكانا يسألاني من أجل التعارف، وكنت أجيب لأن كلامهما أعجبني، وكان مختلفًا عن المدن الداخلية. أردت توديعهما، فقالت لي السيدة: "ابقَ معنا."
اعتذرت منها، وقلت: "لا يمكنني، فصديقيّ سيأتيان عند الساعة الخامسة، ولن يجداني إن لم أكن هناك، وقد تركت متاعي معهما."
قالت لي: "اسمع، لن أسامحك إن احتجت شيئًا ولم تأتِ إلي. اعتبرني أمك."
قلت لها: "بالطبع، أنت أمي، وهذا الرجل أبي، وقد أحببتكما مثل والدي، وأشكركما جزيل الشكر على معاملتكما الطيبة لي."
فعانقتهما عناقًا حارًا، وأحسست بالدموع تنساب من عيني، كما لو أنني لن أراهما مجددًا.
ثم خرجت وأنا أُداري دمعي، ولما ابتعدت قليلاً التفتّ، وقد أطلقت العنان للبكاء، فإذا بي أراها واقفة في الباب. ثم التفتّ أمامي، وأكملت السير قاصدًا أصدقائي. سرحت أفكر في تلك السيدة وزوجها. وفي ذلك السن، لم أرَ عندهم أولادًا، ولا شيئًا يدل على وجود أولاد في ذلك البيت. فظننت أن أحدهما عاقر. لكني أحببتهما، ولن أنساهما من ذاكرتي ما حييت. وقد حدث هذا منذ حوالي ثلاثين سنة، ولم أفقد ذكراهما. جزاهما الله خيرًا.
فكرت أن أصدقائي سيسألاني لماذا احمرّت عيناي، لأنني كنت أبكي. فبحثت عن الماء وغسلت وجهي، ومرت حوالي 20 دقيقة، ثم أكملت السير، فوجدتهما هناك. طرقت الباب، ثم دخلت وسلّمت عليهما، وكان أحدهما قد جهّز الشاي. شربت معهما، ثم خرجت أمام الباب وأشعلت سيجارة، وأطلقت النظر، كان المكان بعيدًا عن السكان بحوالي كيلومتر.
فكرت في التكلّم مع أصدقائي، وأطلب منهما أن يشغلاني معهما ولو ليوم واحد، على الأقل لأكمل طريقي. قبِلا طلبي، وفي الغد ذهبت معهما، واشتغلت يومًا واحدًا. وفي اليوم الموالي، سافرت إلى مدينة القصر الكبير.
يتبع...
من زار هذا المكان لابد أن يتأثر بكل شيء وهبه الله لهذه المنطقة: طبيعتها، خيراتها، ناسها وكرمهم لعابر السبيل. تمنيت لو ظلت الحافلة تسير دون توقف، لكنها مسألة زمن، والزمن لن يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وصلت الحافلة إلى مدينة تطوان في الصباح.
هذه هي مدينة تطوان. قد لا تميز بين المدينتين من خلال الصور، إلا أن البحر يميز تطوان ويزيدها جمالًا واستقطابًا للسياح من كل ربوع العالم. نزلتُ من الحافلة وبدأت أكتشف المكان. وجدت بائعي السلع المهرّبة من إسبانيا، فسألتُ أحدهم فأرشدني إلى مكان سأتجه إليه فيما بعد، وفي نفس اليوم. ثم قال لي: "عد إلى هنا عند منتصف النهار".
حين عدت، كان المكان ممتلئًا بالزوار والمشترين. فحمل صحنًا وبدأ يلفّ به على كل البائعين، وجمع لي 22 درهمًا، وأعطاني ثلاث لترات من الشامبوان. شكرته وودّعته، ثم اشتريت تذكرة إلى مدينة العرائش. ركبت الحافلة من جديد، فسارت تطوي الأرض عبر الزمن، فيختفي كل ما تركته ورائي، لكني في نفس الوقت كنت أدخل في عالم جديد عليّ، حتى وصلنا إلى مدينة العرائش عند المغرب.
أردتُ المبيت في أحد المساجد، لكن المؤذن رفض. فتركته وغادرت قاصدًا هامش المدينة، حيث كان هناك مشروع بناء مدرسة آنذاك، وكان في المكان بيوت قد تكون للعمال. رأيت ضوءًا خافتًا من بعيد، فقصدته ولا أعلم إلى أين يقودني مصيري. ناديت من بعيد: "يا سيدي يا محمد!"، ففتح الباب وفي الحال عرف قصدي، فأدخلني وأعطاني نقودًا وقال لي: "اذهب إلى هناك، ستجد دكانًا، اشترِ منه خبزتين وأربع بيضات، وارجع إلى هنا".
اشتريت ما أمرني به، ثم عدت. دخلت، وكان هناك رجلان يعملان في البناء، ولم يكونا من سكان المنطقة. بدأنا الحديث، وكان أحدهم يطبخ لي البيض في زيت الزيتون. عرفوا من أكون، وعرفت أنهم من مدينة الناس الطيبين الكرماء، أرض وُلد فيها رجال قلَّ مثيلهم، أرض الكفاح والنضال: إنها مدينة الحسيمة.
بِتّ مع أبناء الحسيمة الليلة الأولى بالعرائش. وفي الصباح الباكر، ذهبا إلى العمل، أما أنا فتركت متاعي في البيت وذهبت أبحث عن عمل. كل مكان طلبت فيه شغلًا ردّوني خائبًا، وقالوا لي: "أنت لازلت صغيرًا، لا تقدر على شيء".
وعند منتصف النهار، ذهبت إلى البحر، وبقيت هناك بعض الوقت لأستريح من كثرة السير. شعرت بالجوع والعطش، وسِرتُ هائمًا أتدبّر أمورًا في رأسي: كيف سأحصل على الأكل والماء؟ وبينما أنا أمشي، شممت رائحة عزيزة على المغاربة كلهم، ألا وهي رائحة الخبز الساخن في الفرن. كان لا يزال بعيدًا، لكني شممته لأن سيدة مرت من قربي وكانت تحمل الخبز.
فقلت في نفسي: "عليّ اتباع الطريق التي جاءت منها هذه السيدة". مرّت سيدة أخرى ورجل أيضًا، وإذا بي أجد نفسي أمام باب الفرن، لكني تراجعت بعيدًا شيئًا ما، وبقيت أنظر إلى الناس، وأُميّز بين من يمكنني أن أطلب منه كسرة خبز، ومن يجب أن أتجنّبه...
فمرّ بجانبي طفل في عمر العشر سنوات، فطلبت منه بصوت خافت أن يعطيني خبزًا. فنظر إليّ وأومأ برأسه بلا. احمرّ وجهي، ونظرتُ حولي، ولم يكن أحد يراني سوى الله، وسيدة كانت تراقبني منذ وصلت. في تلك اللحظة رأيتها تنظر إليّ، فنادتني قائلة: "تعالَ يا ولدي".
كانت سيدة في الرابعة والثلاثين، وسيمة وحنونة، متزوجة، وكان زوجها في العمل. فلما وصلت إلى الباب، قبّلتني في وجهي، وكأنها كانت متأثرة بما رأته. أدخلتني غرفة الطعام، وجاءت بصحن كسكس مغربي وقالت: "هذا كنت قد تركته لزوجي، لكن لا عليك، سأحضر له غيره".
كنت خائفًا أن جاء زوجها، هل سيضربني؟ أم سيقتلني؟ وبينما أنا أتهيأ لبدء الأكل، بسم الله، الملعقة الأولى... سمعت المفاتيح في الباب. ثم دخل الرجل، وكنت أنظر إليه وهو ينظر إليّ من بعيد، وكانت الملعقة الأولى واقفة ما بين الصحن وفمي. لم تصل من الخوف.
لكنه دخل الغرفة، وجاء ليسلّم علي. مددت يدي، فشدّني ليعانقني، وضمني إلى صدره لوهلة. ثم جلس وهو مبتسم، وقال لزوجته: "آتيني بملعقة، أشرك الطعام مع هذا الرجل الصغير". أكلنا، ثم أتت السيدة بالشاي، وقالت لي: "هل تريده باردًا؟"
قلت: "شيئًا ما".
فأخذت تبرده، وأنا أنظر إليها وتذكرت أمي، لأنها هي أيضًا تفعل نفس الشيء معنا.
شربنا الشاي، وكانا يسألاني من أجل التعارف، وكنت أجيب لأن كلامهما أعجبني، وكان مختلفًا عن المدن الداخلية. أردت توديعهما، فقالت لي السيدة: "ابقَ معنا."
اعتذرت منها، وقلت: "لا يمكنني، فصديقيّ سيأتيان عند الساعة الخامسة، ولن يجداني إن لم أكن هناك، وقد تركت متاعي معهما."
قالت لي: "اسمع، لن أسامحك إن احتجت شيئًا ولم تأتِ إلي. اعتبرني أمك."
قلت لها: "بالطبع، أنت أمي، وهذا الرجل أبي، وقد أحببتكما مثل والدي، وأشكركما جزيل الشكر على معاملتكما الطيبة لي."
فعانقتهما عناقًا حارًا، وأحسست بالدموع تنساب من عيني، كما لو أنني لن أراهما مجددًا.
ثم خرجت وأنا أُداري دمعي، ولما ابتعدت قليلاً التفتّ، وقد أطلقت العنان للبكاء، فإذا بي أراها واقفة في الباب. ثم التفتّ أمامي، وأكملت السير قاصدًا أصدقائي. سرحت أفكر في تلك السيدة وزوجها. وفي ذلك السن، لم أرَ عندهم أولادًا، ولا شيئًا يدل على وجود أولاد في ذلك البيت. فظننت أن أحدهما عاقر. لكني أحببتهما، ولن أنساهما من ذاكرتي ما حييت. وقد حدث هذا منذ حوالي ثلاثين سنة، ولم أفقد ذكراهما. جزاهما الله خيرًا.
فكرت أن أصدقائي سيسألاني لماذا احمرّت عيناي، لأنني كنت أبكي. فبحثت عن الماء وغسلت وجهي، ومرت حوالي 20 دقيقة، ثم أكملت السير، فوجدتهما هناك. طرقت الباب، ثم دخلت وسلّمت عليهما، وكان أحدهما قد جهّز الشاي. شربت معهما، ثم خرجت أمام الباب وأشعلت سيجارة، وأطلقت النظر، كان المكان بعيدًا عن السكان بحوالي كيلومتر.
فكرت في التكلّم مع أصدقائي، وأطلب منهما أن يشغلاني معهما ولو ليوم واحد، على الأقل لأكمل طريقي. قبِلا طلبي، وفي الغد ذهبت معهما، واشتغلت يومًا واحدًا. وفي اليوم الموالي، سافرت إلى مدينة القصر الكبير.
يتبع...