من ملامح بريئة إلى جرائم لا تُغتفر: الوجه الآخر لمحمد بيجه
كان محمد بيجه يعيش حياةً عادية على السطح في إحدى الضواحي الجنوبية لطهران، تحديدًا في منطقة باكداشت، وهي منطقة ريفية يسكنها الفقراء والمهمشون، كثير منهم من اللاجئين الأفغان أو العائلات الإيرانية ذات الدخل المحدود. لم يكن أحد يتوقع أن ذلك الشاب الهادئ، الذي يعمل في مصنع للدواجن، يخفي وراء ملامحه البسيطة واحدة من أبشع النزعات الإجرامية التي عرفتها إيران في تاريخها الحديث. بدا كأي شخص آخر؛ لا يلفت الانتباه، لا يملك ماضٍ إجرامي ظاهر، وكان حتى محبوبًا من بعض زملائه. لكنه في داخله كان يتحول تدريجيًا إلى وحش، يخطط، يراقب، ويختار ضحاياه بعناية، ثم ينفذ جرائمه دون أي رحمة. لم يكن لطفولته دور صغير في هذا التحول، فقد نشأ في أسرة فقيرة، وكان يتعرض للضرب والإهمال منذ صغره، وقال بعض جيرانه إنه كان يعاني من نوبات غضب وعزلة، ولم يكن يكوّن صداقات بسهولة، لكنه لم يظهر أي سلوك عنيف علني قبل أن يبدأ في ارتكاب الجرائم. لم يكن أحد مستعدًا لتصديق أن هذا الشاب المتواضع سيتحوّل إلى قاتل متسلسل للأطفال. في البداية لم يشك أحد في شيء، فقد كان المجتمع يمر بظروف اقتصادية صعبة، وكثير من الأطفال يخرجون إلى الحقول أو الشوارع ولا يعودون لساعات طويلة، والبعض ربما يفرون من منازلهم بسبب الفقر أو العنف المنزلي. لذا لم يُنظر إلى أولى حالات الاختفاء بجدية، لكن عندما بدأت تتكرر، أصبح الصمت مستحيلاً. بدأت أولى جرائمه في أوائل عام 2004، حين اختفى طفل من أبناء الجيران في ظروف غامضة. لم تكن الأسرة تملك أدنى فكرة عن ما حدث، اعتقدوا أنه ربما ضل طريقه في الحقول أو ذهب بعيدًا للعب. لكن مع مرور الوقت، بدأ الأطفال يختفون واحدًا تلو الآخر. كلهم من نفس الفئة العمرية تقريبًا، صبية تتراوح أعمارهم بين 8 و15 عامًا، معظمهم من أبناء الطبقات الفقيرة الذين يذهبون للعمل أو اللعب في الحقول المجاورة. كانت العائلات تعيش حالة من الذعر، والسلطات لم تكن تملك أي خيوط واضحة. لم يكن هناك أثر، لم تُكتشف أي جثة، ولم يكن هناك شاهد واحد يؤكد رؤيته لشيء غير عادي. في الحقيقة، كان محمد بيجه يستخدم أسلوبًا شيطانيًا في تنفيذ جرائمه. كان يستدرج الأطفال بسهولة بحجة مساعدته في صيد الأرانب أو مرافقتهم إلى الصحراء لمغامرة قصيرة. الأطفال، بدافع الفضول أو الجهل، كانوا يوافقون دون تردد. وعندما يبتعد بهم عن الأنظار، يبدأ بفعلته. في كل مرة كان يصطحب ضحيته إلى منطقة معزولة في الصحراء، ويقوم أولًا بتكبيل الطفل أو ضربه بحجر كبير على الرأس لإفقاده الوعي. بعدها، كان يغتصب الطفل ثم يقتله خنقًا أو بضربة أخرى قاتلة. الجثث كان يدفنها بطرق بدائية، أحيانًا في قبور ضحلة وأحيانًا يخفيها تحت جثث لحيوانات نافقة مثل الكلاب أو القطط لتشتيت الكلاب البوليسية وتضليل السلطات التي بدأت تشك أن هناك أمرًا خطيرًا يحدث. الغريب في الأمر أن بيجه لم يكن يعمل بمفرده في بعض الجرائم. كان معه أحيانًا شاب آخر يُدعى قربان علي، شاركه في عدة عمليات، إما بمساعدة في الاستدراج أو بالتخلص من الجثث. ومع ذلك، فإن بيجه كان العقل المدبر والفاعل الرئيسي. كان يسجل تفاصيل جرائمه بدقة في ذاكرته، بل وتفاخر لاحقًا أمام الشرطة بأنه كان سيستمر حتى يصل إلى قتل 100 طفل لو لم يُلقَ القبض عليه. ولم يكن هذا من باب التهديد، بل كان مؤمنًا بما يقول، وبارد المشاعر إلى حد الجنون. لم يكن يشعر بالذنب، وكان يبتسم أثناء التحقيق، يروي التفاصيل وكأنه يروي قصة خيالية، خالية من المشاعر، خالية من أي شعور بالتوبة أو التأثر. مرت الشهور وعدد الضحايا في ازدياد، دون أي تقدم حقيقي في التحقيقات. وصلت الشكوك إلى بعض المسؤولين المحليين، لكن لم يكن هناك دليل مادي على وجود قاتل متسلسل. بعضهم اعتقد أن الأطفال يتعرضون للاختطاف من قبل عصابات تهريب البشر أو الاتجار بالأعضاء. إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان. أحد الأطفال الذين حاول بيجه الاعتداء عليهم تمكن من الفرار، وذهب مباشرة إلى أسرته التي أبلغت الشرطة. تم إحضار الطفل الذي تعرف بدقة على محمد بيجه، بل وحدد المكان الذي اقتاده إليه. لم تمضِ أيام قليلة حتى ألقي القبض على بيجه، وأثناء التحقيق، اعترف فورًا بكل شيء دون أي تردد. بل كان يروي تفاصيل جرائمه وكأنه يتحدث عن فيلم شاهده، بلا ندم، بلا تأثر، فقط برغبة في الحديث. اعترف بأنه قتل واغتصب أكثر من 21 طفلًا على الأقل، ودفن جثثهم في عدة أماكن بالصحراء. أشار إلى مواقع محددة، وعند الحفر وجدت الشرطة فعلاً الجثث، بعضها في مراحل تحلل متقدمة، والبعض الآخر كان لا يزال بحالة تسمح بالتعرف عليه. كان المشهد مفجعًا. أُصيب المحققون بالذهول من حجم الجريمة، ومن التنظيم الذي كان يتبعه هذا المجرم دون أن يترك خلفه أي دليل مادي. جرت محاكمته بسرعة بسبب بشاعة الجرائم، وأُدين بجميع التهم التي شملت القتل، الاغتصاب، الخطف، وتعذيب الأطفال. كان الحكم صارمًا ومزدوجًا: الجلد مئة جلدة أمام العامة، ثم الإعدام شنقًا في ساحة عامة في المدينة نفسها التي ارتكب فيها جرائمه، باكداشت. في صباح يوم 16 مارس 2005، تجمّع أكثر من خمسة آلاف شخص، من بينهم أهالي الضحايا، رجال الشرطة، طواقم إعلامية، وأطفال كانوا شهودًا على لحظة العدالة. جُلب بيجه مكبلًا، وسط صيحات الغضب والدموع. قبل تنفيذ الحكم، جُلد أمام الحضور، وكان أحد أهالي الضحايا قد تقدم ليطعنه بسكين صغيرة في ظهره. لم يظهر على بيجه أي تأثر، وكأن جسده لم يعد يشعر بشيء. ثم رُفع إلى حبل المشنقة عبر رافعة حديدية، وتُرك جسده يتأرجح أمام أنظار الناس، الذين أخذوا يهللون ويكبرون ويهتفون بأن العدالة قد تحققت. لم تكن تلك النهاية فقط لمحمد بيجه، بل كانت لحظة فاصلة في الوعي المجتمعي الإيراني. انتشرت قصته في الإعلام بشكل واسع، وأصبحت مادة للوثائقيات والمقالات، كما دُرّست في دورات تدريب الشرطة الجنائية. طرح المجتمع تساؤلات حادة حول مدى فعالية نظام الحماية للأطفال، وعن تقصير السلطات المحلية في ملاحظة اختفاء هذا العدد الكبير من الأطفال قبل اتخاذ أي إجراءات حقيقية. تساءل الناس كيف يمكن أن يعيش شخص بهذه الدرجة من الإجرام بيننا دون أن يلاحظه أحد، دون أن يشك به أحد. بعد إعدامه، ظهرت شهادات عدة من معارفه السابقين تفيد بأنه كان يعاني منذ صغره من اضطرابات نفسية، وشهد العنف في منزله مبكرًا، حيث تعرّض للضرب والإهمال. البعض قال إنه ربما كان قد تعرّض لاعتداء جنسي وهو طفل، وأن ذلك ساهم في تكوين شخصيته الإجرامية. ومع ذلك، لم يكن أي من ذلك مبررًا لما فعله، فالطريقة التي ارتكب بها جرائمه تدل على وعي كامل، وتنظيم، وإصرار، بل وشغف مرضي بإيذاء الأطفال. في النهاية، بقي اسم محمد بيجه محفورًا في الذاكرة الجماعية للإيرانيين كرمز للرعب، وجعل الأهل يحرصون على أطفالهم أكثر من أي وقت مضى. قصته لم تكن مجرد مأساة، بل تحذير دائم بأن الشر لا يملك دائمًا وجهًا قبيحًا، بل قد يختبئ خلف ملامح عادية، في شارعك، في حيّك، أو ربما خلف ابتسامة شخص تراه كل يوم، وقد لا تتخيل أبدًا ما يمكن أن يكون داخله من ظلام لا حدود له.