تركت المدرسة... فدرّستني الحياة
السلام عليكم
في سنة 1983، تركتُ الدراسة من القسم الرابع إعدادي، والتحقتُ بمركز التأهيل الفلاحي ببئر مزوي قرب وادي زم. كنتُ داخليًا، أنام وآكل في المركز من يوم الاثنين إلى يوم الخميس، ثم نعود إلى بيوتنا.
في أول يوم لي، انطفأت الإنارة وهممنا بالنوم، فإذا بأحدهم يبدأ بالضحك، ثم ثانٍ وثالث، فبدأت أضحك أنا أيضًا. وكان هناك أستاذ البناء ينام في الإدارة، وكان تلميذ طويل وأعور يُبلّغ أي شيء يحدث إلى المسؤول، الذي هو السيد حسن الأستاذ.
قام ذلك التلميذ وأشعل الإنارة، ولم يرَ سواي أضحك، رغم أنه سمع أصواتهم. ذهب إلى الإدارة وأخبر الأستاذ، فأمر بحضوري، ومثلتُ أمامه، فأخذ يصرخ وضربني أربع ضربات بمسطرة من حديد.
فقلت له: "لو علمتُ أنني سأتعرّض للضرب في هذا المركز لما جئتُ أصلًا."
فقال لي: "إن لم يُعجبك الحال، عُد إلى بيتكم ونَمْ جنب أمّك."
قلت له: "هذا ما سأفعله الآن."
وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلًا. لم يأخذ كلامي بعين الاعتبار، لكني جمعت أشيائي وخرجتُ ليلًا، وكان الظلام دامسًا، والفصل فصل الربيع، وكان الجو باردًا. قصدتُ اتجاه خريبكة وسرتُ في طريقي، إلى أن سمعتُ أصواتًا تناديني باسمي، يحملون مصابيح مضيئة.
فعرفتُ أنه الأستاذ، وقد كان مدعورًا، ومعه الأعور وتلاميذ آخرون. رجعتُ معهم إلى المركز، لكن قبل أن أدخل إلى صالة النوم، دخلت الإدارة وتحدثتُ معه، وحذّرته من أن يضربني مرة أخرى أو يضرب أحدًا غيري في المدرسة. بعدها دخلت لأنام.
كنا نستيقظ في الساعة الخامسة والنصف صباحًا، ونبدأ بالحفر على جذور الأشجار ونقتلعها. كانت الأرض جرداء، وكل ما ترونه في الصورة كنا أول فوج بدأ بإصلاح الأرض وغرسها وبنائها وصباغتها. حفرنا قناة طولها 1000 متر لجلب الماء من الخزان الموجود في السوق القديم لبئر مزوي.
كان المدير السيد دالي محمد هو المسؤول عن المركز. كان يأتي بالأكل وصهريج ماء نفرغه يوميًا في خزان المركز. في بعض الأوقات كنا نبقى بدون ماء حتى للشرب، وأحيانًا بالجوع، نظرًا للأعمال الشاقة التي كنا نقوم بها. هناك، هرب 13 فردًا من تلاميذ القسم. كنا 40، فأصبحنا 27 فردًا.
كنا نأكل "جلبانة البقر" دائمًا، تبقى صلبة حتى بعد طبخها. نأكل العدس والفول المليء بالحشرات. كان المدير يسرق، ويُقدّم عدد 40 تلميذًا للمسؤولين، منهم بنشليح الذي كان المسؤول الأول.
مرت الأيام، وحان أوان الامتحان الأخير الشفوي. كُلّفت لجنة مختلطة من خريبكة والرباط، بعثتها وزارة الفلاحة للوقوف على هذه المهمة. وكان معنا تلميذ لم يدرس لا في المدرسة ولا في الإعدادية، واشترى شهادة مدرسية من الخواص ليقدّمها من أجل قبوله في المركز، فتم قبوله بدون امتحان أول، لأن أباه كان يشتغل "شاوشًا" لمدير المديرية الإقليمية للفلاحة بخريبكة.
نادوني لأدخل عند اللجنة، فدخلت، وبدأوا بطرح الأسئلة عليّ. كنت أجيبهم، وأتحسس أن ذلك التلميذ كان قريبًا من النافذة ويضحك. وحين هممتُ بالخروج، أمروني أن أناديه هو. دخل عندهم، وذهبتُ إلى قرب النافذة، وكنتُ أراه ويراني.
سألوه عدّة أسئلة، لكنه كان متعثّرًا، فبدأوا يطرحون عليه أسئلة جدّ سهلة ليجتاز ويمر، لأنه أحرجهم أمام اللجنة.
فسأله أحدهم: "ماذا تُعطينا البقرة؟"
فأجاب: "القرون والجلد واللبن و..."
ثم سأله آخر: "في أيّ يوم نحتفل بعيد الاستقلال؟"
فنَظر إليّ، وضحكت. وحين طال سكوته، قال له السائل: "في السنة الماضية احتفلنا بعيد الاستقلال!"
فأجاب: "نعم"، فسأله مرة أخرى قائلًا: "في أي يوم؟"
فأجاب: "لم أكن موجودًا بمدينة خريبكة السنة الماضية!"
فضحكوا جميعًا، وأمروه بالخروج.
حصل على 03/20 كتقييم عام لثلاث سنوات من الدراسة، وأنا حصلتُ على 11/20. لكنه اشتغل مباشرة في مديرية الفلاحة بخريبكة. وحتى اليوم، أنا أراهن بحياتي أنه إن طُلِب منه أن يأتي بجملة مفيدة فلن يفعل.
كنتُ أسافر سيرًا على الأقدام من بئر مزوي إلى خريبكة طيلة ثلاث سنوات. وفي الأخير، اشتغل أيضًا ذلك "الأعور" الذي كان يُوصل كل شيء للمسؤولين.
هذا هو حال بلدنا.
وفي سنة 1987 بدأتُ...
يتبع
في سنة 1983، تركتُ الدراسة من القسم الرابع إعدادي، والتحقتُ بمركز التأهيل الفلاحي ببئر مزوي قرب وادي زم. كنتُ داخليًا، أنام وآكل في المركز من يوم الاثنين إلى يوم الخميس، ثم نعود إلى بيوتنا.
في أول يوم لي، انطفأت الإنارة وهممنا بالنوم، فإذا بأحدهم يبدأ بالضحك، ثم ثانٍ وثالث، فبدأت أضحك أنا أيضًا. وكان هناك أستاذ البناء ينام في الإدارة، وكان تلميذ طويل وأعور يُبلّغ أي شيء يحدث إلى المسؤول، الذي هو السيد حسن الأستاذ.
قام ذلك التلميذ وأشعل الإنارة، ولم يرَ سواي أضحك، رغم أنه سمع أصواتهم. ذهب إلى الإدارة وأخبر الأستاذ، فأمر بحضوري، ومثلتُ أمامه، فأخذ يصرخ وضربني أربع ضربات بمسطرة من حديد.
فقلت له: "لو علمتُ أنني سأتعرّض للضرب في هذا المركز لما جئتُ أصلًا."
فقال لي: "إن لم يُعجبك الحال، عُد إلى بيتكم ونَمْ جنب أمّك."
قلت له: "هذا ما سأفعله الآن."
وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلًا. لم يأخذ كلامي بعين الاعتبار، لكني جمعت أشيائي وخرجتُ ليلًا، وكان الظلام دامسًا، والفصل فصل الربيع، وكان الجو باردًا. قصدتُ اتجاه خريبكة وسرتُ في طريقي، إلى أن سمعتُ أصواتًا تناديني باسمي، يحملون مصابيح مضيئة.
فعرفتُ أنه الأستاذ، وقد كان مدعورًا، ومعه الأعور وتلاميذ آخرون. رجعتُ معهم إلى المركز، لكن قبل أن أدخل إلى صالة النوم، دخلت الإدارة وتحدثتُ معه، وحذّرته من أن يضربني مرة أخرى أو يضرب أحدًا غيري في المدرسة. بعدها دخلت لأنام.
كنا نستيقظ في الساعة الخامسة والنصف صباحًا، ونبدأ بالحفر على جذور الأشجار ونقتلعها. كانت الأرض جرداء، وكل ما ترونه في الصورة كنا أول فوج بدأ بإصلاح الأرض وغرسها وبنائها وصباغتها. حفرنا قناة طولها 1000 متر لجلب الماء من الخزان الموجود في السوق القديم لبئر مزوي.
كان المدير السيد دالي محمد هو المسؤول عن المركز. كان يأتي بالأكل وصهريج ماء نفرغه يوميًا في خزان المركز. في بعض الأوقات كنا نبقى بدون ماء حتى للشرب، وأحيانًا بالجوع، نظرًا للأعمال الشاقة التي كنا نقوم بها. هناك، هرب 13 فردًا من تلاميذ القسم. كنا 40، فأصبحنا 27 فردًا.
كنا نأكل "جلبانة البقر" دائمًا، تبقى صلبة حتى بعد طبخها. نأكل العدس والفول المليء بالحشرات. كان المدير يسرق، ويُقدّم عدد 40 تلميذًا للمسؤولين، منهم بنشليح الذي كان المسؤول الأول.
مرت الأيام، وحان أوان الامتحان الأخير الشفوي. كُلّفت لجنة مختلطة من خريبكة والرباط، بعثتها وزارة الفلاحة للوقوف على هذه المهمة. وكان معنا تلميذ لم يدرس لا في المدرسة ولا في الإعدادية، واشترى شهادة مدرسية من الخواص ليقدّمها من أجل قبوله في المركز، فتم قبوله بدون امتحان أول، لأن أباه كان يشتغل "شاوشًا" لمدير المديرية الإقليمية للفلاحة بخريبكة.
نادوني لأدخل عند اللجنة، فدخلت، وبدأوا بطرح الأسئلة عليّ. كنت أجيبهم، وأتحسس أن ذلك التلميذ كان قريبًا من النافذة ويضحك. وحين هممتُ بالخروج، أمروني أن أناديه هو. دخل عندهم، وذهبتُ إلى قرب النافذة، وكنتُ أراه ويراني.
سألوه عدّة أسئلة، لكنه كان متعثّرًا، فبدأوا يطرحون عليه أسئلة جدّ سهلة ليجتاز ويمر، لأنه أحرجهم أمام اللجنة.
فسأله أحدهم: "ماذا تُعطينا البقرة؟"
فأجاب: "القرون والجلد واللبن و..."
ثم سأله آخر: "في أيّ يوم نحتفل بعيد الاستقلال؟"
فنَظر إليّ، وضحكت. وحين طال سكوته، قال له السائل: "في السنة الماضية احتفلنا بعيد الاستقلال!"
فأجاب: "نعم"، فسأله مرة أخرى قائلًا: "في أي يوم؟"
فأجاب: "لم أكن موجودًا بمدينة خريبكة السنة الماضية!"
فضحكوا جميعًا، وأمروه بالخروج.
حصل على 03/20 كتقييم عام لثلاث سنوات من الدراسة، وأنا حصلتُ على 11/20. لكنه اشتغل مباشرة في مديرية الفلاحة بخريبكة. وحتى اليوم، أنا أراهن بحياتي أنه إن طُلِب منه أن يأتي بجملة مفيدة فلن يفعل.
كنتُ أسافر سيرًا على الأقدام من بئر مزوي إلى خريبكة طيلة ثلاث سنوات. وفي الأخير، اشتغل أيضًا ذلك "الأعور" الذي كان يُوصل كل شيء للمسؤولين.
هذا هو حال بلدنا.
وفي سنة 1987 بدأتُ...
يتبع