المروءة والنخوة والرجولة بين سطوة الأمس وغياب اليوم

أين الذين كانوا إن دخلوا مجلسًا عظُم المجلس بهم لا بكلامهم?

كان الناس في ما مضى إذا ذُكرت المروءة والرجولة والنخوة، نظرت في وجوههم فوجدت النبل يسكن أعينهم، وسمعت في كلامهم صدقًا لا تزينه شعارات ولا تخفيه مناصب، بل كان الرجل إذا مشى بين قومه هابه الصغير واحترمه الكبير لا لسلطان أو مال، بل لأن سيرته كانت كافية لتجعله علَمًا. كانت النخوة عندهم تُقاس بالفعل لا بالكلام، فكانوا يغيثون الملهوف، ويقفون مع الضعيف، ويردّون غيبة الغائب، ولا يخذلون جارًا ولا يخونون عهدًا. كان أحدهم إذا رأى طفلًا ضائعًا في السوق التقطه كما يلتقط قلبه، وإذا رأى امرأة تئن من تعب شدّ على يديها، ولم يكن يحتاج إلى كاميرا توثق، ولا إلى من يصفق له على المنصات.
أما اليوم، فالمروءة أصبحت قصة تُروى، والنخوة مشهدًا في مسلسل قديم، والرجولة الحقيقية اختبأت في الزوايا المظلمة، خجلى من عالم يمدح الكذب ويصفق للجبن ويلبس الحق ثوب النفاق. تغيّرت الموازين حتى صار الذي يستحق أن يكون قدوة هو نفسه يبحث عن من يعلّمه معنى المروءة من جديد. أصبح الصغير لا يخجل من الكبير، والمسؤول لا يرفّ له جفن إن ظلم، ولا يُحرّك ساكنًا إن بكى طفل أو جاعت أرملة أو داس الغني على كرامة الفقير. أصبحنا نسمع عن مسؤولٍ يبني قصرًا فوق أنقاض المدارس، ويجلس على كرسيه كما لو كان عرشًا أبديًا، لا يعبأ بدمعة مكلوم، ولا يسأل عن معنى العدل الذي أقسم عليه حين تقلّد المنصب.
أين الذين كانوا إن دخلوا مجلسًا عظُم المجلس بهم لا بكلامهم؟ أين من كانوا يكرهون الظلم أكثر من كرههم للفقر؟ في الماضي كان الغني يفتخر إن أطعم الفقير دون أن يُشعره بالذل، واليوم يضع صورته على وجبة خيرية كي يراه الناس ويمتدحونه، لا لوجه الله، بل لوجه الدنيا. كان الرجل يُعرَف من مشيته، من صمته قبل كلامه، من وقوفه مع زوجته لا عليها، من حمايته لأخته لا فضحها، من صوته حين ينادي على والدته لا يرفع عليها صوته.
وكانت النساء في زمن المروءة يرفعن الرجال لا بالزينة ولا بالمال، بل لأنهن كنّ يعرفن قيمة الحياء، والصبر، والشهامة، واليوم ترى في بعض المجتمعات كيف فقدنا البوصلة، فلا الرجل رجل، ولا المرأة امرأة، بل اختلطت الأدوار، وضاعت المفاهيم، وصرنا نتنافس في من يرفع صوته أكثر، لا في من يصمت احترامًا، ولا في من يُؤثر غيره على نفسه.
نذكّر عمر بن الخطاب، الذي كان يسهر على حال الرعية، يحمل الطعام على كتفيه ليُطعم الجياع، وننظر اليوم إلى مسؤول يمرّ على شعبه مرور الكرام، كأنهم أرقام في سجلاته لا بشر، كأن أنينهم لا يصل إليه، أو كأن صوتهم لا يساوي قيمة هاتفه الذكي الذي يلتقط له صورة أثناء توقيع قرار ظالم.
نذكّر عليًا رضي الله عنه، الذي قال: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، واليوم ترى من جعل الفقر تجارة، يتربّح من آهات الناس، يفتح الجمعيات ظاهرًا للخير، وباطنها للصفقات، يوزّع البطاطين شتاء ويجمع الأصوات في الصيف، كأن الناس بضاعة وكأن كرامتهم شيء ثانوي يُعلّق على باب مكتبه.
أيها القارئ، ربما سرحت الآن في رجل من قريتك كان إذا مرّ في الطريق أوقف الصخب، رجلٌ لم يُرزق مالًا كثيرًا لكنه كان كبيرًا في العيون، وربما تذكرت موقفًا رأيت فيه شابا يركض خلف مسؤول لطلب دواء أو فرصة أو شهادة، فلم يلتفت له، لأن كفه منشغلة بتوقيع العقود وكأن الدنيا ستدوم
ربما تذكرت جدّك الذي كان لا يملك شهادة جامعية لكنه علّمك معنى الوقوف، أو تذكرت جارك الذي لم يكن يصلي في الصف الأول لكنه كان أول من يطرق بابك في المناسبات و الاعياد ليسلم عليك او يبارك لك. أولئك هم الذين كانوا يحملون الرجولة في قلوبهم لا في تصريحاتهم، وكانت نخوتهم لا تصرخ، بل تعمل، وكانت مروءتهم لا تتحدث، بل تُنجز.
نحن لا نحِنّ للماضي لمجرد الحنين، بل لأننا نرى قيمًا قد رحلت، ونسمع صدى رجالٍ كانوا حين يعدون يوفون، وحين يهددون لا يظلمون، كانوا أصحاب مروءة لا تصرخ في المؤتمرات، بل تتحدث بصمتها. ولو مرّ أحد أولئك اليوم، لظنه الناس غريبًا، ولربما سخر منه الإعلام، لأن زمنه انتهى، وبدأ زمن التلميع والتطبيل والبطولات الوهمية.
وإن سألتني: هل انتهت المروءة تمامًا؟ سأقول لا، لكنها تتوارى، تبحث عن مأوى في القلوب النظيفة، تختبئ عند رجل لم نسمع عنه، لكنه يسهر على أطفاله رغم فقره، يرد السلام على جاره رغم التعب، يقف خلف أمه في المستشفى لساعات ولا يطلب واسطة، هذا هو البطل، لا من يلبس ربطة عنق ويتحدث عن الوطن وهو ينهبه.
ربما يطول حديثنا، وربما يضيق قلبك كلما تذكرت من ماتوا وفي قلوبهم من الرجولة ما لم تحمله مؤسسات، لكن تذكّر أن الرجولة ليست وصفًا بدنيًا، بل موقف، وأن المروءة لا تحتاج إعلانًا، بل ضميرًا، وأن النخوة لا تُعلّق في صدر المكاتب، بل تسكن العروق، وأن الزمن وإن تغيّر، فإن الله لا يضيّع شيئًا، وكل شهامة مخفية لها يومٌ تُكافأ فيه.

تعليقات